- كاثرين تيرنر
- ترجمة: ساره عبدالله
- تحرير: محمد عبيدة
يتحدى التفكيك بطبيعته -وبشكل موثوق- ما يسمى بـ(institutionalization)، وهو إضفاء الطابع المؤسسي أو المأسسة. وقد حدد “دريدا” هذا المفهوم لأول مرة في كتابه: (Of Grammatology)؛ حيث استعرض فيه التفاعلَ بين اللغة وبناء المعنى. ومن الممكن أن نقدم تعريفًا أساسيًا لمفهوم التفكيك من خلال هذا العمل وغيره من الأعمال اللاحقة، التي سعى من خلالها “دريدا” شرح التفكيك للآخرين، خصوصًا من كتابه “خطاب لصديق ياباني” (Letter to a Japanese Friend). وقد برز من عمل دريدا ثلاث سمات رئيسية جعلت من التفكيك شيئًا ممكنًا؛ أولاً، الرغبة المتأصلة في أن يكون هناك مركز أو نقطة محورية لهيكل الفهم (مركزية اللوغوس ــ التمركز حول اللوغوس/اللغة logocentrism)[1]؛ وثانيًا، اختزال المعنى لوضع تعريفات ملتزمة بالكتابة (لا شيء خارج النص) وأخيرًا، كيف أن رد/اختزال المعنى للكتابة يجسد المعارضة داخل هذا المفهوم نفسه (الاختلاف ــ أو كما يسمى: مبدأ تعليق الحكم). وجدت هذه السمات الثلاث إمكانية التفكيك باعتبارها عملية مستمرة للتشكيك في الأساس المقبول للمعنى. ورغم أن المفهوم قد نشأ بدايةً في سياق اللغة، إلا أنه ينطبق أيضًا على دراسة القانون؛ فقد اعتبر دريدا التفكيك “إشكالية في أساس القانون والأخلاق والسياسة.”(١) وبالنسبة إليه، فقد كان “من المتوقع والمرغوب فيه أن تتوج دراسات الأسلوب التفكيكي بإشكالية القانون والعدالة.”(٢). إن التفكيك إذن هو وسيلة لاستجواب العلاقة بين الاثنين.
يؤكد دريدا على تميز الفلسفة الغربية الحديثة وابنبنائها حول الرغبة المتأصلة في وضع المعنى في مركز الوجود، متخذًا من هذا التأكيد نقطة انطلاق له؛ وما يعنيه هذا ببساطة هو أن الفلسفة مدفوعة بالرغبة في اليقين المرتبط بوجود حقيقة مطلقة أو معنى موضوعي، يجعل مكانتنا في العالم منطقية، ويصف دريدا هذه الرغبة بـ “مركزية اللوغوس”، وتأثيرها هو وضع مصطلح أو مفهوم معين -مثل العدالة- في مركز كل الجهود المبذولة للتنظير أو استجواب المعنى؛ فيصبح المصطلح جوهرَ بناء المعنى، والنقطةَ المرجعية التي تحدد كل المعارف اللاحقة. ويسلط دريدا الضوء على افتراض أن القول بمركزية اللوغوس يعني وجود معان ثابتة ومستقرة ينبغي اكتشافها، والطريقة التي يتم يُعَرف بها هذا المصطلح -التعريفات- هي الترجمة إلى كلمات لمفهوم أو طريقة تفكير. يصف “دريدا” هذا بأنه “ميتافيزيقيا الوجود”، أي الطريقة التي نقدم بها فكرنا.(٣) تمثل التعريفات الطبيعة، والتي تختلف عن الشكل المعتمد المتجسد في اللغة أو في النص؛ لذلك فإن فكرة الفصل الصارم لأصل المعنى (الفكرة المجردة للعدالة كمثال) أمر حاسم، وبها يُضفَى الطابع المؤسسي على هذا المعنى في “الكتابة” (أو القانون).
بالنسبة إلى دريدا، فمركزية اللوغوس وفكرة وجود المعنى في الخارج هما اللتان تتيحان إمكانية التفكيك. يدرس دريدا كيف أن “الأصل” الطبيعي للمعنى و”مأسسته” في الكتابة لا يمكن فصلهما بسهولة؛ فبدلاً من الطبيعة (العدالة) والمأسسة (القانون)، الموجودتان بشكل مستقل عن بعضهما البعض، يرى دريدا أن الطبيعة نفسها مبنية فقط بوجود المأسسة. لذا، فبدلاً من كون القانون تجسيدًا مباشرًا للعدالة، فإن كيفية فهمنا للعدالة والقانون يتحدد من خلال التفاعل بين الاثنين. وهذا رفض للفصل الصارم الذي يجعل البحث عن اليقين ممكنًا، أو لفكرة وجود العدالة كمعيار موضوعي سابق يجب اكتشافه. ومن خلال قراءة القانون من حيث هو انعكاس أو تجسيد للأصل الطبيعي للعدالة، فإن ما يتم تجاهله -أو إخفاؤه- هو جميع التفسيرات الأخرى الممكنة للعدالة، التي لم يتم تجسيدها أو تضمينها في القانون. وبهذه الطريقة، تحدد الكتابة الطبيعة، وأيضًا تعكسها.
تهتم فكرة التفكيك إذن بمعارضة فكرة الأصل المتعالي أو المرجع الطبيعي؛ فتدحض إمكان تجاوز المؤسسة من أجل اكتشاف شيء أبعدَ -أي وجود أصل مستقل-، وتشتهر هذه الفكرة بتغليفها في عبارة: “لا يوجد شيء خارج النص”(٤) ، التي غالبًا ما تُستخدم لتلخيص عمل دريدا. وبالنسبة إلى دريدا، فلا يوجد الأصل بشكل مستقل عن مؤسسته، ولكنه موجود فقط: “من خلال عمله ضمن تصنيف، وبالتالي ضمن نظام من الاختلافات…”(٥)؛ وبعباراته الخاصة، يسمي دريدا هذه الظاهرة بالاختلاف أو (différance)(٦) كما تشكل هذه الفكرة أساس التفكيك. والاختلاف هنا (différance) يشير إلى حقيقة أن المعنى لا يمكن اعتباره ثابتًا أو مستقرًا؛ ولكنه يتطور باستمرار، كما ينشأ من عملية التفاوض المستمرة بين المفاهيم المتنافسة… ويتطلب التفكيك استجواب هذه التفسيرات المتنافسة التي تتحد لإنتاج المعنى بدلاً من السعي وراء حقيقة الأصل الطبيعي. ويجسد فعل التأسيس -أو الكتابة- هذه المنافسة المستمرة بين التفسيرات المختلفة الممكنة للمعنى داخل المؤسسة؛ وبالتالي، فإن تأثير ترجمة الفكر إلى لغة هو إدراج الاختلاف في بنية المعنى، ويجسد في الوقت ذاته المعنى المطلوب كما يقصده المؤلف، والقيود المفروضة على هذا المعنى من خلال تفسير النص. وفي هذا الصدد، يتساوى تعريف المعنى من خلال ما يتم تضمينه في المؤسسة، وما هو غير موجود، فسيكون أحد المفاهيم هو المسيطر على الآخر في أي وقت، وبالتالي، سيستَبعد الآخر. ومع ذلك، بينما توحي فكرة الاستبعاد بغياب أي وجود لما هو مستبعد، فإن ما يتم تأسيسه يعتمد في وجوده على ما تم استبعاده؛ فالاثنان في علاقة هرمية يكون فيها أحدهما دائمًا مهيمنًا على الآخر، والمفهوم السائد هو الذي ينجح في إضفاء الشرعية على نفسه، من حيث هو انعكاس للنظام الطبيعي، ومن ثَمّ، الضغط على التفسيرات المتنافسة التي تظل محاصرة كأثر مستبعد ضمن المعنى السائد.
وضَّح دريدا في كتابه (Positions) كيف أن المهمة الأولى للتفكيك هي قلب التسلسل الهرمي، وهو الأمر الضروري لتسليط الضوء على “البنية التضاربية والتابعة للمواقف”(٧). تؤكد هذه البنية على هيمنة طريقة معينة للتفكير على غيرها، وتكذِّب فكرة المعنى الثابت، وتقلِب -وبالتالي تكشف عن- وجود فئات الفهم الثنائية والمزعزعة للاستقرار التي سبق تحديدها. لكن هذه ليست سوى المرحلة الأولى؛ حيث يؤكد دريدا أن طريقة البقاء في هذه المرحلة هي الاستمرار داخل الهيكل المعارض، الأمر الذي يسمح للتسلسل الهرمي بإعادة تأسيس نفسه. وإذا اقتصر التفكيك على الانعكاس (أو القلب) البسيط للثنائيات، فسيظل التحقيق محاصرًا “داخل المجال المغلق لهذه التعارضات/المواقف”؛(٨) والمقصود هنا أنه بدلاً من إجراء أي تغيير حقيقي في الظروف الهيكلية، فما يحدث هو ببساطة تبديل مواقف المسيطر والتابع، ما يسمح لنفس الظروف بالاستمرار. ومن الضروري وجود مرحلة ثانية لأجل تجاوز هذه الديناميكية، وكسر الهيكل نفسه، فهذه المرحلة هي المكان الذي يصبح فيه العنصر غير المحدد للتفكيك مرئيًا، بدلًا من تركه مع انعكاس (أو قلب) الثنائيات. ومن خلال قبول مظهر مختلف للمعنى الثابت، تتطلب المرحلة الثانية منا الخروج من المواقف/التناقضات والاستمرار في البحث عن معاني جديدة، لا من خلال تكرار الأفكار، ولكن من خلال تحليل كيفية تكوينها وكيفية صنع الحجج. في حديثه في طاولة فيلانوفا المستديرة (the Villanova Roundtable)، وصف دريدا هذا بأنه البحث عن “التوترات والتناقضات وعدم التجانس داخل المجموعة”(٩). يمكننا إذن منع الهياكل القائمة للهيمنة من إعادة تأكيد نفسها فقط من خلال هذا العنصر من التحليل والنقد والتفكيك اللانهائي.
لا تهتم التفكيكية في هذا السياق باكتشاف “الحقيقة” أو استخلاص الاستنتاجات الصحيحة، ولكنها بالأحرى مهتمة بعملية التساؤل والكشف عن نفسها، فهي عملية تتميز بعدم اليقين وعدم التحديد؛ ولهذا السبب، وضَّح دريدا أن التفكيك ليس “أسلوبًا أو منهجًا” ولا يمكن تحويله لذلك.(١٠). لا يمكن للمرء “تطبيق” التفكيكية لاختبار فرضية أو لدعم حجة، بل هي عملية استجواب مستمرة تتعلق ببنية المعنى نفسه. كما هو موضح في كتاب “Letter to a Japanese Friend”، فإن التفكيك بالنسبة لدريدا ليس تحليلًا ولا نقدًا، إذ لم يتم إنشاؤه لأجل هدف معين، وليس بحثًا عن “عنصر بسيط” أو “أصل غير قابل للذوبان”؛ ونتيجة كل ذلك، فقيمته ليست مرتبطة بأي نتائج لاحقة. وكما نوقش أعلاه، فلا توجد التفكيكية لتفكيك بنية واحدة واستبدالها بأخرى، ولكنها موجودة ببساطة للكشف عن المنطق الداخلي لتلك البنية حتى يتم فهمها بشكل أفضل، وقد أدى هذا إلى اتهام التفكيكية بأنها غير معنية بشكل كافٍ بمسائل العدالة والأخلاق. ومع ذلك، يبيِّن دريدا أنه على الرغم مما يظهر من عدميّة التفكيكية وفوضويتها، ورغم أن الدعوة أو النشاطية ليست من اهتماماتها الأولية؛ فهي لا ترفض الحاجة إلى القانون والمؤسسات، بل تسعى إلى العمل ضمن تلك الهياكل للكشف عن إمكانات جديدة. إنه –أي التفكيك- لا يتألف من تفكيك المؤسسات نفسها، بل “الهياكل داخل المؤسسات التي أصبحت جامدة للغاية، أو التي صارت عقائدية، أو التي تعمل كعقبة أمام البحث في المستقبل”.(١١)؛ فالتفكيك إذن قوة إيجابية تفتح الاحتمالات التي تم قمعها بحكم هيمنة طريقة معينة لتصور العدالة.
أخيرًا، فالتفكيك ليس فعلًا أو عملية؛ بل هو شيء يحدث ويشغل حيّزا في كل مكان. ولا يتطلب تداولًا أو وعيًا، بل إن إمكاناته موجودة داخل هياكلنا للمعنى. يهتم التفكيك باستكشاف وكشف المنطق الداخلي للأفكار والمعنى، كما يهتم بفتح هذه الهياكل والكشف عن الطريقة التي يتم بها بناء فهمنا للمفاهيم التأسيسية. التفكيك داخلي للمعنى نفسه، ولا يعتمد على أي عوامل خارجية؛ وما يشير إليه هذا هو أن إمكانية التفكيك موجودة داخل بنية المعنى نفسه -داخل بنية الاختلاف- وليست شيئًا يمكن العثور عليه وتطبيقه من الخارج. وهو أيضا يهتم بشكل أساسي بفهم الأفكار، لا بتطبيقها.
هدف التفكيكية إذن ليس تقديم الإجابات؛ فهي لا تسعى إلى إثبات حقيقة موضوعية، أو دعم أي مطالبة معينة للعدالة على حساب الآخر؛ ولهذا السبب، فالتفكيك نفسه غير محدد. أقَرَّ دريدا في مقاله (Force of Law) بأن التفكيكية “مستحيلة”؛ حيث لن يؤدي “حدوث” التفكيك إلى نتيجة محددة، ولن يكشف عن المعنى الحقيقي الوحيد للعدالة الذي يمكن تجسيده في القانون. بدلًا من هذا، يتطلب التفكيك أولاً وقبل كل شيء السعيَ الدؤوبَ لتحقيق المستحيل، وما يحدث ليس السعي وراء إجابة تشير إلى نهاية التحقيق، بل بالأحرى التساؤل المستمر الذي يبقي أذهاننا منفتحة على فكرة إمكانية وجود آراء أخرى، وفهم بديل لمعنى العدالة. عندما يُنظر إليها خلال هذه المصطلحات، فهي ليست منهجا أو أسلوبا، وإنما مجرد طريقة للقراءة والكتابة والتفكير والتمثيل. وبدلاً من البحث عن نقطة نهاية، أو نتيجة قوية، فإنه لا يمكن تمييز الوسيلة عن الغاية/النهاية؛ إذ إن عملية الاستجواب المستمرة هي الغاية في حد ذاتها. يتعلق الأمر إذن بالتفاوض على المستحيل وغير القابل للتقرير، وبذلك تبقى منفتحة على إمكانية تحقيق العدالة.
[1] -“مركزية اللوغوس” مصطلح صاغه الفيلسوف الألماني لودفيج كلاجس في أوائل القرن العشرين. ويشير إلى تقاليد العلوم والفلسفة الغربية التي تعتبر الكلمات واللغة تعبيرًا أساسيًا عن واقع خارجي. وفقًا لمركزية اللوغوس، فإن الكلمات هي خير تعبير عن المثال الأفلاطوني. -الإشراف
الهوامش
- Jacques Derrida, ‘Force of Law: The Mystical Foundation of Authority’ in Cornell et al (eds) Deconstruction and the Possibility of Justice (Routledge, 1992) 8.
- Force of Law 7.
- Jacques Derrida, Of Grammatology (Spivak trans.) (John Hopkins Press,1976) 49.
- Of Grammatology 158.
- Of Grammatology 109.
- Geoffrey Bennington and Jacques Derrida, Jacques Derrida (University of Chicago Press, 1993) 71.
- Jacques Derrida, Positions (The Athlone Press, 1981) 41.
- Positions 41.
- Jacques Derrida and John D Caputo, Deconstruction in a Nutshell: A Conversation with Jacques Derrida (Fordham, 1997) (referred to as the Villanova Roundtable).
- Jacques Derrida, ‘Letter to a Japanese Friend’ in Peggy Kamuf and Elizabeth G Rottenberg (eds) Psyche: Interventions of the Other Volume III (Stanford University Press, 2008).
- Villanova Roundtable 8.