- إسماعيل العبودي
- تحرير: بلال الخصاونة
بيانات الكتاب:- العنوان: نظرية الجدل الإسلامي: الاستعمال والقواعد الحجاجية في الإسلام الوسيط
- المؤلف: لاري بنجامين ميلر
- الناشر: سبرنغر
- تاريخ النشر: 2020
- عدد الصفحات: 143
مقدمة
في ظل ازدهار الدراسات الإسلامية في اللغات الغربية ظهر الاهتمام بالجدل الإسلامي وإن كان متأخراً عن غيره من العلوم الإسلامية نسبياً، فمن أوائل الدراسات الشاملة التي أنجزت في اللغات الغربية هي هذه الدراسة فقد أنجزت عام 1984، إلا أنه أنها لم تطبع إلا في عام 2020، وفي السنوات الأخيرة زاد الاهتمام بعلم الجدل الإسلامي، بل وأُنشأ ملتقى لدارسي علم الجدل الإسلامي،[1] ومن أهم ما صدر هي دراسة وولتر يونق،[2] وهو كتاب كبير قدم دراسة مهمة عن علم الجدل، و حقق فيه وترجم كتاب المختصر للشيرازي، وقدم يوسف صوفي رسالته للدكتوراه عن الشيرازي بعنوان “النقد التقي”[3] ثم ألف كتاباً مع المنطقي الكبير شهيد رحمان وتلميذه محمد اقبال بعنوان “الاستدلالات بالأدلة المتوازية في الفقه الإسلامي: أراء الشيرازي التكوين الجدلي للمعنى والمعرفة”[4] وهذا الكتاب قفزة في الدراسات المنطقية والجدلية الإسلامية، ما عمله هذا الكتاب هو أن وضع مبادئ علم الجدل الإسلامي في لب الجدل المنطقي والفلسفي الغربي المعاصر،[5] ويعمل الأن على مشروع مع آخرين على دراسة منطقية للقياس الأصولي، يرى محمد كارابيلا[6] ،تلميذ فؤاد سزكين وجوزيف فان أس، أن علم البحث والمناظرة المتأخر افترق عن علم الجدل المتقدم، فهدف الأول هو الوصول للحق، أما علم الجدل المتقدم فهدفه الانتصار كما يقول. وهناك رسالة مخصصة لأمام الحرمين الجويني[7]، وكتب عبدالصمد بلحاج مقدمة عن الجدل الإسلامي باللغة الفرنسية،[8] وهناك بحوث أخرى حول هذا الموضوع لوائل حلاق وخالد الرويهب وغيرهم.[9]
مراجعة الكتاب
أما كتاب ميلر فقدم له وولتر يونق مؤلف كتاب “الصياغة الجدلية” عن الجدل الإسلامي، كتاب ميلر من دون الفهارس مائة وستة وعشرون صفحة قسمه إلى خمسة فصول المقدمة ثم الجدل الكلامي بعد هذا الجدل الفلسفي، تلاه الجدل الأصولي، وختم بعلم البحث والمناظرة، ثم الخاتمة.
الفصل الأول: المقدمة
في المقدمة أعطى نظرة سريعة عن تطور الجدل عن العلماء المسلمين، بالرغم أنه كتب فصلاً عن الجدل الفلسفي إلا أن اهتمامه الرئيسي هو في الجدل الإسلامي (الذي نشأ أصالة عن علماء المسلمين)، وهذا ما ركز عليه في مقدمته، يقول أن أول من تكلم في الجدل وأسس له هو ابن الراوندي، فنشأتُ الجدل كلاميّة، ثم استعار الأصوليون هذا العلم، يقول ميلر أن الخطيب البغدادي وابن عبد البر أشارا إلى أنه هناك جدل ممدوح وجدل مذموم، إلا أن أول من ترك هذه القسمة هو فخر الدين الرازي، وفي هذه المرحلة دخل علم المنطق في علم الجدل، ونتيجة لهذا نشأ علم البحث والمناظرة.
الفصل الثاني: الجدل الكلامي
حاول المؤلف أن يعتمد في دراسته للجدل الكلامي على الكتب المتقدمة إلا أن أغلبها قد فقد مثل كتاب ابن الراوندي، ورد البلخي والأشعري والماتريدي عليه، إلا أنه في حالة ابن الراوندي يقول أنه رجع إلى كتاب عالم يهودي عاش قريباً من تلك الفترة هو ابن القرقساني فقد أشار إلى بعض آراء المسلمين في الجدل ويرى ميلر أنها أقرب ما تكون لابن الراوندي، وبناء على أن أغلب الكتب المتقدمة في عداد المفقودات رجع إلى كتب أُخَر مثل كتاب ابن حزم، والعالم الشيعي أبو الحسن الكاتب، واعتمد على كتاب ابن فورك، ورجع أيضاً إلى كتاب المقدسي البدء والتاريخ فقد ذكر فيه فصلاً عن الجدل.
أما أهم المواضيع التي تناقشها هذه الكتب فهي الجدل والنظر والحقيقة، والأسئلة والأجوبة، والمعارضة، ودلائل الانقطاع، وآداب الجدل.
في المبحث الأول ناقش ميلر الجدل والنظر والحقيقة من خلال إيراد بعض نصوص العلماء الذين ذكرهم في مقدمة المبحث، الجدل والنظر مترادفان، إلا أن الجدل يكون مع شخص آخر والنظر يكون مع الذات، يقول ميلر أن جميع العلماء الذين ذكرناهم يرون أن الجدل يوصل إلى الحقيقة، والجدل معتمد عند أتباع الأديان الأخرى وأنه طريق للحقيقة.
وفي مبحث الأسئلة الأجوبة ذكر المؤلف أسئلة ابن القرقساني والمقدسي واختلفوا في الأسئلة، وهي اختصاراً تسأل عن القول ودليله ووجه الدلالة منه، وفي مقطع صغير قارن بين جدل المسلمين وجدل الفلاسفة، فقال أن هدف جدل المسلمين الوصول إلى الحقيقة، وبالرغم أنها تفترض وجود معارض وتبتغي الانتصار إلا أن الانتصار ثانوي بالنسبة للوصول للحقيقة، وأن أسئلة الجدل تصلح للوصول للحقيقة مثل ما هي مناسبة للمناظرة، أما الفلاسفة فهدفهم هو عدم التناقض في الأقوال، ثم أطال المؤلف في المقارنة التفصيلية بين أسئلة أرسطو المنطقية والجدلية وأسئلة المسلمين الجدلية.
ناقش ميلر في مبحث مستقلٍّ: المعارضة، يرى المؤلف أن المعارضة لم تكن موضوعاً واضحاً ومطروقاً عند الجدليين المتقدمين مثل ابن الراوندي والأشعري؛ لأن أساس الجدل هي الأسئلة والأجوبة، والمعارضة هي طريقة قديمة في الجدل، ثم ذكر أنواع المعارضات معتمداً على المقدسي، 1- سؤال في مواجهة سؤال. 2- دعوى في مواجهة دعوى. 3- علة في مواجهة علة. 4- دليل في مواجهة دليل. المعارضة الأولى رفضها المقدسي أما الثانية كانت محل خلاف عند الجدليين، وفي النهاية دخلت المعارضة في أبواب الجدل بل أصبحت موضوعاً مهماً من أبوب الجدل.
أما في مبحث دلائل الانقطاع -انقطاع المناظر- جمع ميلر أحد عشر دليلاً على الانقطاع من مختلف مصادره في الفترة المبكرة من الجدل الكلامي منها السكوت وإنكار الضروريات والمناقضة والانتقال والاستطراد والعجز عن تصحيح العلة والجواب بمُحال والتخليط.
المبحث الأخير في فصل الجدل الكلامي عن آداب الجدل أشار إلى بعض الآداب التي ذكرها الجدليّون في تلك الفترة، منها: يجب على المجادل أن يسعى للوصول للحقيقة، بل والأشعري يفضل أن يصلي المجادل قبل أن يبدأ، ومنها الوقار، عدم الغضب، التأني، المقابلة بالوجه للمجادل وغيرها.
ختم ميلر هذا الفصل بقوله أن هناك نظام كامل وقواعد للجدل، فهاك أسئلة ودلائل انقطاع بل وآداب، وهناك أساس نظري سليم للعلم؛ وهذا يدل –كما يقول- أن هؤلاء الجدليين يعتمدون على كتاب واحد وهو كتاب ابن الراوندي المفقود.
الفصل الثالث: الجدل الفلسفي
اعتمد المؤلف في كتابة هذا الفصل على كتب الفارابي وابن سينا وابن رشد الحفيد، وقدم مقارنة بين فهمهم لجدل أرسطو وما قاله أرسطو فعلاً، أول المسائل التي ذكرها وهي تختلف في المذهبين أن أرسطو يصنف الجدل بوصفه “طريقة أو منهج”، أما الجدليون العرب فيصفونه “بالفن”، وأرسطو يصف المسائل محل الجدل بالمشاكل، والجدليون العرب يصفونها “بالوضع”.
وفي تعريف الجدل تابع ابن رشد طريقة الفارابي في تعريف الجدل وفارقهم ابن سينا، بالرغم من أنهم جميعاً يرون أن الجدل تبنٍّ لرأيٍ معيّن بصفته بديهة، إلا أن الفارابي وابن رشد يرون أن القياس الأرسطي هو الذي يُقبل في الجدل، في مقابل ابن سينا الذي يرى أنه يقبل كل حجة سواء القياس الأرسطي أو الاستقراء، علق ميلر على رأي ابن سينا أنه تغيير جدّي على نظرية أرسطو في الجدل.
فرّق أرسطو بين المجادل والمماري والمغالط، وتبعه الجدليون العرب في ذلك، وفرقوا بين القياس العلمي البرهاني الذي يوصل إلى العلم والقياس الجدلي، فالقياس الجدلي هو في النهاية للتمرين والتعليم وليس للوصول للحقيقة، ومن فوائد القياس الجدلي التي ذكروها مساعدته في الوصول إلى القياس البرهاني في حالة كان القياس البرهاني صعباً، وأيضاً يرون في القياس الجدلي طريقاً لتغيير سنن وآراء الناس المتبعة.
وللجدل فائدة أخرى وهي المشاركة والمعاونة في الفحص للوصول للقياس البرهاني، هذا رأي أرسطو واتبعه في ذلك الفارابي وابن رشد، أما ابن سينا فوضع مرتبة أخرى وهي المناظرة، ويقصد بها سعي المتناظرين للوصول من خلال الأسئلة والأجوبة إلى الرأي الصواب من رأييهما ليتبعه الآخر، وليس القصد منها الغلبة، ابن رشد يرى أن فائدة الجدل هو تعليم الجمهور للوصول إلى العلم الحقيقي الذي هو القياس البرهاني، ويرى ميلر أن ابن رشد يقصد بالجمهور الفقهاء والمتكلمين، وفي خاتمة المبحث جميع هؤلاء الفلاسفة يرون أن الموصل للحقيقة هو القياس البرهاني وليس الجدلي.
في مبحث مستقل ناقش ميلر الأسئلة الجدلية من جهتي الشكل والمحتوى، من القضايا الرئيسة التي ركز عليها الفلاسفة المسلمون هي التفريق بين القياس الجدلي والقياس البرهاني، وحُدّد نوعان من الأسئلة الجدليّة؛ أحدهما: تخييرٌ هل هو كذا أم كذا؟ أما الثاني: فهو سؤال تقريري أليس هذا كذا وكذا؟ فالأسئلة محددة والهدف منها إفحام المجيب، وليس للمجيب أن يسأل وليس له دور فاعل في الجدل، في المقابل المجيب في الجدل الكلامي مطلوب منه أن يقدم الأدلة على صحة رأيه، وللسائل أن يسقط أدلة المجيب، ففي الجدل الكلامي تفاعل، ليخلص المؤلف أن للفلاسفة هدف أساسي في نقاشهم للجدل وهو التفريق بين جدلهم الفلسفي وجدل المتكلمين.
أفرد ميلر ضمن هذا الفصل مبحثاً لقواعد الجدل عند الفلاسفة، بناء على طبيعة الجدل وبالذات الأسئلة والأجوبة، صاغ أرسطو قواعد الجدل أو آدابه، لاحظ ميلر أن أرسطو تعرض لآدب الجدل بطريقة غير مباشرة وتبعة في ذلك الفلاسفة المسلمون، فلم يتعرضوا له بشكل أساسي.
الفصل الرابع: الجدل الأصولي-الفقهي
هذا الفصل من أهم فصول الكتاب وأطولها، فيشتمل على أربعين بالمائة من الكتاب، قسّم ميلر الجدل الأصولي-الفقهي إلى ثلاث مراحل زمنية، المرحلة الأولى وهي تبدأ من بداية استعارة الجدل الكلامي إلى الجدل الأصولي، ثم المرحلة الثانية وعلامتها دخول المنطق في الجدل، أما المرحلة الأخيرة فهي انتقال الجدل من موضوعه الأصولي-الفقهي إلى البحث في جميع الحقائق.
المرحلة الأولى
أول من دون الجدل الأصولي-الفقهي هو أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه المعونة والمخلص، ثم تلامذته الباجي وابن عقيل الحنبلي، ومن نفس المرحلة إلا أنه من مدرسة أخرى إمام الحرمين الجويني، والجويني فصل في موضوع الجدل أكثر من المؤلفين الأخرين، الجدل عند هؤلاء المؤلفين عبارة عن أسئلة واجوبة، واستعاروا الأسئلة الخمسة من الجدل الكلامي مع بعض الاختلاف والتدقيق، يقول ميلر أن الباجي أسئلته محصورة بل ويرفض غير المحصورة خاصة في السؤالين الأوّلين هل لديك مذهب؟ وما هو مذهبك؟ أما الجويني فيعترف بالأسئلة المحصورة وغير المحصورة، إلا في السؤال الثالث ما هو دليلك؟ يفترق جدل الأصوليين عن جدل الكلاميين، فالأدلة عند الأصوليين هي النقل والعقل واستصحاب الحال، ثم ناقش بعض الأدلة الأصولية مثل القياس، ودلالات الألفاظ، ثم استطرد ليتحدث عن الأصوليين والفقهاء قبل إنشاء الجدل، وأشار إلى أن الشافعي كان لديه بعض الاهتمام بالجدل مع المخالفين، وأشار إلى ابن جرير الطبري وكتابه اختلاف الفقهاء، ثم قال أن نمط جدل هؤلاء الأصوليين والفقهاء ليس على نمط الجدل الممنهج الذي نشأ بعدهم؛ وذلك من أهداف المؤلفين النظريين في الجدل: تعليم أساليب الجدل الصحيح للمتجادلين في المسائل الفقهية والأصولية ووضع رسمٍ له يتفقون عليه.
أما السؤال الرابع وهو وجه الدلالة من الدليل فيقول ميلر أن هذا السؤال حور قليلاً في جدل الأصوليين مقارنة بجدل الكلاميين، فاقتصر في جدل الأصوليين على وجه القرآن والسنة، فيحق للسائل أن يسئل عن وجه الدلالة من الآية والحديث فقط وليس عن باقي الأدلة.
والسؤال الخامس هو عن الاعتراضات، وقد أخذ الأصوليون هذا السؤال من المتكلمين إلا أنهم أضافوا عليه وحسنوا منه، وذكر هؤلاء العلماء من أوجه الاعتراضات على اختلاف بينهم المطالبة، التصحيح، والاعتراض، والمعارضة، الممانعة، وفساد الوضع، عدم التأثير، والقلب ويسميه بعضهم الاشتراك في الدلالة، والمناقضة، والقول بالموجب، والفرق، وألمح الجويني إلى ترتيب هذه الاعتراضات وأول من ناقش الترتيب ووضع له قواعد هو الغزالي، ونقلها المؤلف عن الرازي.
وفي آخر المبحث عن هذه المرحلة علق ميلر على رأي هؤلاء العلماء في الانقطاع وأدب الجدل وقال أنهم في هذه المباحث متأثرون جداً بالجدل الكلامي، وفي كلا الموضعين يتفوق الجويني في نقاشه على البقية.
المرحلة الثانية
ومن علامات المرحلة الثانية من الجدل الأصولي-الفقهي دخول المنطق على مباحث الجدل، وفي بداية المبحث أورد كلام ابن خلدون أن هناك طريقتين في الجدل واحدة للبزدوي والأخرى لركن الدين الآمدي، ففهم المؤلف من كلمة (طريقة) أنها تسمية لمنهج الجدل الذي اتبعه هؤلاء العلماء في هذه المرحلة وليس بمعنى مذهب، ويرى ميلر أن هدف المؤلفين في هذه المرحلة ليس نقاش الجدل نظرياً كما هو في المرحلة السابقة، بل هدفها عمليٌّ وهو تدعيم قول المذهب الفقهي الذي يتبناه صاحب الكتاب، ولذلك رُتّبت هذه الكتب بناء على أبواب الفقه.
أهم ما يميز هذه المرحلة هو دخول المصطلحات المنطقية عليها، ويعيد المؤلف دخول المنطق لعلم الجدل إلى الغزالي بصفته أول من أدخل المنطق إلى العلوم الإسلامية، وأهم المصطلحات المنطقية التي أدخلها هؤلاء العلماء هو اللزوم، والتناقض، والدوران، والسبر والتقسيم، وبناء على ذلك اختلف تنظيم الجدل في هذه المرحلة عن المرحلة السابقة اختلافا نوعياً ففي هذه المرحلة لم تعد الأدلة الشرعية الأصولية تناقش ويجادل عليها، إنما أصبح موضع الجدل هل الدليل معين أم لا؟ وأصبح جدلهم شبيهاً بالجدل الكلامي المتمنطق، وعند البروي الشافعي لم يعد هناك الأسئلة الأربعة، ولم يعد الجدل أسئلة وأجوبة كم هو الحال في المرحلة الأولى، إنما أصبح مناظرة أي معاونة على النظر، ومع فخر الدين الرازي مال الجدل أكثر لمشابهة المنطق فأصبح منطقاً للتفكير بدلاً أن يكون طريقة للوصول للحقيقة.
المرحلة الثالثة
تعمق الأثر المنطقي في المرحلة الثالثة أكثر وانتقل علم الجدل من البحث في المسائل الأصولية إلى أن يكون بحثاً عن الحقيقة بشكل عام، وعلى يد برهان الدين النسفي في كتابه “المقدمة البرهانية” أو “فصول في علم الجدل” وقع هذا التحول، وللنسفي اهتمام منطقي فكتب حاشية على كتاب ابن سينا الإشارات والتنبيهات، وعلى يد تلميذه السمرقندي نشأ علم البحث والمناظرة.
قرأ ميلر كتاب النسفي قراءةً متأنية ليستخرج التحولات التي جرت في علم الجدل عند النسفي، أهم ملاحظة أن مصطلح الجدل اختفى كلياً فلم يرد في كتاب الفصول إطلاقاً واستبدل بمصطلح المناظرة، وقعّد للمناظرة فبمن تبدأ ومن يجيب، وتبع هذا تغيرٌ في معنى المعارضة وقبولها ودور المتناظرين في المناظرة، عرف النسفي المناظرة بعد عرضه لعدة تعريفات أنها “النظر من الجانبين، في النسبة بين الشيئين، إظهاراً للصواب”، علق ميلر على تعريف النسفي وركز على عبارة “الشيئين” فهذا مصطلح منطقي ذكره أرسطو في كتابه في الجدل، وهناك معنى مقابل في أصول الفقه وهو الحكم، وقس على ذلك بقية المصطلحات التي ذكرها النسفي في كتابه الفصول التي استخدم فيها المصطلحات المنطقية بدلاً من المصطلحات الأصولية، بل وفهمه لمعنى الدليل أصبح أقرب للمنطق الأرسطي منه لأصول الفقه، فيرى النسفي أن الاستدلال هو انتقال الذهن من الأثر إلى المؤثر والتعليل انتقال من المؤثر إلى الأثر، ومن الاختلافات التي حصلت في هذه المرحلة أن النسفي لم يكتب عن آداب المناظرة، والانقطاع، وأعاد صياغة الأسئلة الأربعة صياغة جديدة.
الفصل الخامس: آداب البحث والمناظرة
يرى المؤلف أن علم آداب البحث والمناظرة نتج عن المزج بين المنطق والفلسفة من جانب، وجدل الأصوليين والمتكلمين من جانب آخر، حصل هذا المزج ضمن نظرية المعرفة الأرسطية، أول من صنع هذا العلم بهذه الصفة هو شمس الدين محمد السمرقندي، بل وادعى السمرقندي أنه أول من أسس علم آداب البحث والمناظرة، وعرف عن السمرقندي أنه جمع بين العلوم الإسلامية وعلوم الأوائل من منطق وفلك وغيرها، وأيضاً درس على برهان الدين النسفي صاحب كتاب “الفصول في الجدل”.
للسمرقندي ثلاث كتب ذات علاقة بموضوعنا: الأول شرحه لبرهان النسفي، والثاني كتابه المنطقي قسطاس الأفكار في تحقيق الأسرار، والثالث: هو رسالة في آداب البحث والمناظرة، ناقش ميلر كتابيه القسطاس والرسالة مع إشارات إلى شرحه لكتاب النسفي.
في نقاشه لكتب السمرقندي “القسطاس” حاول ميلر كعادته أن يعيد بعض أفكار السمرقندي إلى أرسطو وأخرى إلى جدل الأصوليين والمتكلمين، إلا أن النقطة الأهم في هذا الباب هو مقارنته بين برهان الدين النسفي والسمرقندي، حيث يرى المؤلف أن المسائل الأصولية اختفت من رسالة السمرقندي وأصبح النقاش عن الدليل بشكل عام بغض النظر عن علاقته بأي علم من العلوم، من الإضافات المهمة التي قدمها السمرقندي على من سبقه سواء أرسطو أو جدل الأصوليين والمتكلمين هو شرحه التفصيلي لكيفية انتهاء الجدل فمن سبقه من الجدليين لم يوضح بشكل جلي متى تنتهي المناظرة، أما عند السمرقندي فهناك طريقة معينة لانتهاء المناظرة بالوصول للحق، وبعكس أرسطو يرى السمرقندي أن الجدل يدخل في جميع العلوم، وناقش ميلر آراء السمرقندي في كتابه القسطاس بتفصيل أوسع مع مقارنتها ببعض الأفكار المنطقية والحجاجية الغربية المعاصرة.
في المبحث الأخير من مبحث البحث المناظرة راجع ميلر رسالة السمرقندي آداب البحث وشرح أبوابها باختصار.
الفصل السادس: الخاتمة
بعد أن راجع المؤلف بعض أفكار الكتاب وركز على علم آداب البحث والمناظرة بصفته آخر نتيجة لتطور علم الجدل عند المسلمين، أشار ميلر إلى رأي جورج مقدسي في مقارنته بين جدل المسلمين وجدل المسيحيين المدرسي في القرون الوسطى وأن بينهما تشابهاً، يرى المؤلف أن رأي مقدسي غير دقيق، ويرى أن جدل المسلمين يماثله نظريات الجدل المعاصر أكثر من جدل المدرسيين المسيحيين.
الخاتمة
من أهم ميزات كتاب ميلر هي النظرة التاريخية في دراسة علم الجدل، والدقة في تقصي التحولات بين مراحل العلم، وبالرغم من صغر حجم الكتاب وأغلب الكتب التي أحال عليها كانت مخطوطات وبعضها ما يزال، إلا أن بحثه شامل لعلم الجدل، ومما زاد من أهمية كتاب ميلر نظرته المقارنة بأرسطو وإن كان يكثر من إعادة الأفكار إلى الأفكار الأرسطية، في المقابل بالرغم من قناعته بأن علم الجدل والمناظرة الإسلامي قريب جداً من علم الحجاج المعاصر إلا أنه لم يقدم مقارنة بين علم الجدل الإسلامي والحجاج المعاصر، وهناك نقطة مهمة لم يشر إليها وهي الردود والجدالات بين العلماء في قبول ورفض الجدل مثل رأي السمعاني، وقد يعذر في هذا لأن أغلب الكتب خلال كتابته لرسالته للدكتوراه مخطوطة.
وفي الضفة الأخرى في العالم العربي والإسلامي برز اهتمام كبير في علم المناظرة الإسلامي، ومن أوائل من اهتم بالمناظرة هو طه عبدالرحمن خاصة في كتابه “في أصول الحوار وتجديد علم الكلام”، وأصدر مجلة “المناظرة” لعدة أعداد في آخر القرن الماضي، إلا أن أهم كتاب صدر بالعربيّة في علم الجدل الإسلامي هو تلميذ طه، حمو النقاري وكتابه “منطق الكلام من منطق الجدل الفلسفي إلى المنطق الحجاجي الأصولي” وهو كتاب في المقارنة بين جدل الفلاسفة وجدل المتكلمين والأصوليين، ومع كثرة الكتب في علم المناظرة والحجاج إلا أن أغلب هذه الكتب تدرس المناظرة كجنس أدبي وليس أصولي وفلسفي، وهناك كتب أخرى تدرس الجدل كعلم إسلامي من دون نظرة تاريخية للعلم؛ ولذلك تكون ضعيفة في التحليل.
وفي نهاية هذه المراجعة أثار الكاتب عدة مواطن بحثية تحتاج إلى تقصٍّ، منها المقارنات بين المدارس المختلفة، دراسات أسباب التحولات خاصة في الجدالات الإسلامية الكلامية والأصولية، دراسة النقد الذي قدمه ابن تيمية في كتابه “تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل” على برهان الدين النسفي في كتابه “الفصول في علم الجدل” وهل يجري نقد ابن تيمية في هذا الموضوع علم آداب البحث والمناظرة بحكم أن السمرقندي تلميذ للنسفي وتأثر فيه، وأهم جانب هنا هو البحث وتجديد علم المناظرة في ظل التطور المنطقي المعاصر بشرط ألا تكون هذه الدراسات استلاباً للمنطق المعاصر بل استثمارٌ مع الإدراك للفوارق بين العلمين، وهذا يجرنا إلى البحث في الأساس العلمي والمقدمات المطوية في علم المناظرة، والتي ستكون خير معين تجاوز الوقوع في مصيدة المنطق المعاصر وفرضياته المطوية.
[2] Young, W. E. (2016). The dialectical forge: juridical disputation and the evolution of Islamic law. Springer.
[3] Soufi, Y. (2017). Pious Critique: Abū Ishāq al-Shīrāzī and the 11th Century Practice of Juristic Disputation (Munāzara) (Doctoral dissertation, University of Toronto (Canada)).
[4] Rahman, S., Iqbal, M., & Soufi, Y. (2020). Inferences by Parallel Reasoning in Islamic Jurisprudence: Al-Shīrāzī’s Insights into the Dialectical Constitution of Meaning and Knowledge. Springer..
[5] ترجم فصل من هذا الكتاب في عددين من مجلة المخاطبات – دراسة في الاستدلال الموازي في الفقه الاسلامي: المعنى المعرفي والجدلي في نسق قياس العلة لأبي اسحاق الشيرازي” مجلة المخاطبات، عدد 25 ،26، 2018
[6] Karabela, Mehmet (2011). The development of dialectic and argumentation theory in post-classical Islamic intellectual history. Dissertation, McGill University.
[7] Widigdo, M. S. A. (2016). Imām al-Haramayn al-Juwaynī on jadal: Juridical and theological dialectic in the fifth/eleventh century (Doctoral dissertation, Indiana University).
[8] Belhaj, A. (2010). Argumentation et dialectique en Islam: Formes et séquences de la munāzara. Presses Universitaires de Louvain-UCL.
[9] لمراجع شاملة للموضوع راجع ملتقى علم الجدل الإسلامي https://ssidd.org/secondary-studies/