التربية والتعليم

إرهاق أم إحباط؟

المعلمون وكابوس اللوائح

  • دوريس أ. سانتورو
  • ترجمة: إبراهيم جمال
  • مراجعة: مصطفى هندي
  • تحرير: ناريمان علاء الدين

يعاني كثير من المعلمين من الإحباط/تدهور المعنويات، وذلك بسبب وجود تحديات مستمرة تتعارض مع قيمهم المهنية.

عادة ما يستخدم لفظ “الإرهاق” عادة للتعبير عن سخط المعلمين من مهنتهم وما يتبع ذلك من تركهم للعمل، وتعني الكلمة أن المعلم قد ذهبت كل جهوده هباءً وفَقد كل دوافعه ولم يعد لديه شيء ليقدمه.

من الطبيعي أن يواجه المعلمون هذه الحالة، خاصة في بيئة تشكل ضغطا كبيرًا عليهم، وعلى مديري المدارس أن يدرسوا تلك الظاهرة بشكل جيد.

ولكن مع ذلك فإن الارهاق ليس الشكل الوحيد من أشكال عدم الرضا/السخط الذي يواجه المعلمين، فبعد دراسة قمت بها لمدة عشر سنوات، اكتشفت تحديا أكثر صعوبة من الإرهاق يواجه المعلمين: ألا وهو الإحباط، والذي يحدث عادة عندما يواجه المعلمون مشاكل مستمرة تقوّض قيمهم. والمعلمون الذين يمرون بتلك التجربة يعتقدون أن السياسة التي تتّبعها المدرسة تُشكّل ضررا عليهم وعلى الطلاب، كما أن جميع محاولاتهم لتغيير تلك السياسة باءت بالفشل.

الإحباط هو شكل أخلاقي من أشكال عدم الرضا المهني التي تحتاج مُعالجة أخلاقية لحلها؛ ومع أن هذه المشكلة تحدث لكثير من المعلمين، إلا أن أشكالها تختلف عند كل منهم، ولكن يبقى الرابط بينهم أنهم يعتقدون أنهم  يقومون بشيء خاطئ تحت مُسمى المهنة التي يحبونها.

صراع أخلاقي

المعلمون الذين يواجهون هذه المشكلة يمرون بمعضلات أخلاقية، وهذه المعضلات ليست من نوعية “ما هو التصرف الصحيح؟” بل من نوعية “أنا أعرف التصرف الصحيح، ولكن لا أستطيع القيام به”؛ وتصل هذه المشكلة إلى ذروتها عندما يظن المعلمون أنهم أَحبطوا توقعات أولياء الأمور الذين يتوقعون منهم عدم إيذاء الطلاب، ودعمهم وتدريسهم بطريقة صحيحة.

هذه المبادئ التي يرى المعلمون أن عليهم اتباعها ليست مبادئ حالمة أومثالية، وإنما هي مبادئ رُسّخت منذ أكثر خمسين عاما على يد عالم الاجتماع دانيال لورتي، وهي مبادئ من نوعية المبادئ التي يلتزم بها مُقدم الخدمة أمام العميل.

وحتى الآن، جمعت بعض المواقف التي تواجه المعلمين والتي يعتقدون فيها أنهم خالفوا تلك المبادئ:

  1. الفشل في تحقيق الرغبات التعليمية لدى التلاميذ بسبب الالتزام بالنص أوالمَرجِع المُقدّم لهم من المدرسة.
  2. اتباع سياسات المدرسة التي تهتم بالإنجازات الأكاديمية فقط، حتى لو كانت تتعارض مع احتياجات الطلاب النفسية.
  3. مشاهدة الطلاب وهم يشعرون بالخزي جرّاء درجاتهم وتقييماتهم المُتدنية دون مناقشتهم وإعطائهم حق المراجعة.
  4. الضغط عليهم من قِبَل المدرسة لمساواة بعض الطلاب الراسبين بالناجحين، وذلك كي تحافظ المدرسة على نسب النجاح أمام الجماهير.
  5. رفض القائمين على المدرسة لمبادرات ومقترحات المعلمين، وإنفاق مبالغ طائلة على فعاليات فاشلة مشكوك في جدواها.
  6. مراقبة الاستخدام المتزايد للبرامج التي يمكن الحصول على تراخيصها بسرعة، والتي تؤدي إلى تدهور التدريس وتنزع عنه طابع المهنية والاحترافية.

هذه التحديات تُشكّل عائقا كبيرًا على ممارسة المهنة. تُظهر الاستطلاعات “انخفاضًا حادًا” في مستوى الرضا الوظيفي لدى المعلمين منذ عام 2009، كما أظهرت أن هناك تيارًا من “اليأس” بشأن عملهم (MetLife، 2013؛ Office of Performance Evaluationations، 2013). كما وصف تقرير جالوب Gallup بعنوان “حالة مدارس أمريكا” (2014) التدريس بأنه “مذموم وغير مرغوب فيه”. وفي عام 2012 استند التقرير نفسه إلى أبحاث المتابعة اليومية، والتي كشفت أنه من المرجح أن عامة المعلمين لا يوافقون على أن آراءهم تُؤخذ بعين الاعتبار فيما يخص عملهم، وذلك مقارنة بـ 12 وظيفة أخرى؛ كما أظهر الاستطلاع أنه: في حين كانت نسبة المعلمين المتحمسين لوظائفهم في بداية مشوارهم المهني هي 100%، فإنه بحلول عام 2015 كانت النسبة 53% فقط (الاتحاد الأمريكي للمعلمين و Badass Association Association ، 2015).

وعلى الرغم من هذا الاستياء العميق بين المعلمين، إلا أن مديري المدارس مصممون على  محاولة عكس الواقع. ومع ذلك، فإن أقوى حججهم لا تكشف بشكل قاطع أن المشكلة تكمن في الإرهاق فقط. نحن نعلم أن المعلمين يعانون من عدم الرضا (Keigher ، 2010)، ولكن مثل الأطباء، يجب أن نكون حريصين على البحث عن المصدر الحقيقي للمشكلة من أجل معالجتها بشكل صحيح. يمكن أن يحدث الصداع بسبب أشياء كثيرة، بداية من نقص السوائل إلى الارتجاج، والعلاج يختلف بِحسب سبب المشكلة. وبالمثل، يحتاج مديرو المدارس إلى الوصول إلى السبب الحقيقي والأول لاستياء المعلمين وعدم رضاهم عن مهنتهم حتى يمكن تشخيصه ومعالجته بشكل صحيح.

إيجاد العلاج المناسب

إن الإرهاق ما هو إلا عرض واحد من أعراض عدم الرضا المهني، وهو الذي يُنبهنا إلى وجود مشكلة ما عند المعلمين؛ فنحن عندما نقول أن مُعلماً ما مصابٌ بالإرهاق، فنحن نشير إشارةً خفية إلى أن المشكلة فقط مع هذا المعلم “مشكلة فردية”، ونفترض أن المعلمين عندما يأتون إلى عملهم، فإنهم يحملون معهم ما يكفي من القيم والسمات الشخصية التي تحميهم من الإرهاق، ومنطق التعامل مع مشكلة الإرهاق بسيط، فهو يقترح أن المعلم إذا نفدت موارده الشخصية ولم يحصل على دعم كاف فإنه حتمًا سيُصاب بالإرهاق.

ولكن مُتطلبات مهنة التدريس أعمق من هذا؛ حيث يجب أن نفهم أنه بدون دعم داخلي وخارجي للمعلم فإن المعلمين لن يجدوا ما يقدموه للطلاب، والاقتراحات المتعلقة بعلاج مشكلة الإرهاق كلها تتمحور حول الاهتمام بالنفس والراحة ومحاولة تهدئة البال، ولكن كل هذه الأدوات ناجحة إذا كانت المشكلة فردية، والواقع أن مشكلة الإرهاق عند كثيرمن المدرسين هي بسبب الإحباط الذي يواجهونه، وهذه الحلول المقترحة تحاول حل المشكلة حلا داخليا كما لو كانت مشكلة ما بسبب التعب.
ولكن على النقيض فإن تشخيص الإحباط الذي يصيب المعلمين يصف المشكلة كصِراع قيمي نتيجة الاصطدام بسياسات المدرسة، وبسبب أن المدرسين يفهمون أنهم يواجهون صراعًا حقيقيًا بين رؤيتهم للتعليم الجيد وبين التدريس الذي يقومون به، وللأسف فإن الأمر لا يتوقف عند هذا بل إن مديري المدرسة قد يزيدون الطين بلةً عندما يتعاملون مع المشكلة بشكل خاطئ.

عندما يُفسد مديرو المدارس العمل الجيد

من الصعب تحديد نوع عدم الرضا الذي يمر به المعلم: هل هو الإرهاق أم الإحباط؟ حيث إن الإحباط في مراحله الأخيره له أعراض مشابهة جدا للإرهاق، فالمعلمون المصابون بالإحباط يشعرون بالاكتئاب والتعب الشديد والإعياء الجسدي.

ولكن يكمن الفرق في أن المعلمين المُصابين بالإحباط قادرون على القيام بعمل جيد جدا، وبكل المقاييس فهم معلمون ممتازون، ولكن الإحباط الذي يصيبهم هو بسبب أنهم غير قادرين على فعل ما يرونه صائبا، حيث يشعرون أنهم متورطون في إيذاء وتلويث شرف مهنتهم، وهذا يقودهم للشعور بالذنب والخزي، ويجعل العمل لا يُطاق.

وللعلم فكل المعلمين الذين قابلتهم ويعانون من مشكلة الإحباط= هم قادة في محيطهم وأماكنهم، وطُلب منهم قيادة عمليات التطوير المهني في مؤسساتهم، وكثير منهم لديه جوائز محلية، وكُرِّموا  أكثر من مرة، واختار الكثير منهم تقديم الخير لمجتمعاتهم؛ ولكن شيئا ما يسبب الصراع الداخلي لديهم.

على سبيل المثال، أجريت مقابلة مع ديانا -معلمة منذ 21 سنة- وكانت مصابة بالإحباط، حيث ترى أنه لا توجد طريقة لتقديم خدمة تدريس جيدة بسبب ما عاينته؛ تحكي لي أن أحد طلابها  وهي (مولي) في سنتها الرابعة كانت لا تعلم معنى كلمة ما في الامتحان، فطلبت منها إيضاح معنى الكلمة، ولكنها أجابتها بأنها لا تستطيع، لأن هذا مخالف لسياسات الامتحان، ومن ثم فقد تحطمت معنويات (مولي) وأثّر هذا عليها في باقي الامتحانات، بل إن والديّ مولي قد اتصلا بديانا لاحقا ليعتذرا لها عن سلوك مولي حيث كانا قلقين أن تصرف ابنتهم ربما يؤثر على عمل ديانا.

وقد أخبرتني ديانا بالآتي:

بصفتي معلمة فإن مهنتي هي إجابة أسئلة الأطفال، وكذلك عليّ أن أجعلهم يشعرون بالأمان، وأننا نهتم بهم لأنهم جزء من المجتمع، وعمرهم 9 سنوات، ولا بد أن هناك آباءٌ واثقون أن هناك معلمين يقومون برعايتهم بالطريقة الصحيحة. وفي الحقيقة فإن مولي كانت خائفة من أنها بشكل ما يمكن أن تتسبب في أذيتي، ولكن من وجهة نظري فإني كنت مخطئة تماما؛ فكيف أكون معلمتها ولا أستطيع أن أبيّن لها معنى كلمة لا تفهمها، كيف وقد أخبرونا في بداية تدريسنا أنه علينا أن نوفر الدعم للطلاب بالطريقة الصحيحة وأن نساعدهم على تجاوز الصعاب، وإذا اختبرتهم فعليك أن تتأكد أنه مناسب لهم، وأنهم قادرون على تجاوزه، وقد ظننت أنني الشخص الذي تخيلته معلمًا يساعد طلابه، ولكن بعد هذه النقطة فأنا لا أظن أنني هذا الشخص، بل إنني أشعر كما لو كنت وحشًا في الحقيقة.

ولم يقف الأمر عند هذا السوء، بل إن مديري ديانا لاحقا قاموا بإقصائها من المراقبة على الامتحانات وحولو الأمر لمسألة شخصية ووصفوا خوفها الزائد على التلاميذ بأنه أمر (غير مهني).

ولكن على العكس من تجربة ديانا فهناك معلمة أخرى تكلمت معها، وهي فينيسا -خبرة 14 سنة في مجال التدريس- وكانت خلال تلك السنين تمتلك علاقات عظيمة مع مدرائها حيث كان المدير يستمع باهتمام لمخاوفها بالرغم من أنهما لم يقابلا بعضهم كثيرا، وأحيانا كانت محادثاتهم تشتد بالخلافات، ومع ذلك كان هناك حجر أساس يتفقون عليه: وهو السؤال الأخلاقي “هل هذا الأمر جيد للصغار؟” ولذلك كانوا يتبادلون اهتمامات أخلاقية مكّنتهم من بناء علاقات راسخة أساسها الاحترام حتى لو اشتعلت الخلافات بينهم، ولكن للأسف أُصيبت فينيسا بالإحباط عندما اصطدمت بمديرة جديدة  تختلف معها في المبادئ حيث قامت المديرة الجديدة -التي ليس لها باع كبير في التدريس- بإقصاء فينيسا من المحاورات، ومن وجهة نظر فينيسا، فإن مديرتها قامت بالتعامل مع الأمر وكأنه مسألة شخصية بدلا من إخضاعه للوائح.

عندما يتجاهل قادة المدارس مخاوف المعلمين بخصوص عملهم، فإنهم بذلك يفقدون الفرصة للوقوف على أرضية مشتركة. تتطلب الاستجابة الناجحة للإحباط من قادة المدارس أن يهتموا بمخاوف المعلمين ودوافعهم الأخلاقية، وعندما يتساءل المعلمون بخصوص السياسات المُطبّقة فعلى المدراء أن يستجيبوا، وأن يحاولوا أن يجدوا طريقة ما للخروج بعمل جيد، وأن يُتيحوا الفرصة للمعلمين بأن يأخذوا خطوة جيدة وأن يقدموا الدعم اللازم والتشجيع الكافي للمعلمين.

قوة أخلاقية بين يديك 

دعونا نتخيل ما الذي كان سيحدث لو أن مديرة فينيسا الجديدة استمعت لها وحاولت أن تصغي لاهتماماتها، وما الذي كان سيحدث لو أن مديري ديانا نظروا إلى فعلها على أنه تصرف مهني بدلا من أن يصفوه بأنه تصرف غير مهني، وحتي لو كانت ديانا ومديروها ملزمين باتباع لوائح الولاية بخصوص الامتحانات، فإن بامكانهم التعاون جيدا من أجل مناقشة الطرق المحتملة لتقليل الضرر الواقع على الطلاب. وعلى كل، فإن مديري المدرسة الذين يهتمون برغبات المعلمين وبتطوير التدريس عليهم أن يضعوا معالجة الإحباط ضمن خططهم، والخطوة الأولى في ذلك العلاج هو تحديد مصدر ذلك الإحباط، والسبيل الوحيد إلى ذلك هي أن يستمعوا جيدا للمعلمين ويتجاوبوا مع مخاوفهم.

 تتضمن الاستجابة الجيدة للاهتمامات الاخلاقية للمعلمين الآتي:

  • تسهيل المناقشات بخصص طرق التدريس الجيدة.
  • دعوة المعلمين لتقديم اقتراحات بخصوص حلول للمشكلات أو تقديم تعديلات فيما يخص عملهم.
  • محاولة اكتشاف سبب إحباط المعلمين.
  • تقاسم المسؤولية عن القرارات الصعبة مع المعلمين (على سبيل المثال، نجاح أو رسوب الطلاب).
  • تجنب الاستبداد بالرأي.
  • إجراء مقابلات، وجمع البيانات عن سبب ترك المدرسين لعملهم.

وختاما فان الإحباط “عملية” وليس حدثا فرديا، ولمنع حدوث الإحباط فعلى المديرين أن يستمعوا باهتمام لمخاوف المعلمين، ومحاولة حلها، وكذلك عليهم أن يتفهموا الدوافع الأخلاقية لهم والتي دفعتهم بالأساس إلى هذه المهنة، وهذا يعني التعاون مع المعلمين ودعمهم لإنتاج عمل جيد يصبُّ في صالح الفصل والمدرسة والحي والمقاطعة والولاية.

المصدر
ascd

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى