- د. طلال العمري
- تحرير: غادة الزويد
يمكن القول ودون أدنى درجة من القلق أن الجرأة على الجهل هي موضة هذا العصر ولعل هذه الجرأة على الجهل ليست إلا تجليًا لعبودية المنهج التجريبي؛ فلا تجد أحدهم يتجرأ على الإدلاء برأيه سوى في تلك المواضيع التي لا يمكن الاستدلال عليها كمياً بأرقام ومعطيات معقدة تستغرق عمرا للإلمام بها.
تتدرج تلك الجهالة والجرأة على التفوه بالجهل من الحديث عن الدين، ولا تنتهي بالإفتاء في الأمراض النفسية، فلا تجد أحد مستعد أن يصبغ صيغة رومانسية على الصفار الذي حل به ويحيلها لمرض فقر الدم بل يهرول قلقَا نحو الطبيب، فوجود فقر الدم من عدمه مرتبط بمستويات الهيموجلوبين ومؤشرات بيولوجية آخرى يستحيل على من لم يمض سنوات في كلية الطب ويليها بضع سنوات بالتخصص بإطلاق حكم اكلينيكي بوجود فقر الدم ومسبباته فضلا عن علاجه.
بينما يمكن لأحدهم أن يطلق أحكام تتعلق بمرض الاكتئاب والأمراض النفسية الأخرى لسببين رئيسين: الأول يتعلق بطبيعة قائله، والثاني بطبيعة هذه الأمراض، فالمتفوه بهذا عادة لديه غرور معرفي، يعتقد أنه بمجرد حصوله على المعلومة وعلمه بالمصطلح، فإن هذا يعني أنه يملك المعرفة. فالحقيقة أن معرفة مصطلح الكآبة ومعرفة ان صاحبه يصاب بالضيق والملل لا يعني معرفة الاكتئاب، فضلا عن القدرة على تشخيصه ومعالجته وإبداء الرأي حوله، لكنها الجسارة على الجهل.
أما السبب الثاني فالحقيقة، أن الاكتئاب لا يوجد مؤشرات بيولوجية على وجوده من عدمه، فلا يمكن بواسطة تحليل للدم ولا بصورة للرنين المغناطيسي تحديد احتمالية أن يكون المرء مصابًا بالاكتئاب. نعم هناك مجموعة من التغيرات البنيوية في الدماغ مثل ضعف التجدد العصبي في منطقة الهايبوكمبس التي تترافق أحيانًا مع حدوث الاكتئاب، لكن هي الأخرى لازالت مجرد معطيات بدائية لم تدخل بعد حقل الممارسة الاكلينيكية على عكس مثلا قطعية اللطخة البيضاء التي تخبرك بوجود نزيف في الدماغ (مع احتمالية تفويتها 15% من النزيف الدماغي) أو الخواتم المشعة التي تخبرك بوجود ورم قيحي او سرطاني في الدماغ، لكن مع الأسف بالنسبة للاكتئاب وسواه من الأمراض النفسية لم يصل العلم في ذلك سوى للقليل، وما يتم الاعتماد عليه الآن في التشخيص نتيجة عشرات السنين من العمل البحثي والإكلينيكي هو محاولة لتحويل الأعراض الإكلينيكية إلى قيم كمية ووضع نظام رقمي ذي نقطة حرجة يمكن بعدها تشخيص المريض بالاكتئاب كما هو مذكور في الدليل التشخيصي للأمراض العقلية والنفسية، ومع ذلك فذات النظام لازال موضع جدل وتعديل بين المتخصصين ولكنه أفضل ما لدينا حتى الآن.
الجيد في الأمر أن المعهد الوطني للصحة النفسية الأمريكي وهو من أكبر الجهات الممولة للأبحاث في العالم أخذ يميل لتمويل الأبحاث التي تتخذ من معرفة الأساس البيولوجي للأمراض النفسي ومحاولة رصد المؤشرات الأحيائية (biological markers) كمستهدفات بحثية
ومن الملفت عجز العلم التجريبي كلما كانت الأمراض تقع داخل الجمجمة، فالأمراض النفسية لا زالت عصية على الفهم والأمراض العصبية العضوية التي تصيب الدماغ لا زالت هي الأخرى بعيدة عن الفهم وإن كان بدرجة أقل. ولعل أساس ذلك كله أننا لا زلنا نجهل هذا الدماغ وما نقوله حوله يختلط فيه العلم التجريبي بالمتيافزيقيا.
فإصابة الإنسان بمرض كالاكتئاب ينبع من عدة عوامل بيولوجية، كالاستعداد الوراثي أو الإصابة بالجلطات الدماغية أو بعض الأمراض العصبية، وأخرى اجتماعية كالوحدة، وخبرات الطفولة، ومالية مثل المعاناة من الفقر -الأرجح أن الثراء لا يعد عامل خطورة للإصابة بمرض الاكتئاب- ثم المصائب غير القابلة للاستدراك في الحياة، وهي في هذا كله عوامل خطورة ترفع احتمالية الإصابة بالاكتئاب ولا تعني حتمية الإصابة بالاكتئاب فقد تجد من لديه جميع العوامل ولا يصاب بالاكتئاب، ومن لديه عامل أو ليس لديه أي عامل على الإطلاق ويصاب بالاكتئاب. فلعل الإنسان وخلافا للموجودات الطبيعية الأخرى لا يخضع للحتمية البيولوجية، لا من حيث اصابته بالمرض ولا من حيث استجابته للعلاج أو عدم استجابته، وقد يعود ذلك لقصور أدوات المنهج التجريبي والتي لعلها نابعة من كون الإنسان ليس حيوانًا بالكامل.
ولعل من الملائم التساؤل عن سبب ارتفاع معدلات الإصابة بالاكتئاب وهو في أقصى درجاته قد يؤدي بالشخص للانتحار وفي أقل درجاته يمكن أن يجعل الجلد يلتصق بالأرض حتى يصبح النهوض صباحًا تعذيبًا لا يطاق. وقد يعود ارتفاع النسب لتحسن انظمة الرعاية الصحية وارتفاع المسح الاكتئابي من قبل أطباء العائلة وأطباء الطوارئ، وتساهل الأطباء في تشخيص المريض بالاكتئاب ووصف الأدوية النفسية. هذا من جهة أما من جهة آخرى فلعله يعود للتحطيم الممنهج من قبل النمط المادي للحياة للإنسان، وتعزيز عوامل الخطورة. ولعل الوحدة هي أرفع مثال على ذلك، فكم عدد المرات التي مرت على أحدنا فكرة في كتاب أو مقال أو وسائل التوصل الاجتماعي في تمجيد الأنانية وعدم التسامح مع الإخطاء وبدلا من الاعتراف بطبيعة العلاقة المركبة بين الناس وأن هناك تناسبًا طردياً بين الوقت الذي تمضيه مع أحدهم، واحتمالية الإساءة ونشوب الخلاف وأنه من طبيعتها أنها تتضمن قدراً من الاختلاف والأخطاء والإساءة والتوتر، وبدلا من استغلال حاجتنا في مواجهة كل هذا في تحسين مهاراتنا الاجتماعية وتعلم التسامح والتغافل ومحاولة إدارة الخلافات نميل لتمجيد الانسحاب من العلاقات وبترها. وهذا خلق جيشاَ من الأبناء الساخطين على أبائهم وأمهاتهم والزوجات اللاتي يتساءلن عن جدوى الإنجاب والكثير من الزيجات الفاشلة التي يعتمد أطرافها خلق حياة خاصة بكل منهما داخل الهاتف المتنقل ومع الأصدقاء بعيداً عن شريك أو شريكة العمر بدلاً من محاولة التفهم وحل الخلافات.
طبعا لا يمكن إغفال ساعات العمل الطويلة والتنافسية الشديدة في المدن المركزية وحصر معايير النجاح في المعايير المادية وإبراز البشر فوق المتوسطين في الإعلام والسوشيال ميديا واستمداد قيمة المرء لنفسه من عدد خانات حسابه البنكي أو قيمة الفتاة من عدد اللايكات التي تحصل عليها على صورها.
يضاف إليها ارتفاع نسبة الفقر وكثرة الاضطرابات في العالم وعدم إمكانية الوصول للرعاية الصحية لدى فئات من البشر وحالة عدم اليقين التي تصيب الإنسان في مواجهة هذا كله.
ثم عند النظر لطبيعة الأعراض لدى مرضى الاكتئاب فأكثرها تجليًا هو ما يعبر عنه علميًا بـ (anhedonia) ولا أعرف ترجمة دقيقة لها وهي ليست مرادفة للشعور السيئ تجاه الأشياء بل بالعجز عن الشعور تجاهها. فلعل مشكلة المكتئب مع الحياة هي شعوره بفراغها لا بقبحها.
يأتي بعد ذلك أعراض مثل اضطراب الوظائف الحيوية كالأكل والنوم والأفكار الانتحارية وممارسات ايذاء النفس. وهي في كلها تتمظهر على شكل عجزه عن الحفاظ على علاقاته واتخاذ القرارات والقيام بما يستلزم للحفاظ على وجوده ضمن النظام الاجتماعي والاقتصادي.
ولعل ما يجب أن يسبق معالجة الاكتئاب هو قيام كل فرد تجاه نفسه بعمل ما يلزم للوقاية من الاكتئاب ومنها الإيمان الذي يقلل من سخط الإنسان تجاه مصائب الحياة (مع الأخذ بالاعتبار الأخطاء المنهجية في الدراسات التي تربط بين التدين بأنواعه ودوره في تعزيز شعور المكتئب بالذنب) وتعزيز القيم العائلية ثم تعدد مصادر القيمة في حياته حتى لا تنهار حياته إن فقد وظيفته أو فشل في زواجه. أما معالجة الاكتئاب فتحتاج الى منهجية مركبة من العلاج الطبي الدوائي والعلاج النفسي السايكوثيربي وتعزيز القيم في حياة الإنسان ودعم العائلة والأصدقاء والاستعانة بالدين لقدرته على مساعدة الإنسان على التصالح مع أقداره في الدنيا وإعطاءه أمل بأن الله قادر على كل شيء وقادر على تبديل حاله ومكافأته بدار لا يمسه فيها نصب ولا يرعب فيها من انتهاء النعيم.
والأهم من هذا كله، توقف المجتمع عن التعامل مع الاكتئاب كشيء يمكن للجميع الخوض فيه وقد يكون من الأفضل لأصحاب التجارب الشخصية مع الملل أن يعزوه (للزهق) المحض بدلًا من إسدال صبغة نضالية على رغبتهم بتكسير ألعابهم. فأولئك الذين يصارعون مرض الاكتئاب منشغلون بحربهم مع الموت وفي معركة كهذه لا يمكن للإنسان أن يشعر بالملل.
اقرأ ايضاً: الآثار السامة لحديث النفس السلبي