عام

لو حكمتُ العالم

  • مايكل ساندل
  • ترجمة: محمد السعيد
  • تحرير: غادة الزويد

مدخل [كتبهُ المترجم]:

اشتُهِر مايكل ساندل (Michael Sandel) -أُستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفرد-بتقديمه لمساق العدالة، كما عُرِف عنه اهتمامه ودراسته لحالة السوق وانعكاسه على المجتمع والعلاقات الاجتماعية في ظلِّ سيادة الليبرالية الجديدة في عالمي الاقتصاد والسياسة. في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، حرَّرت الليبرالية الجديدة الفعل الاقتصادي من قبضة الدولة، لا ننسى في هذا الصدد تصريحات رونالد ريغان، رئيس الولايات المتحدة إبان تلك الفترة (1981-1989) ونظيرته البريطانية مارغريت ثاتشر (1979 -1990)؛ بأن الأسواق وليس الحكومات هي مفتاح الازدهار والحرية. ونرى في هذا التصريح إجلالًا وتعظيمًا، وتخويلًا مباشرًا للسوق للتحكُّم والتدخل والتصرف أنَّى وكيف يشاء. كيف يتحكُّم منطق وقيم السوق في الحياة الاجتماعية ويتدخلان في تقييم وتسليع ما لا يجب تقيمه أو تسليعه، يكتب ساندل عن هذه الفكرة تحديدًا المقال أدناه، ويضعنا أمام الواقع مباشرة من خلال مناقشته لحالة بيع وشراء الأعضاء البشرية في السوق الحرة. وفي هذا الإطار يتعرَّض لمناقشة بعض التساؤلات الجوهرية؛ هل يتحقَّق الخير العام للجميع في حال الوصول لأعلى درجات الكفاءة الاقتصادية، وهل عامل الكفاءة لوحده يكفي للحُكم على جودة وصلاحية السلعة للتداول والاستخدام، وما مدى حاجة السوق للمنطق والفكر الأخلاقي. ولم أشأ أن تكون الشروحات أو التعليقات على المقال -في المواضع التي تتطلب ذلك-أن تكون في الهامش، كي لا نُتعِب القارئ بالصعود والنزول لأسفل المقال ونقطع بذلك عليه خيط أفكاره، فقمت بوضعها بين قوسين.

نص المقال:  

لو حكمت العالم، سأعيد كتابة المناهج الدراسية لعلم الاقتصاد. قد يبدو هذا طموحًا صغيرًا لا يتوافق مع منصبي السيادي، لكنها في الواقع ستكون خطوة كبيرة نحو حياة مدنية أفضل، إذ اليوم كثيرًا ما نخلط بين التفكير المستند على منطق وقيم السوق وبين التفكير المستند على القيم والسلوكيات الأخلاقية. ولهذا، نُخطِئ في تصوُّر الكفاءة الاقتصادية على أنّها تُحدِّد الصالح أو الخير العام. (الكفاءة الاقتصادية: إيصال السلع إلى الأشخاص الذين لديهم أكبر قدر من الرغبة والقدرة على دفع ثمنها).

لنأخذ مثال السوق الحرة التي يجري فيها بيع وشراء الأعضاء البشرية، -الكِلى مثلًا- وفقًا لمنطق المناهج الدراسية الاقتصادية اليوم، يكون من الصعب رفض هذا النوع من النشاطات التجارية. إذا كان كلًا من بائع الكِلية ومشتريها قد اتفقا على السعر، فالمتوقع أن الصفقة ستجعل كِلا الطرفين في حالٍ أفضل ممّا كانا عليه؛ يحصل المشتري على عضو يحفظ له حياته، ويكسب البائع قدرًا كافيًا من المال يستحق ما ضحّى من أجله. والصفقة في هذه الحالة تتسم بالكفاءة الاقتصادية، حيث إن الكلية ذهبت للشخص الذي يقدِّرها بشدة.

لكن هذا المنطق مُعيب وخاطئ لسببين: أولاً، ما يبدو وكأنه تبادل حر طوعي بين البائع والمشتري قد لا يكون طوعيًا بالمعنى الحقيقي. لندقِّق النظر في الجانب العملي للأمر، من المرجّح أن يكون بائعو الكلى أشخاصًا فقراء، وبحاجة ماسة إلى المال لإطعام أسرهم أو تعليم أبنائهم. وفي مثل هذه الظروف، قد لا يكون خيار البيع نابعًا عن طواعيةٍ ورضى بالمعنى الحقيقي، وربما قد ألجأتهم ظروفهم البائسة والحالة اليائسة التي يعيشونها إلى اتخاذ خُطوةٍ كهذه. ­­

وعليه؛ قبل أن نحدِّد ما المرغوب فيه للتبادل والتداول في السوق، يتوجب علينا أن نُميِّز ونفرَّق بين الاختيار الحر والاختيار القسري. وهذا سؤالٌ معياري (أي يتعلق بالأخلاق والمنطق والقيم)، ومسألة في الفلسفة السياسية.

وبالعودة إلى خطأ وخلل المنطق الاقتصادي، يتعلق السبب الثاني بكيفية تقييم الأشياء الجيدة في الحياة. مثلًا، تعتبر الصفقة فعَّالة من الناحية الاقتصادية إذا أرضت نتيجتها كلا الطرفين، لكن هذا المنطق يتجاهل احتمال أن أحد الطرفين -أو كليهما- قد يُقدِّر الأشياء المتبادلة بطريقة خاطئة. قد يعترض المرء على بيع وشراء الكلى -حتى في الحالات التي لا يكون دافع البيع الفقر والظروف المعيشية الصعبة- على أساس أننا لا يجب أن نتعامل مع أجسادنا كأدوات للربح، أو كمجموعات من قطع الغيار حُجج مماثلة تظهر عند مناقشة الجانب الأخلاقي للبغاء. يحتجّ­ البعض أن عرض الجنس كسلعة للبيع أمرٌ مهين، حتى في الحالات التي يكون فيها الدافع للقيام بالأمر ­­غير مُحاط أو محفوف بالإكراه.

ليس هدفي إذا حكمتُ العالم حظر هذه الأنشطة والمعاملات التجارية، هدفي أكبر من ذلك؛ وهو تخفيف والحدّ من وطأة التفكير الاقتصادي على أذهان الناس وعلى تصوراتهم الأخلاقية والسياسية. لا يقتصر الأمر على المناهج الدراسية، لكن أيضاً في الحياة اليومية، فقد بات علم الاقتصاد يُقدِّم نفسه كعلم محايد للسلوك البشري وبشكل متزايد، نقبل طريقة التفكير هذه -أي بحيادية المنطق الاقتصادي في الحياة اليومية والتعاملات الاجتماعية- نقبلها ونطبقها على جميع أنواع السياسات

العامة والعلاقات الاجتماعية، بيد أن هذا المنطق وهذه النظرة الاقتصادية للعالم يؤديان إلى تآكل الحياة الديموقراطية، فهو يعمل على صناعة خطاب عام فقير وسياسة إدارية تكنوقراطية.

أما عن النهج الذي سأعمل به لتنقيح وتعديل المناهج الدراسية، فسيكون على النحو التالي: سأتخلى عن الادعاء القائل بأن علم الاقتصاد علمٌ قائمٌ بذاته وحياديّ القيمة، وسأعيد ربطه بأصوله في الفلسفة الأخلاقية والسياسية، لقد تصوَّر الاقتصاديون السياسيون الكلاسيكيون في القرنين الثامن والتاسع عشر -من آدم سميث إلى كارل ماركس وجون ستيورات مِل– لقد تصوروا الاقتصاد حقلًا فرعيًا من الفلسفة الأخلاقية والسياسية. أما في القرن العشرين، فقد ابُتِعد عن هذا التصوُّر، وبات الاقتصاد يُعرّف على أنَّه تخصّص مستقل، وراح يتطلع إلى صرامة العلوم الطبيعية.

الفكرة القائلة بأن الاقتصاد هو علمٌ محايد من حيث علاقته إلى القيمة الأخلاقية للسلوك البشري، فكرة بعيدة عن التصديق ولكنها تملك تأثيرًا كبيرًا. لنتأمَّل في ضوء ذلك الاستخدام المتزايد للحوافز النقدية لمعالجة المشكلات الاجتماعية. تقوم هيئة الخدمات الصحية الوطنية بتجربة ما أسماه البعض “الرشاوى الصحية”، وهي عبارة عن مكافآت نقدية تُقدَّم للأشخاص لفقدان الوزن أو الإقلاع عن التدخين أو الالتزام بتناول الأدوية الموصوفة لهم. وفي الولايات المتحدة، حاولت بعض المناطق التعليمية تحسين التحصيل الأكاديمي للطلاب ذوي المستوى المنخفض من خلال منحهم مكافآت نقدية مقابل تحصيلهم لدرجات عالية في الاختبار، أو على كلِّ كتاب يُتِمون قراءته، وبالمثل، تُقدِّم مؤسَّسة خيرية تعمل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للنساء المدمنات على المخدرات 200 جنيه إسترليني ليتم تعقيمهنَّ، أو لقبول استخدام أجهزة تحديد النسل طويلة المدى. (تحديد النسل: منع الحمل والولادة مطلقًا)

كحاكم للعالم لن ألغي بالضرورة هذه الأشكال من الممارسات، لكنني سأعملُ على طرح الحالات السابقة للنقاش العام.

لنتساءل، هل استخدام الحافز النقدي يؤدي إلى تقليل قيمة البضائع؟ أو أنّه يُفسد السلوكيات والمواقف غير التجارية والتي تستحق اهتمامًا وعناية! على سبيل المثال، إذا عرضنا على الأطفال قراءة الكتب مقابل الحصول على مكافآت نقدية، بفعلنا هذا هل نضيف ببساطة حافزًا إضافيًا لحوافز مسبقة قد تكون موجودة بالفعل (كحافز التعلُّم) وبهذا قد نخاطر بإفساد أو إقصاء جوهر حب التعلُّم، أم نُعلِّمهم أن القراءة عمل روتيني -أي من المفترض القيام به-.

إذا كانت قيم السوق تستبعد السلوكيات والقيم التي تستحق الاهتمام والعناية (كحب التعلّم لأجل التعلّم ذاته)، فيجب على المنطق السوقيّ أن يكون تَبَعًا للمنطق الأخلاقي، -أي أن يكون المنطق الأخلاقي هو الرئيس والحاكم على ­تقييم وتصنيف السلع والخدمات-. تفترض النماذج الاقتصادية القياسية أن الأسواق خاملة (لا فاعلية لها ولا تأثير) وبذلك لا تلوِّث أو تمس السلع والبضائع المتداولة، لكن إن كان بيع وشراء سلع معينة سيغيّر أو يحرّف جوهرها الأصيل، فلا يمكن عندها أن تستند الأسواق إلى اعتبارات الكفاءة الاقتصادية وحدها، يجب أن تستند أيضًا إلى منطق أخلاقي وقيمي يُحدِّد الكيفية التي يتم بها تقييم البضائع المعنية.
بجانب تنقيح وتعديل المناهج الدراسية، سأعمل على إصدار قرارٍ يحظر استخدام أحد أكثر المصطلحات التي ظهرت مؤخرًا وأصبحت شائعة الاستخدام بين السياسيين والمصرفيين ومديري الشركات ومحلّلي السياسات؛ تحفيز. إن حظر استخدام هذا الفعل قد يساعدنا في استعادة سبل أقدم وأقل اقتصادية خلال السعي إلى تحقيق الصالح (الخير) العام، كاستخدام منطق الإقناع والاستدلال والنقاشات المفتوحة.

المصدر
prospectmagazine

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى