- جان جاك لامبين & شانتال دي مورلوز
- ترجمة: زيد أولادزيان
باعتبارها دخلت القاموس المتداوَل للُّغة الفرنسيّة، فإنّ مُفردة التسويق (marketing) هي كلمة مشحونة، مُساءٌ استخدامُها، وكثيرا ما أُسيء فهمُها، ليس فقط من طرف المنتقِدين، ولكن أيضا من طرف بعض مُريديها. توجد عادةً ثلاثُ دلالات شعبيّة.
- التسويق، هو الإشهار، والترويج، والبيع تحت الضغط، بمعنى مجموع وسائلِ بيعٍ عُدوانيّة بشكل خاصّ، مُستخدَمة من أجل غزو أسواقٍ موجودة. في هذا المعنى الأول، شديد الميركنتيليّة، يُطبَّق التسويق بصورة رئيسيّة في الأسواق ذات الاستهلاك الواسع، وبصورة أقلَّ بكثير في القِطاعات الأرقى للمُنتجات عالية التكنولوجيا، للإدارة العامة، وللخدمات الاجتماعيّة والثقافية.
- التسويق، هو مجموع أدواتِ تحليل، وطرائق التنبُّؤ ودراسات السوق المُطبَّقَة بهدف تطوير مُقاربة استِباقيّة للحاجات وللطّلب. هذه الطرائق، المعقّدة عادةً، تُخصَّص للشركات الكُبرى لكنها غير مُتاحة للشرِكات الصُّغرى والمتوسِّطة. يتعلّق الأمر هنا عادةً بخطاب تجريديّ مصنوع من كلمات أمريكيّة، ذات التكلُفة الباهظة والقيمة العمليّة قليلة الوُضوح.
- التسويق، هو الفاسد الكبير، مُهندسُ مِعمار مجتمع الاستهلاك، أي نظامِ سوقٍ يكون فيه الأفراد موضوع استغلالٍ تجاريّ من طرف البائع. من أجل بيع المزيد دومًا، يتعيّن صُنع حاجاتٍ جديدة باستمرار. ينضاف إلى اغتراب الأفراد بوصفهم عُمّالا بفعل ربّ العمل اغترابُ الأفراد بوصفِهِم مُستهلِكين، بفعل البائع. كثيرا ما تَشي اللُّغة المُتداوَلَة بهذا التّحقير الضِّمني.
«إنها ضربةُ تسويق» للدّلالة على خديعة. «إنه تسويق محض» حين يُباع مُنتجان متطابقان بأثمنة مختلفة. «…لأغراضٍ (بِخِسّة) تسويقيّة» التي هي، أكثر منها ماليّة، في الحقيقة، في أغلب الحالات… «سيتوجّب علينا (اللُّجوء إلى) القيام بالتسويق» لتدارُك إصدارٍ فائِتٍ بمُنتَج جديد، مُعَدّ بشكل سيّء في الأصل. «إنها صفقة تسويقٍ رائعة» لِعملٍ مُربِحٍ غير متكرِّر.
هذه الرُّؤى النّمطيّة تُخفي حقيقة تسويقٍ أوسع بكثيرٍ حيث يجب رؤية منهجيّة التسويق الكاملة في ثلاث جوانب (انظر الجدول). عنصر النشاط (غزو الأسواق)، وعنصر التحليل (فهم الأسواق)، وعنصر الثقافة (فلسفةٌ للإدارة).
جدول – العناصر الثلاثة لمنهجيّة التسويق | |||
العناصر | التوجُّه | الأنشطة | الموقع في المنظمة |
النشاط | غزو الأسواق | تقنيات البيع | قسم المبيعات |
التحليل | فهم الأسواق | تقنيات التحليل واتّخاذ القرار | قسم التسويق أو الاستراتيجية |
الثقافة | فلسفة للإدارة | توجُّهات الفكر | الإدارة العامة |
الاتجاه الأكثر شيوعا هو اختزال منهجية التسويق في عنصر النشاط، أي في مجموع تقنيات للبيع (التسويق العملياتي)، والاستهانة ببُعد التحليل (التسويق الاستراتيجي) وإغفال الثقافة الثاوية خلف التسويق (التوجُّه-سوق). تتجلى ضمنيا في هذه الرؤية لدور التسويق فكرة القدرة الكلية للتسويق والإشهار. التي ستكون قادرة على جعل كل شيء مقبولا في السوق، بفضل إجراءات فعّالة للتواصل تتلخص في التعريف والتعزيز، والمُعَدَّة بمعزل عن كل اهتمامٍ بتلبية الحاجات الحقيقية للمُشتَرين.
أسطورة القدرة المطلقة للتسويق هذه إشاعة متواصِلة، على الرغم من واقع أن الأدلة على النقيض كثيرة، على سبيل المثال المؤشرات المرتفعة للغاية لفشل العلامات التجارية والمنتجات الجديدة بحقّ، تشهد على قدرة السوق على مقاومة محاولات المنتجين للإغواء. على هذا النّحو جَلَبَت إرنست & يونغ/نيلسون معدّل فشل أكبر من 40% بالنسبة لمنتجات جديدة حقّا (1999) وسجّلت روبرت كوبر معدّل فشل مماثل بلغ 44% (2007).
مبادئ سيادة الزبون
الواقع أن سوء الفهم عميق والنظرية الكامنة وراء منهجية التسويق مختلفة كليّا. الأيديولوجيا الكامنة خلف هذه المنهجية تعتمد في الحقيقة على نظرية الاختيارات الفردية القائمة على مبدأ سيادة الزبون. فكرة ليست جديدة، بعيدة عن هذا الوضع، قد سبق التعبير عنها من طرف الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس في تأمُّلاته حول الفلسفة الرِّواقيّة:
»بخدمتنا للآخرين، فإننا نخدم أنفُسنا.»
أو أيضا المبادئ التي أعلنها آدم سميث (1776):
»الرفاه الاجتماعي لا يتوقف في نهاية المطاف على المقاصد الإيثاريّة، ولكنه نتيجة أكثر للتضافُر، عبر التبادُل الطّوعي والتّنافُسيّ، للدّوافع الجَشِعة للمُنتِجين والمستهلكين.»
انطلاقا من مبدأ أن مُتابعة المصلحة الشخصية هو نُزوع راسخ عند أغلب البشر – ما يمكن أن نستنكره من الناحية الأخلاقية لكنه يبقى حقيقة – يقترح آدم سميث ترْكَ الناس ليكونوا على حقيقتهم، ولكنْ تطويرَ نظامٍ يكفُل بأن يُساهِم الأفرادُ المتمركزون على ذاتهم، دون قصد منهم، في الصّالح العامّ. هذا النظام هو إذن نظامُ التبادُل التنافُسيّ والطّوعيّ الذي تُديرُه اليد الخفيّة، وهي المُتابعة الأنانيّة للمصالح الشخصيّة التي تخدِم في نهاية المطاف المصلحة العامّة.
في الاقتصادات الحديثة، هذا المبدأ الأساسي تمّ، بالتأكيد، تصحيحُه باعتباراتٍ اجتماعيّة ومُجتمعيّة (آثار خارجيّة، تفضيلات جماعيّة، تضامُن اجتماعيّ، الدولة-الحَكَم …)، ولكنه يظَلُّ مع ذلك المبدأ القائد الذي يوجِّه النشاط الاقتصادي لكل شركة تنشط في سوقٍ حُرّ المنافسة.
علاوة على ذلك، أصبح واضحا أكثر من أي وقت مضى بأن الدُّول التي جحدت أفكار آدم سميث قد اكتشفت على تكلُفتها أنها تراجعت على المستوى الاقتصادي. تشهد على ذلك مِحَن أوربا الشرقية والتجديد الاقتصاديّ للدُّول التي اتّخذت بعزمٍ خيار اقتصاد السوق.
أُسُس اقتصاد السّوق
في أصل اقتصاد السوق، نعثُر إذن على ثلاث أفكار مركزيّة، بريئة في ظاهرها، ولكنها مُثقَلَة بتبِعات على مستوى فلسفة منظور الأسواق.
- الحرية الفردية: مثلما أنّ ما يبحث عنه الأفراد هو تجارب مُجزية بالنسبة لهم؛ فإن متابعة مصلحة شخصيّة هو ما يحفّزهم للإنتاج والعمل. هذا البحث هو محرّك النمُوّ، والتطوُّر الشخصيّ، ويحدّد، في نهاية المطاف، الصالح العامّ. بالإضافة إلى ذلك، ما هو مُجزٍ يَمتَح من الاختيارات الفردية، التي تختلف بحسب الأذواق، والثقافات، ونُظُم القيم، إلخ. رهنا باحترام القواعد الإيتيقية، والأخلاقيّة، والاجتماعيّة التي يتحمّلُها مجتمع ما، يجب ألّا يصدُر أيُّ حُكم بشأن قيمة أو تفاهة الاختيارات أو بشأن ما يُمكن اعتباره حاجاتٍ حقيقيّة أو زائفة. النظام تعدُّديّ وقائم على احترام تنوُّع الأذواق والتفضيلات (فريدمان، 1980).
- التنافُسيّة الطّوعيّة: عبر التبادُل الطّوعيّ والتّنافُسيّ يحقّق الأفراد والمنظّمات التي تتوجّه إليهم أهدافَهُم على الوجه الأنسَب. إذا كان التبادُل طوعيّا، لن يتم حقا إلا إذا كان إطار التبادُل مولِّداً لقِيَم بالنسبة لكِلا الطّرفَين صاحِبَي المصالح؛ إذا كان التبادُل تنافُسيّا، فإن مخاطر إساءة استخدام قوة السّوق من قِبَل المُنتِجين ستكون محدودة.
- المسؤولية المُجتمعيّة: إذا كان الأساس الأخلاقي للنّظام يتمثّل في الاعتراف بحقيقة أنّ الأفراد مسؤولون عن أفعالِهم وبارعين في معظم الأحيان في تقرير ما هو جيّد وسيّء بالنسبة لهم، فإنّ هذا ليس بالضرورة ضامِنًا للرّفاه المُجتمعيّ. من أجل تقييم الأثر الكامل لصفقة ما، لا يزال ينبغي أخذ النتائج الخارجيّة على جميع الأطراف المعنيّة في الاعتبار: الآثار الخارجيّة.
انحرافات اقتصاد السوق
هكذا هي إذن الأيديولوجيا وراء منهجية التسويق. يُتصوَّر أن الفجوة يمكن أن تكون واسعة بين ما تدّعي فلسفة التسيير هذه أنها تَكُونُه في النّظريّة، وبين ما تُمارِسُه في الحقيقة. الغَلَطات حاضرة في ذهن كل أحد. في الواقع، النظام الاقتصادي الليبرالي لم يُصمَّم طبيعيّا لأجل تجنُّب ثلاث اختِلالات وظيفيّة مع أنّها قابلة للتنبُّؤ:
- غَلَبَة المدى القصير على المدى البعيد: من الواضح أنّ عددًا من القرارات السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة غيرُ عقلانيّة بمعيار المُدّة، ولكنها تبدو مُثلى على المدى القصير في أعيُن مُتّخِذي القرار. في الواقع، لماذا تتّخِذ شركة خاضعة لمراقبة فصليّة لنتائجها الماليّة قراراتِ استثمارٍ بعيدة المدى؟ لماذا يُخاطِر سياسيّ خاضع لانتخاباتٍ كل أربع سنوات باتّخاذ خيارات مجتمعيّة بالنسبة للجيل القادم؟ كيف يمكن لموظَّفٍ بعَقدٍ مُحدَّد المُدّة أن يوليَ اهتمامَه للرُّؤية الاستراتيجيّة لمهنته؟ هكذا نلاحِظ أنّه، بالرّغم من أنّ تعاقُبًا لقراراتٍ مُثلى على المدى القصير لا يُحقِّق بالضرورة تعظيمًا [=تحقيق استفادة مُثلى] على المدى الطويل، فإنها هي التي تفرض نفسها في الليبرالية الحاليّة.
- غَلَبَة المصالح الفرديّة على مصلحةٍ جماعيّة: الأيديولوجيا الليبراليّة تفترِض بأنّ مُحصِّلة قراراتٍ فرديّة مُثلى يُولِّد تقدُّمًا جماعيّا. يُظهِر واقع القرن 21 للأسف كثيرًا من الأمثلة المُضادّة لهذا المبدأ. على سبيل المثال، متلازمة نيمبي (NIMBY) (« not in my back yard ») هي صورة صارخة للمصلحة الفرديّة التي لا تتّفق مع المصلحة الجماعيّة.
- دكتاتوريّة القدرة الشرائية: فهي تعزّز خلق المُنتَجات الشعبيّة، بكل تأكيد، لكنها ليست بالضرورة حامِلةً لتقدُّم المجتمع. هكذا تكون سلطة الجمهور قد برهنت عن آثارها السلبية على تدهوُر العُروض التلفزيّة. ونتيجةً لذلك، فالأفراد الذين لا ينتمون إلى سوقٍ مُحتَمَلَة مُهمّة لديهم إلى حدٍّ كبير حظٌّ أقلُّ في أن يرَوْا حاجاتِهم أُخِذت بعين الاعتبار، بغضّ النظر عن القيمة الاجتماعيّة أو الإنسانيّة لطلَبِهم. هذا يولِّد، على سبيل المثال، مأساة الأمراض اليتيمة، وهي هذه الأمراض القليلة للغاية – وبالتالي قليلة الرِّبح للغاية – بحيث لا تقبل الصناعة الصيدلانيّة أن تُكرِّس لها استثماراتِ بحثٍ ضروريّة لاكتشاف علاجٍ، وإن كان ذلك مُمكِنا من الناحية التقنيّة.
يكشِف صعود الحركات البديلة بشكل رائج مثل البيئة، والأخلاق، والمسؤوليّة المجتمعيّة للشركات جيّدا عن تطلُّعٍ إلى تصحيح هذه الانحرافات. ولكنّ التحدّيات التي تواجِهُها لتعميم نفسِها تُبيِّن في نفس الوقت تعقيد المُهِمَّة، في مواجهة قوّة المصالح الفرديّة وقصيرة المدى، التي لا تزال تشكِّل أساس اقتصاد السُّوق.
وتبقى حقيقة أن نظامَ تفكيرٍ مُوجَّهٍ نحو السُّوق هو المَثَلُ الأعلى للإدارة لتسعى إليه الشركة جيّدة الأداء. قد تكون عبارة عن خرافة، ولكنها خُرافة مُوجِّهَة يجب أن تُرشِد باستمرار أعمال الشركة.
التسويق، عامِل للديمقراطية الاقتصادية
التسويق، وبشكل خاصّ التسويقُ الاستراتيجي، له إذن دور اقتصاديّ مُهِمّ ليَلعَبَه في اقتصاد السوق ذلك أنّه يُحدِث حَلَقَةً مُثمِرةً للتّنمية الاقتصاديّة. خطوات عمليّة التّنمية هذه هي الآتية (انظر الصورة).
- التسويق الاستراتيجيّ يعيّن الحاجات غير المُلَبَّاة أو المُلبّاة بشكلٍ سيّء، ويطوِّر مُنتجات جديدة مُلائِمة لهذه الانتظارات.
- التسويق العمليّاتيّ يضع خطّة عملِ تسويقٍ تخلُق وتُطوِّر الطلب على هذه المنتجات الجديدة.
- هذا الطلب المُتزايِد يولِّد انخفاضات في التّكاليف، والتي تُتيح انخفاضاتٍ في الأثمنة، والتي بفضلها تدخُل مجموعات جديدة من الزبائن إلى السوق.
- هذا التوسُّع يُحفِّز استثمارات جديدة تولِّد وُفورات الحجم وتُتيح تطوير منتجات مُحسَّنة أو جديدة.
التسويق هو عامِل في الديمقراطية الاقتصادية أساسا لأنّه يضَع نظامًا: (أ) يُعطي الكلمة للزُّبناء، (ب) يوجِّه الاستثمارات والإنتاج وفق الحاجات المُستشعَرَة، (ج) يحترِم تنوُّع الحاجات عبر تقسيم الأسواق، (د) يشجِّع الابتكار وأنشطة تنظيم المشاريع. وكما سبقت الإشارة لهذا أعلاه، فإن الواقع ليس مُتَّسِقًا دائما مع النظريّة، وتفعيل منهجيّة التسويق في الشركات لم يتِمّ إلا تدريجيّا.
مؤطَّر: مدحٌ للميركنتيلية «ها أنا من جديد أتذكّر بؤس وحدتي! بالنسبة لي، الزرع جيّد، الجني جيّد. ولكن الإشكال يبدأ حين أطحن الحبوب وأخبز العجين، لأنني حينئذٍ أعملُ لنفسي بمُفردي؛ يمكن لمُستوطِن أمريكي أن يُواصِل بدون تأنيب ضميرٍ عمليّةَ صُنعِ الخبز حتّى نهايتها، لأنّه سيَبيع خُبزه، والمال الذي سيحشُرُه في خزينته سيكون خاصًّا بالوقت والعمل المتراكِمَين. بالنسبة لي، لسوء الحظ، فإن وحْدَتي البائسة تحرِمُني منافع المال الذي لا أفتقِدُه مع ذلك! أقيس اليوم حماقة وخِسَّة هؤلاء الذين يذُمُّون هذه المؤسّسة الإلهيّة: المال! المال يُضفي الطابع الرُّوحي على كل ما يصِل إليه بأن يمنحه بُعدًا في نفس الوقت عقلانيّا، وقابِلا للقياس، وعالميّا، بما أنّ سلعةً مُحوَّلَة إلى نَقدٍ تُصبِح مُتاحَة افتراضيّا لكُلّ الناس. إنّ الجشَع هو فضيلة أساسيّة؛ الرجل الجشِع يعرِف كيفيّة إسكات غرائزه المُهلِكة والمُعادية للمجتمع – مشاعر الشرف، وحب الذات، والوطنيّة، والطُّموح السياسيّ، والتعصُّب الديني، والعنصُريّة – حتّى لا يَدَع الحديث إلّا لنُزوعِه إلى التعاوُن، ورغبتِه في التبادُلات المُثمِرة، وحِسِّه للتّضامُن الإنسانيّ. ينبغي أن نأخُذ بصورة حرفيّة تعبيرَ عصر الذّهَب وأرى جيِّدا بأنّ البشريّة ستصِل إليه بسُرعة إذا ما كانت مُساقَة من طرف رجال غير جَشِعين فقط. للأسف، فإنهم الرِّجالُ غيرُ الجَشِعين هُم بشكلٍ دائم تقريبًا من يصنعون التاريخ، وبعدَها تُحطِّم النار كلَّ شيء، ويسيل الدّم بوفرة. يُقدِّم لنا تُجّار البُندُقيّة البُدَناء مثالَ النّعيم الباذخ الذي يعرِفُه بلد يحكُمُه القانون الوحيد للتّكسُّب، فيما تبيّن لنا الذئاب الهزيلة لمَحاكِم التّفتيش الإسبانيّة أيّ فظائعَ باستطاعة رجالٍ فقَدوا حِسَّ السِّلَع الماديّة. كان شعب الهون سيتوقّفون بسُرعة في اندفاعهم لو أنّهم عرَفوا كيف يستفيدون من الثروات التي غَنِموها مُثقَلين بمُكتَسَباتِهم، وسيُكرَسون أنفُسَهُم أكثر للاستمتاع بها، والأمور ستستأنِف مسارَها الطّبيعي. لكنهم كانوا غير جَشِعين متوحِّشين. لقد احتقروا الذهب. واندفعوا للأمام، مُستنزِفين كُلّ مسارِهِم.» |
المصدر: Michel Tournier, Vendredi ou les limbes du Pacifique, Paris, Gallimard, 1972, pp. 61-62
غير أنّ الوُضوح يفرِض الاعتراف بأنّ منهجيّة التسويق يمكن بالمثل أن تولِّد حَلَقَة مُفرَغة، على المستوى الفردي هذه المرّة: الاقتصاد الليبرالي مُعَدّ لعرض مُنتجات جديدة بشكل مُتزايِد، والتي تولّد بسُرعة انتِظاراتٍ جديدة. على المدى القصير، إذا كان يمكن للمستهلِك أن يقتَني المنتوج الجديد، فإنّ رِضاه يزداد. ولكن هذه المتعة عادةً ما لا تدوم طويلا. بالكاد يُحصَّل المُنتَج، فإنّ عرضَا جديدًا يجعل العرض السَّابِق مهجورًا، ويُفاقِمُ المزيد والمزيد من الانتظارات. إنّه هُروب للأمام يقود في نهاية المطاف، ليس إلى الرّضا، ولكن إلى إحباطٍ متكرِّر. هذا التجدُّذ الدّائم يشكّل حلَقَة مُفرَغة لمُجتمع الاستهلاك.
المصدر
Jean-Jacques Lambin et Chantal de Moerloose, Marketing Stratégique et Opérationnel , Paris, Dunod, 2008, pp. 8-12.