- جارِد دايمُند*
- ترجمة: راضي النماصي
يواصل «كوڤيد-19» اليوم تدمير العالم؛ إذ ما يزال في خضم إصابة الكثير (لربما الغالبية) منا، وموت بعضنا، وإنهاء علاقاتنا الاجتماعية الطبيعية، وإقفال معظم الرحلات الدولية، وضرب اقتصاداتنا وتجارتنا. فكيف سيكون شكل العالم خلال بضع سنوات من الآن، بعد زوال هذه الأزمة الحادة؟
ثمة افتراض ذائع بأن اللقاحات ستحمينا من «كوڤيد-19» قريبًا، لكن هذا الافتراض للأسف يبقى مشكوكًا فيه للغاية. فالعلماء في العديد من الدول – الصين والولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا ودول أخرى – يتسابقون لاختراع لقاحات فعالة ضد «كوڤيد-19»، وقد بدأ القليل منها يتوفر للتو. تفترض هذه [الحالة] أسوأ وأفضل سيناريو ممكن وكل ما يمكن أن يقع بينهما.
كانت هناك عدة إشارات حول أسوأ سيناريو ممكن سلفًا. إذ برغم أن بعض البلدان قد اختبرت لقاحًا فعالًا وأنتجته ووزعته، لا يمكن تصنيع 7.7 مليار جرعة لـ7.7 مليار نسمة حول العالم وتوزيعها عليهم بين عشية وضحاها، وستكون الإمدادات شحيحة في البداية. فمن سيحصل على الجرعات الأولى؟
يفترض المنطق السليم حجز الجرعات الأولى لصالح العاملين في المجال الطبي، وذلك لحاجة الجميع إلى هؤلاء العاملين كي يعطونا الجرعات فيما بعد ويتمكنوا من رعاية المرضى. ويمكن توقع عثور بعض الأثرياء من ذوي النفوذ، ممن لا يعملون في المجال الطبي، على سبيل لنيل الجرعات قبل الفقراء معدومي النفوذ.
لا تنطبق هذه الاعتبارات الأنانية على تخصيص الجرعات داخل الدول فقط، بل يمكن أن تكون دولية أيضًا؛ إذ ستمنح الدول التي تخترع اللقاحات مواطنيها الأولوية. وقد حدث ذلك قبل أشهر في ما يتعلق بالكمامات: حين كانت كمية الكمامات قليلة ووصلت بعض الشحنات إلى أوروبا من الصين، شُنّت حروب محاصصة ومناقصة مع سعي البلدان إلى الاحتفاظ بها لصالح مواطنيها؛ والأسوأ الذي لم يحدث بعد أن الدول مخترعة اللقاح قد تحجبه عن خصومها في السياسة والاقتصاد.
مع ذلك، قد تكون السياسات الوطنية انتحارية حين نتأملها، إذ لا يمكن لأي دولة أن تحقق أمنًا دائمًا من «كوڤيد-19» عبر القضاء على المرض داخلها. ففي عالم اليوم الخاضع لسيطرة العولمة، سيعود «كوڤيد-19» على الفور إلى مثل تلك البلدان من الآخرين الذين لم يقضوا عليه بعد.
حدث ذلك بالفعل في نيوزيلندا وڤييتنام، حيث توقّف انتقال الفيروس محليًا بفعل الإجراءات الصارمة، لكن استوردت الحالات الجديدة من «كوڤيد-19» عن طريق المسافرين العائدين إلى البلاد. ينتهي بنا ذلك إلى الخلاصة التالية: لن تعيش أي دولة في أمان من «كوڤيد-19» حتى تأمن كل الدول، فالفيروس مشكلة عالمية وتتطلب حلًا عالميًا.
أعتبر هذه الحقيقة خبرًا جيدًا. إذ نواجه مشاكل عالمية أخرى تتطلب حلولًا عالمية: خاصة تغير المناخ، ونضوب الموارد حول العالم، والعواقب الهدامة لانعدام المساواة عبر البلدان في عالمنا الخاضع للعولمة. لا يمكن لأي بلد أن يحتمي من تغير المناخ إلى الأبد فقط عن طريق تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتقليل انبعاثات الاحتباس الحراري بداخله، شأنه شأن «كوڤيد-19»، فثاني أكسيد الكربون لا يوقّر الحدود السياسية. لكن تغير المناخ ونضوب الموارد وانعدام المساواة ذوي تهديد أخطر تجاه بقائنا ونوعية حيواتنا من الوباء الحالي. فلو حدث أسوأ سيناريو ممكن وتعرض الجميع للوباء ومات 2% من البشر جراء ذلك، سيعني وفاة 154 مليون حالة “فقط”، مما يترك 7546000000 نسمة على قيد الحياة، وهذا عدد أكثر من كافٍ بكثير لضمان بقاء الجنس البشري. وفيروس «كوڤيد-19» يعتبر تافهًا بالمقارنة بمخاطر تغير المناخ ونضوب الموارد وانعدام المساواة تجاهنا جميعًا.
إذن، لماذا لم نُحفَّز للعمل ضد تغير المناخ والتهديدات العالمية الأخرى في حين تحركنا تجاه تهديد «كوڤيد-19» الأقل خطرًا؟ الجواب واضح: يستولي «كوڤيد-19» على انتباهنا عن طريق إضعاف ضحاياه أو قتلهم بسرعة (خلال أيام أو بضع أسابيع) وبشكل قاطع، بينما يدمرنا تغير المناخ ببطء وبشكل غامض من خلال العواقب غير المباشرة، مثل انخفاض إنتاج الغذاء، والمجاعات، وتقلبات الجو الشديدة، وانتشار الأمراض الاستوائية في المناطق معتدلة الأجواء. ومن ثَمَّ، كنا بطيئين حين كان اعتبار تغير المناخ تهديدًا عالميًا يتطلب استجابة عالمية.
لهذا تمنحني جائحة «كوڤيد-19» الأمل، رغم حزني على أصدقائي الأعزاء الذين ماتوا بسببها. فلأول مرة في تاريخ العالم يضطر كل البشر إلى الاعتراف بأنهم يواجهون جميعًا تهديدًا مشتركًا لا يمكن لأي بلد التغلب عليه بمفرده. وقد تتعلم شعوب العالم درسًا بانضمامها معًا تحت الإكراه لهزيمة «كوڤيد-19»، إذ قد يصيرون معًا مرة أخرى تحت الإكراه لمكافحة تغير المناخ ونضوب الموارد وانعدام المساواة. وفي هذه الحالة، لن يجلب «كوڤيد-19» المأساة فقط بل الخلاص، من خلال وضع شعوب العالم أخيرًا على مسار مستدام.
- جارد دايمند أحد أبرز علماء البيئة والأنثروبولوجيا حول العالم. من أعماله المترجمة إلى العربية «أسلحة وجراثيم وفولاذ: مصائر المجتمعات البشرية»، «الانهيار: كيف تحقق المجتمعات الإخفاق أم النجاح؟»