هل هو أمر مفيد أن يصطحب القارئُ المبتدئ والمتوسط الشكَ والنقدَ في النص المقروء، أم أن ذلك يجلب له قدراً كبيراً من الإرباك والتشوش المؤثر سلباً على التعلم والقراءة؟ هذا السؤال قد يرد في خواطر كثير من الدارسين والقراء، وبالذات في العلوم الإنسانية والاجتماعية وعلى رأسها الجوانب ذات الصلة بالفلسفة، وقد وصلني مثل هذا السؤال من طالبة دكتوراه نشطة في هذه العلوم، ولأهميته كتبتُ هذا النص، راجياً أن يُسهم في بيان الموضوع في جوانبه الرئيسة، متوسلاً بلغة يسيرة مباشرة مع بعض التطبيقات.
ما الفرق بين الشك والنقد؟
الشك ضد اليقين، وقد عرفه الجرجاني بالقول: الشك هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك. الشك يتعلق أساساً بالمنهج، ويمكن أن يتطرق للنتائج التي خُلِصَ إليها باستخدام هذا المنهج، فالشك يوجّه الذهنَ إلى هز المنهج واختباره، بغية التأكد من ملاءمته ونجاعته وصلابته، وذلك عبر أسئلة صعبة ذات طبيعة إبستمولوجية، من قبيل: علاقة العارف بالمعروف في ظل هذا المنهج المشكوك فيه، وكونها علاقة واضحة وجيدة ومنتجة للمعرفة الصحيحة أو الدقيقة، وقد يذهب الشكُ إلى ما هو أبعد من ذلك فيتساءل الذهنُ: هل يسع هذا المنهج أصلاً إيصالنا إلى معرفة الحقائق أو إلى معرفة متماسكة في هذا الموضوع أو ذاك؟ فضلاً عن مجموعة من الأسئلة الصعبة حيال طبيعة المنهج وخصائصه ومراحله ونحو ذلك.
ويمكن للشك أن يوسّع دائرته، فيَصلُ إلى إثارة غَمامة من الارتياب حول النتائج التي تُوصِل إليها من جراء استخدام ذلك المنهج المشكوك في صلاحيته ونجاعته على اعتبار أنها نتيجة لمقدمة (=المقدمة مشكوك فيها، إذن النتائج مشكوك فيها أيضاً). وفي حال عدم الشك في المنهج لكونه مقبولاً، فإن الشك يتركز فقط على النتائج وحدها، من جهة بلورتها، أو لكونها نابعة من استخدام سيء أو غير دقيق للمنهج ونحو ذلك.
النقد هو تقييم المقروء ضمن إطار مرجعي مقبول للخلوص إلى إيجابياته وسلبياته. كثير من الناس يتوهم أن النقد يتعلق فقط باصطياد الجوانب السلبية ونقاط الضعف، ولا علاقة له بالإيجابيات ونقاط القوة، وهذا غير صحيح البتة، فالنقد يشمل الجانين معاً، إذ هو في الأساس قدرة على تمييز الصحيح من الخاطئ، أو السليم من المغشوش. إن إبراز الإيجابي والمتألق والعميق في النص، لا يقل أهمية عن العثور على السلبي والخافت والسطحي، ولهذا فالقارئ والدارس الجيد هو من يطيق إبراز الجانبين والتسويغ المناسب لهما، عبر بلورة مقاربة منهجية (سبق لنا كتابة نص حول ذلك) واضحة، وسَوْقُ الشواهدِ الدالة على كل ذلك.
هل نمارس الشك ونحن مبتدئون؟
قبل هذا السؤال دعونا نطرحْ سؤالاً حيال الشك نفسه: هل الشك مطلوب من كل أحد وفي كل مجال وفي كل قراءة؟ هذا سؤال صعب للغاية ويحتاج إلى بسط وتفصيل، ولكنني سوف أقدم له مقاربة مختصرة، تفي بالغرض الرئيس لهذا النص الصغير وتلائم شريحته المستهدفة.
طرح بعض الفلاسفة مفهوم الشك، واختلفوا حياله، فمنهم من اتخذه منهجاً رئيساً له، وجعل ينظر للعالَم عبره، وقد قاد الشكُ بعضَهم إلى التورط في حالة ارتيابية مطلقة، أوصلتهم إلى القول بإنعدام إمكانية الوصول إلى المعرفة من حيث الأصل، وقد عُرفتْ هذه المدرسةُ بـ الشكاكية كما في الفلسفة اليونانية القديمة بقيادة الشكاكين الشكسين: فورون وتيمون النافيين لإمكانية الاعتماد على الحس والعقل. وقد صور الفيلسوف جورجياس (ت 380 ق.م) حالة الشك المطلق عند الإغريق بالقول: “لا يوجد شيء، وإذا وجد شيء، فالإنسان قاصر عن إدراكه، وإذا فرضنا أن الإنسان أدركه، فلن يستطيع أن يبلغه لغيره”[1].
وشهدت الفلسفة العربية الإسلامية موجات من هذه النزعة، ولعل ممارسة أبي حامد الغزالي هي الأبرز كما في كتابه الذائع الصيت: المنقذ من الضلال، غير أنها لم تكن ممارسة لـ الشك المطلق كما هي في الحالة المتطرفة في الفكر اليوناني، بل هي ممارسة واعية لـ الشك المنهجي، حيث مارس شكاً في المناهج الحسية والعقلية، ثم رجع إلى جادة اليقين المنهجي، وهذا هو ضابط الشك المنهجي، فهو شك منتهٍ إلى يقين.
ثم جاء الفكر الغربي الحديث، وتبنى الشك المنهجي عبر ديكارت (ت 1650م) وغيره، مع تبني البعض لنسخة من الشك المطلق، كما فعل الإنجليزي مونتاني (ت 1553م)، حيث هجر العلم، وانتهى به تفكيره إلى: العدمية والشك والفراغ والموت[2].
وتتعين الإشارة في هذا السياق إلى أن الشك المنهجي وفق الفكر العربي الإسلامي له ركائز محورية، ومن أهمها الآتي:
1- الضامن الأوحد للمعرفة النهائية إنما هو خالق العارف والمعروف ومسبّب الأسباب، فالله تعالى هو الضمانة الأكيدة للمعرفة الممكنة والسببية المتعلقة، فلولاه لتطرق الشكُ إلى كل شيء، فالشيء الوحيد الذي لا يمكن الشك فيه هو الله تعالى، ومن المعرفة اليقنية والإيمان بـ لا إله إلا الله يتناسل اليقين والثقة والطمأنينية حيال المعرفة ومصادرها التي تشمل:
أ- الخبر: القائم على أسلوب الاستخبار، وهو طلب ما في النص الديني من هدايات ومعارف في مجالات:
- علوم الغاية (علوم الوحي) كالعقيدة والفقه والتفسير والحديث.
- علوم الآلة (علوم الوسيلة) كاللغة وأصول الفقه وأصول الحديث وأصول التفسير.
ب- الحس: المتأسس على أسلوب الاستقراء، ويدخل فيه التجريب، وهو المصدر الرئيس في العلوم الطبيعية، ويمكن أن يُستخدم في العلوم الإنسانية والاجتماعية والدينية أيضاً بطريقة تناسبها.
ج- العقل: المفعّل لأسلوب الاستنتاج (الاستنباط)، وهو الأسلوب الرئيس في الفلسفة والرياضيات، وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية أيضاً، ويُستخدم أيضاً في العلوم الطبيعية بطريقة تلائمها.
2- لا يمكن الشك في أي معرفة مصدرها الخالق تعالى، مما يرفع التشكيك تماماً في القضايا القطعية، أي القضايا قطعية الثبوت قطعية الدلالة ، وهي نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، حيث نجد فيها النظامَ والاطراد والتناسق التام المطلق بكل وضوح ونصاعة. وقد تضمّن القرآنُ الكريم تحدياً صريحاً لمن يشكك في ذلك، وضَمِن أنه:
– لا تصدع في المعنى: انتظام المعنى: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا” (النساء: 82).
– لا تصدع في الطبيعة: انتظام الطبيعة: “الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ” (الملك: 3-4). في هذا النص الفخم، نلاحظ قوله: فارجع البصر ..، ثم ارجع البصر كرتين. هذه ثلاث محاولات، إلامَ يدل عليه ذلك منهجياً؟ في هذا دلالة واضحة على مسألة منهجية، وهي ركيزة في المنهج التجريبي المعاصر، وهي ما يعرف بـ إعادة التجربة أو البحث Replication.
3- لا يمكن الشك في القبليات العقلية التي تعد أساساً للتفكير الإنساني، والتي تسمى بالفطريات أو البدهيات، إذ إنها بمثابة النظام الأساسي والإعدادات الداخلية للجهاز الذكي، حيث لا يمكن له أن يعمل بدون ذلك، فمن القبليات العقلية مثلاً معرفة أن الشيء هو هو وأنه لا يتغير (مبدأ الهُوية)، وأن الشيء لا يوجد مع نقيضه في وقت واحد وسياق واحد (مبدأ التناقض)، وأن الجزء أصغر من الكل، ومعرفة أن لكل شيء سبب (مبدأ السببية)، ومعرفة أن بعض الأمور مفتقرة للتجربة العملية (مبدأ التجربة) فالعمل التجريبي والعلية مركوز في الفطرة، وإلا لم يقر الإنسان بنتائج التجربة حينما يطبقها واقعاً، فالتجربة والعلة لها أساسها القبلي الفطري.
4- الإنسان يمكن أن يصل إلى معرفة دقيقة، غير أنه لا يقطع بأنها تمثل حقائق الأشياء كما هي في ذاتها (النومين كما يقول كانط)، حيث يختص الله تعالى وحده بذلك، مما يجعل ذهن المسلم يتجاوز مرحلة الشك إلى الثورة على مبدأ الحتمية Determinism الزاعم بأن الإنسان يصل إلى حقائق الأشياء كما هي، وأنه يسعه تشخيص كل المشاكل وبلورة كل الحلول، وقد كان هذا المبدأ ركيزة للعلم وفق المنظور الغربي في زمن الحداثة في قالب إيمان دوغمائي، مما عرّض الذهن الغربي إلى نوع من البلبة والتشوش، بل وصل عند البعض إلى نوع من الشك المطلق في إمكانيات العلم ومناهجه، لدرجة أن بعضهم يقول بـ العدمية.
5- بناء على ما سبق، يمكننا التقرير بأن ذهن المسلم يكتفي بحتمية إبستمولوجية لا أنطولوجية، حيث يجهد لأن يصل إلى أفضل معرفة ظاهرة ممكنة وأكثرها دقة (=الفينومين وفق كانط)، دون أن يقطع بأنها هي حقائق الأشياء (=النومين)؛ وفق حدود العقل وإمكانيات المنهج وثراء الملاحظة والبيانات، على أنه يؤمن بأن ذلك يتطلب اجتهاداً دائماً في تطوير المناهج ونقدها، وتطوير أدوات العلم.
وحاصل الكلام هنا، أن الشك المطلق في المعرفة ومناهجها ثبت بطلانه، وتأكد لنا أنه غير ناجع البتة، إذ لا يرجع الإنسان منه إلا بخفي حنين، وقد لا يعود منه بشيء أصلاً. يتبقى لدينا الشك المنهجي (أو الشك العلمي)، فهل يمارسه القارئ المتوسط أو الدارس؟
ثمة مقاربة منهجية جيدة لهذا السؤال، تتمثل في مراعاة ثلاثة أمور:
الأول: الشك مرتبة أعلى من النقد وهو أعسر منه أيضاً.
الثاني: الشك، يتطلب ذهنية فلسفية عميقة متمرسة.
الثالث: الشك المنهجي مُورس ووثق تفصيلاً في الأدبيات.
إذا دققنا النظر في الأمور الثلاثة في قالب تكاملي، فإنه يسعنا التقرير بأن القراء المتوسطين والدارسين ليسوا بحاجة إلى ممارسة الشك المنهجي، وأنه يسعهم ممارسة النقد، وهذا كافٍ لهم، وليتهم يطيقونه ويدفعون كلفته !
كيف نمارس النقد بطريقة لا تؤثر سلباً على حصيلتنا العلمية؟
التعلم بناء، وكل بناء مفتقر إلى معادلة سليمة لإتمامه، ولعله يكون مناسباً أن أضع معادلة تعكس مقومات التعلم الفعال وفق وجهة نظري، والسعي لتحليل مكوناتها بقدر من التفصيل.
التعلم الفعال = نية x خطة x جدية x تساؤل
قبل تحليل مكونات هذه المعادلة، أرجو ملاحظة أننا توسلنا بالضرب وليس بالجمع، فما دلالة ذلك؟ يعني ذلك أننا نقرر ضرورة وجود هذه المكونات جميعاً، إذ لو فُقد واحدُ منها فُقِد التعلم الفعال (نقول: الفعال)، كما لو ضربنا شيئاً بالصفر، فالمحصلة النهائية كما هو معلوم صفر. التعلم الفعال يحصل إذا توفرت أربعة مقومات رئيسة، هي:
1- نية صالحة للتعلم. النية الصالحة هي عماد العلم النافع، حيث ينوي الإنسان رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، والإسهام في بناء الإطار الحضاري العربي الإسلامي وبناء الوطن والمجتمع. وتؤسس هذه النية اتجاهات إيجابية حيال أهمية التعامل السليم مع القراءة والتحليل والأفكار والمناهج والمقاربات والمفاهيم والأدبيات والشخصيات العلمية والزملاء ونحو ذلك.
2- خطة سليمة متكاملة. هذه الخطة تتضمن أهدافاً دقيقة للتعلم، ومبادرات لاكتساب ما يجب اكتسابه من المهارات والمعارف؛ ضمن برنامج زمني مناسب. وهذه الخطة يجب أن تستهدف الظفر بلبِنات أساسية تتضمن: أدوات منهجية ملائمة، أدوات مفاهيمية عميقة، وشفرات كافية للقراءة والكتابة الناجعتين.
3- جدية عالية مستمرة. الجدية هي الطاقة التي تشغّل مكنة التعلم، وإذا تُوّجتْ الجديةُ بالنية الصالحة وكانت مصحوبة بخطة سليمة متوازنة ذكية، فإنها حريّة بأن تثمر تعلماً فعالاً باقياً مستمراً. ويدخل في ذلك: الحفظ عبر تثبيت الحصيلة العلمية، بالتكرار وبثها وإعادة شرحها لآخرين فور تعلمها، ونحو ذلك من فنون تثبيت الحصيلة العلمية، وتقوية عضلة الذاكرة وتمرينها.
4- عقلية متسائلة نقدية. السؤال يفتح مغاليق الغموض، ويفكك شفرات التعقيد، ويحل ألغاز الاشتباك. ومن أهم مسارات السؤال في سياق التعلم: سؤال النقد الإيجابي، وسؤال النقد السلبي، ليتوفر المتعلم والقارئ من ثمَّ على: الجيد والعميق، والردئ والسطحي، فيتعلم منهما معاً، عبر الإفادة من الأول وتجنب الثاني، أو حتى إعادة بنائه أو تهيئته إن أمكن بطريقة منهجية مناسبة. سُئل ابن عباس رضي الله عنه: أنَّى لك هذا العلم؟ فقال: قلب عَقول، ولسان سؤول.
أما وقد أوضحنا ما سبق فإن بذل الجهود الكافية ليقيم بكل ذلك إطاره ومبناه، فقد يقول قائل: مطالبتنا بالنقد ونحن في مراحل مبكرة في هذا المجال أو ذاك قد يوجد إرباكاً وتشوشاً مؤثرين سلباً على الحصيلة العلمية؟ هذا سؤال وجيه، ويستحق منا مقاربة منهجية جيدة. يمكن لنا الإجابة عن السؤال بمقاربة تقوم على مقومين: التطبيع مع التشوش، التعويل على المتماسك.
التطبيع مع التشوش
ثمة معلومة مهمة استقيناها من دراسات التعلم في علم النفس الاجتماعي، وقد يستغربها بعضكم، ومفادها: إذا حدث تشوشُ أو إرباك أثناء تعلمنا، فإن ذلك مؤشر على أننا بتنا على مقربة من التعلم العميق أو الفعال، وذلك أن الوضوح التام في جميع مراحل التعلم، قد ينم عن عدم فهم الإشكاليات، أو عدم استيعاب الإطار الكامل للموضوع، بمختلف أبعاده وزواياه، وتعدد المقاربات والأطروحات حياله.
إذن التشوش هو علامة صحية في سياق التعلم، شريطة أن يكون ذلك مؤقتاً، مما يوجب علينا أن نعرف كيفية التخلص منه، لكي ننعُم يـ وضوح بعدي ذي صبغة تجميعية تكاملية، وذلك عبر تعلم تقنيات التعلم الفعال، وقد أشرنا إلى طرف منها في هذا النص. الوصول إلى هذا الوضوح البعدي لا يعني البتة أنه خال تماماً من الإشكاليات وقدر من الغموض، وقد يكون ذلك بسبب عدم فهمنا الكامل أو العميق لمسألة أو لأخرى أو لمفهوم أو لآخر، أو لوجود إشكاليات جوانية تتعلق بهذه المسألة، ولم نظفر بعدُ على منهج أو مقاربة أو رأي يُلائمنا، أو خليط من ذلك.
ما سبق، يجعلنا نقرر مبدأ التطبيع مع التشوش، فلا نقلق منه ولا نهابه، ولذا فمن المتوقع أن المتعلم إذا أدرك هذه الحقيقة فإنه سيكون أكثر تقبلاً للتشوش، مع الإشارة إلى أنه قد ثبت علمياً أن الذهنية المبدعة هي أميل إلى عقد الصداقة مع التعقيد والغموض والتشابك والتعايش مع ذلك لفترات قد تطول، مما يجعله أقدر من غيره على النفوذ إلى لب المشكلة وفهمها بعمق أكبر، ليكون بذلك متوفراً على أفكار أصيلة ناجعة.
اقرأ ايضًا: ضياع البوصلة والتبدد في عوالم المعرفة
التعويل على المتماسك
ممارسة النقد -كما قلنا غير مرة- تتضمن البعدين: الإيجابي والسلبي، مما يُتيح لنا التعويل على إطار فلسفي أو منهجي أو علمي متماسك، إذ لسنا إزاء بنايات متهدمة كل التهدم، وإنما نحن قُبالة مدينة مكتضة ببنايات شاهقة جميلة متماسكة، وثمة بنايات خَرِبة قبيحة متساقطة. هنا شوارع فسيحة نظيفة آمنة، تقابلها أخرى ضيقة متسخة خطرة، وهكذا. كل ذلك يؤسس لمبدأ الإرساء على الثابت والمتماسك والجيد والإيجابي، والسعي -ولو بعد حين- للإسهام في بناء المتهدم، وتقوية المتضعضع، وتجويد الردئ، وتحسين السلبي. والممارسة النقدية الناجعة تتطلب منا مراعاة جملة من الاشتراطات المنهجية والأخلاقية، ولعل من أهمها الآتي:
1- لا تنقد قبل أن تفهم. فهم النص مقدم على نقده، وهذا ما يستلزم بذل وقت أكبر للفهم والاستيعاب والتأكد من أن المتعلم استوعب هذا المنهج أو المفهوم أو النظرية أو النموذج كما يريد صاحبه. البعض للأسف يشرع بالنقد قبل أن يتوفر على فهم جيد للنص أو للأطروحة المفكر بها، وهذا خطأ منهجي وأخلاقي أيضاً.
2- لا تتكلف في النقد. يتورط البعض بممارسة شكلانية للنقد، حيث يبلور نقداً حيال نص أو مسألة معينة، إما ليُقال أنه يحمل ذهنية نقدية جيدة، أو أنه يفعل ذلك لمجرد الوفاء بمتطلب بمشروع بحثي ونحو ذلك، على أنها ممارسة مكشوفة لمن لديه خبرات جيدة في القراءة والتقييم. هذا المتعلم يفتقد للجدية، وربما للأخلاق العلمية، وكلاهما مرذول.
3- لا تركز على السلبي فقط. القدرة على التقاط العميق والمدهش والوحدة في النص أو الأطروحة لا تقل روعة وأهمية عن أختها الباحثة عن العيوب والمثالب والتشتت. وأحسب أن ذلك النهج المتوازن سيهدئ من روع المتعلم، حينما لا يجد جانباً سلبياً واضحاً في مسألة أو أطروحة ما، إذ قد يكتفي حينها بإيراد الإيجابي في ذلك السياق، مع سعيه للتدليل عليه عبر شواهد كافية، ويتمم ذلك بإيراد تطبيقات من شأنها تثمير هذا الإيحابي في سياقات معينة، وفي هذا تدليل على أنه بات يتعلم بطريقة عميقة فعالة.
ما خلاصة النص؟
لهذا النص خلاصة نصبها في ثلاث نتائج كبار:
1- الشك المطلق مرفوض ومدمر، وقد بات خرافة وأسطورة وملاذاً للعدميين.
2- الشك المنهجي، يمارسه فقط الفلاسفة والمفكرون والباحثون المتمرسون.
3- النقد يمارسه الدارس والقارئ الجيد[3]، وهو اصطياد للإيجابي والسلبي والتعلم منهما معاً.
اقرأ ايضًا: تأملات في الأفكارِ ونقدِها وتَمْحِيصِها
[1] نقلاً عن: عبدالرحمن الزنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفية، هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1992، ص 60.
[2] السابق، ص 63.
[3] من الجلي أن النقد يمارسه الفلاسفة والمفكرون والباحثون المتمرسون وهم الأبرع في ذلك، ولم نشر لهم وذلك لوضوح ذلك، إلا أننا رأينا إثبات هذا الهامش لإزالة اللبس المحتمل.
جميلة فكرة اختتام المقال بخلاصة تسرد أهم أفكاره/ نتائجه.
وأرى أن تُعتمد في المقالات المنشورة في الموقع :)