الدين

كيف يفكر فقهاء السياسة الشرعية 3/3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي ما تزايد من النعم والشكر له على ما أولانا من الفضل والكرم ، لا أحصي ثناءا عليه هو كما أثنى على نفسه ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد العرب والعجم المبعوث رحمة لسائر الأمم وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأمته أفضل الأمم وبعد :

الجزء الاول: كيف يفكر فقهاء السياسة الشرعية 1/3
الجزء الثاني: كيف يفكر فقهاء السياسة الشرعية 2/3

فهذا نهاية الحديث عن بحثنا الذي بدأناه عن فقهاء السياسة الشرعية وكيف يفكرون في النوازل والخطوب سواء منها السياسية أو غيرها والذي أفردنا له مقالين سابقين تحدثنا فيهما عن الملكة الفقهية وماهيتها وشجرة معارفها وخطوات اكتسابها .

والآن وفي هذه الحلقة الأخيرة نحاول اظهار تلك الملكة وتطبيقاتها من خلال نموذج عملي لتعامل الفقهاء مع نوازل سياسية عنت لهم ونحاول تطبيق ما رسمناه من خطى نظرية سابقة ونرى ثمراتها العملية في كلام الفقهاء وتعاملهم .

ويحسن بنا قبل البدء في الكشف عن أحد تلك النماذج أن نقدم بمقدمة ضرورية عن الواقع وفقهه وكيف يتعامل معه الفقيه السياسي قبل أن يتعامل مع النازلة السياسية المعروضة أمامه .

(نعلم بداية أن الفقيه ليس مؤرخا يرصد الواقع المتحقق ويسجل أحداثه ويجمع وقائعه ليصور الواقع بها ، إنما يتكلم عن الواقع المعتاد ويقدر الممكن وقوعه فيه بحكم العادة الغالبة والتجارب والقدر المعقول من الأمور المشاهدة للجميع ، ومن ثم فالمنشود من تناول الفقيه والطريقة الفقهية أن يرشد إلى الكيفية الخاصة به للاقتراب من الواقع وماهية الواقع الذي يعنى به ويتفاعل معه فكريا وفقهيا )

ينبني على هذا أن الفقيه حين تعرض له النازلة لا يتعامل بذهنيه تجريدية وأحكام نظرية مجردة عن وقائع الواقع  ، إنما يتعامل من واقع أحكام مستوحاة من خضم هذا الواقع وتعبير صادق عن مصالح الأفراد والمجتمع الحيوية والتي أتى الشرع عليها لحفظها وصيانتها  ورفع الحرج والعنت والمشقة عن الخلق .

غير أنه من المهم التنبيه هنا على أن مراعاة الواقع لا تعني مسايرته وإخضاع الفقه وأحكام الشريعة له ، بل تستوجب من الفقيه السياسي الالتفات إليه خلال عملية تنزيل الأحكام وإعماله باعتباره محل وقوع الحكم وركن من أركان الاجتهاد التنزيلي ، وهذا يتطلب من الفقيه أن يكون على جانب كبير من الخبرة والفطنة والذكاء ليتفحص مكونات الواقع ، (وما كل ما يتضمنه الواقع من صفات الأعيان معتبرة ، إذ بعض تلك الصفات تكون طردية لابد من إلغائها بالإبطال )

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
(ولا يتمكن المفتي والحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم أحدهما – ونشير إلى ماله صلة بالموضوع –: فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن، والأمارات، والعلامات، فالعالم يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله في المسألة )

ولكي يكون فقه الواقع منضبطاً فإن من الواجب مراعاة الأمور الآتية :

1- الحذر من تمييع نصوص الشرع بحجة الواقع

2- عدم الانسياق وراء المتلاعبين بمحكمات النصوص وقواطعها وثوابتها بحجة التجديد

3- الحرص على إبقاء مراتب الأحكام كما هي فالقطعي قطعي والظني ظني

4- التمييز بين ما يلزم الثبات وما يقبل التغير عند تقرير الأحكام ( فالذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية وأما القطعيات من الأحكام فلا ).

5-عدم الجمود على المنقولات من فتاوى الأئمة السابقين وفتيا الناس بها رغم تغير الأحوال وتبدل الأعراف. فذلك جمود وتحجير على الناس والشريعة منزهة عنه ..

ونبدأ الآن باستحضار بعض من النماذج في تعامل الفقهاء مع النوازل السياسية بعدما قدمنا بمقدمة ضرورية عن الواقع وفقه .

الإمام الجويني الشافعي ونماذج من ملكته الفقهية في كتابه غياث الأمم  :

مما لا يخفى على أحد من متتبعي التراث الإسلامي وبالأخص في حقل الفقه السياسي والسياسة الشرعية ما للإمام أبي المعالى الجويني من أهمية بالغة في هذا الباب ، بل لو قلنا بأن كتاب الغياثي الذي دبرته يراع الإمام الجويني لم يؤلف على منواله ولم يحذ أحد مثاله ، وتبدو فيه براعته العلمية الظاهرة وملكته ومهارته الفقهية الواضحة وبالمثال يتضح المقال .

أولا : التنصيص على إمام حاكم من قبل الطوائف الأخرى وكيفية التعامل معها ؟

يقول رحمه الله ( لَوْ ثَبَتَ النَّصُّ مِنَ الشَّارِعِ عَلَى إِمَامٍ، لَمْ يَشُكَّ مُسْلِمٌ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ بَذْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلنَّبِيِّ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْجَمَاعَة وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ النَّصُّ، فَاخْتِيَارُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، كَافٍ فِي النَّصْبِ وَالْإِقَامَةِ، وَعَقْدِ الْإِمَامَةِ. )

وفي هذا بداية منه في تحرير محل النزاع في المسألة المبحوثة قبل الخوض فيها ومناقشة أدلتها ، ثم يبدأ الإمام رحمه الله في ذكر الأقوال في المسألة والتعرض لكل قول بالنقد والنقض والتمحيص .

فيقول في ذكر الأقوال ما يلي :

1-( فَذَهَبَتِ الْإِمَامِيَّةُ مِنَ الرَّوَافِضِ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – نَصَّ عَلَى عَلِيٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – فِي الْإِمَامَةِ  فَذَهَبَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – نَصَّ عَلَى خِلَافَتِهِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ نَصًّا قَاطِعًا، لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ مَسَالِكُ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ سَبِيلُ الِاحْتِمَالَاتِ، وَتَقَابُلُ الْجَائِزَاتِ، وَشَفَى فِي مُحَاوَلَةِ الْبَيَانِ كُلَّ غَلِيلٍ، وَاسْتَأْصَلَ مَسْلَكَ كُلِّ تَأْوِيلٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ النَّصُّ مِمَّا نَقَلَهُ الْأَثْبَاتُ، وَالرُّوَاةُ الثِّقَاتُ، مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَلْهَجُ بِهَا الْآحَادُ، وَيَنْقُلُهَا الْأَفْرَادُ

كَقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ)  وَقَوْلِهِ لِعَلِيٍّ – عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ” «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» ” إِلَى غَيْرِهَا.

ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: كَفَرَتِ الْأُمَّةُ بِكَتْمِ النَّصِّ وَرَدِّهِ، وَحَسْمِ مَسْلَكِ دَرْكِهِ وَسَدِّهِ .

2- وَذَهَبَ فِرَقٌ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – مَا نَصَّ عَلَى مُعَيَّنٍ فِي الْخِلَافَةِ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – بِالْمَرَامِزِ وَالْمَلَامِحِ، وَالْمَعَارِيضِ وَالصَّرَايِحِ، الصِّفَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِمَامَةُ اسْتِجْمَاعَهَا فَكَانَتْ مُتَوَافِيَةٌ فِي عَلِيٍّ دُونَ مَنْ عَدَاهُ وَسِوَاهُ، فَضَلَّتِ الْأُمَّةُ، إِذْ وَضَعَتِ الْإِمَامَةَ فِيمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَلَمْ يَتَّسِمْ بِتِلْكَ  السِّمَات.

3- ثُمَّ تَشَوَّفَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ إِلَى ادِّعَاءِ النَّصِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

4-وَصَارَ صَائِرُونَ يُعْرَفُونَ بِالْعَبَّاسِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – نَصَّ عَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ، وَخَصَّصَهُ بِالْإِمَامَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ، نَصًّا يُزِيلُ الرَّيْبَ، وَيُزِيحُ الِالْتِبَاسَ )

بعد أن حصر الإمام الجويني الآراء الواردة في محل النزاع القائم بدأ يأتي على كل واحد منها بالنقض والإبطال حتى يصل في نهاية المطاف إلى الرأي الذي يعتقده ويقول به وهو ما أسميناه في شجرة المهارات الفقهية التي ذكرناها سابقا بالسبر والتقسيم وهي من أدوات الفقيه الأصولية التي يعتمد عليها في إبراز رأيه في النازلة ، فيقول الإمام الجويني رحمه الله :

فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّرْتِيبُ إِيضَاحُ الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ النَّصِّ، ثُمَّ اتِّبَاعُ مَا عَدَاهُ مِنَ الْآرَاءِ بِالتَّنْقِيرِ وَالْفَحْصِ

1- النَّصُّ الَّذِي ادَّعَيْتُمُوهُ، وَنَظَّمْتُمْ بِهِ عُقُودَكُمْ، وَرَبَطْتُمْ بِهِ مَقْصُودَكُمْ، بَلَغَكُمُ اسْتِفَاضَةً وَتَوَاتُرًا، مِنْ جَمْعٍ لَا يَجُوزُ مِنْهُمْ فِي مُسْتَقَرِّ الْعَادَاتِ، وَمُسْتَمَرِّ الْأَوْقَاتِ، التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ؟ أَمْ تَنَاقَلَهُ مُعَيَّنُونَ مِنَ النَّقَلَةِ؟ وَاسْتَبَدَّ بِهِ مَخْصُوصُونَ مِنَ الْحَمَلَةِ؟ .

فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ مَنْقُولٌ تَوَاتُرًا عَلَى الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الِاسْتِفَاضَةِ أَوَّلًا، وَوَسَطًا، وَآخِرًا، فَقَدِ ادَّعَوْا عَظِيمَةً فِي مُجَاحَدَةِ الْبَدَائِهِ وَالضَّرُورَاتِ، وَانْتَهَوْا مِنَ الْبُهْتِ وَالْعِنَادِ إِلَى مُنْتَهَى الْغَايَاتِ.

وَقِيلَ لَهُمْ: كَيْفَ اخْتَصَصْتُمْ وَأَنْتُمُ الْأَذَلُّونَ الْأَقَلُّونَ بِهَذَا الْخَبَرِ دُونَ مُخَالِفِيكُمْ، وَكَيْفَ انْحَصَرَ هَذَا النَّبَأُ فِيكُمْ، مَعَ اسْتِوَاءِ الْكَافَّةِ فِي بَذْلِ كُنْهِ الْمَجْهُودِ، فِي الطَّلَبِ وَالتَّشْمِيرِ، وَالتَّنَاهِي فِي ابْتِغَاءِ الْمَقْصُودِ، وَاجْتِنَابِ التَّقْصِيرِ؟ وَلَوْ سَاغَ اخْتِصَاصُ قِيَامِ أَقْوَامٍ بِدَرْكِ خَبَرٍ شَائِعٍ، مُسْتَفِيضٍ ذَائِعٍ، لَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْعِلْمِ بِأَنَّ فِي الْأَقَالِيمِ بَلْدَةً تُسَمَّى (بَغْدَادَ) طَوَائِفُ مَخْصُوصُونَ، مَعَ تَمَاثُلِ الْكَافَّةِ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْمَسَالِكِ، وَالْأَقَالِيمِ وَالْمَمَالِكِ ) .

وظل االإمام في تنقيره ونقضه لما يراه باطلا من الآراء حتى خلص لتلك النتيجة التي يتغياها في مسألته هذه فقال :

فَوَضَحَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُ مَذْهَبِ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِالنَّصِّ. هَذَا مُسْتَدْرَكٌ بِضَرُورَاتِ الْعُقُولِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى بَحْثٍ وَنَظَرٍ وَفَحْصٍ.

وَالثَّانِي: الْقَطْعُ عَلَى الْغَيْبِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تَوْلِيَةٌ وَنَصْبٌ .

ثانيا : نازلة خلو الزمان عن إمــام ؟

فيبدأ الإمام رحمه الله في تصوير المسألة من انخرام الصفات التي يتوجب توافرها في الإمام صفة صفة حسب الترتيب الذي اقتضاه من قبل في صفات الإمام حتى يقدر عدم وجود شخص فيه صفات ، فيبدأ في الحديث عن النسب ثم عن العلم والاجتهاد ثم الكفاية والورع والتقوى .

فإذا ما انتهى رحمه الله من التصوير بدأ يرتب الأولى فالأولى ممن يقدم للولاية بناءا على تحقق بعض من الصفات فيه وهنا يتسخدم الإمام رحمه الله مهارة الترجيح فيقول رحمه الله :

وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْإِمَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَرْعِيَّةً فَالْغَرَضُ الْأَظْهَرُ مِنْهَا: الْكِفَايَةُ، وَالِاسْتِقْلَالُ بِالْأَمْرِ.

فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ هِيَ الْأَصْلُ وَلَكِنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَنْجَحُ مَعَ الِانْهِمَاكِ فِي الْفِسْقِ، وَالِانْسِلَالِ عَنْ رِبْقَةِ التَّقْوَى، وَقَدْ تَصِيرُ مَجْلَبَةً لِلْفَسَادِ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا اسْتِعْدَادٌ.

ثُمَّ الْعِلْمُ يَلِي الْكِفَايَةَ وَالتَّقْوَى، فَإِنَّهُ الْعُدَّةُ الْكُبْرَى، وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَبِهِ يَسْتَقِلُّ الْإِمَامُ بِإِمْضَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ.

فَأَمَّا النَّسَبُ [وَإِنْ] كَانَ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَلَيْسَ لَهُ غِنَاءٌ مَعْقُولٌ، وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ الْمُعْتَمِدُ الْمُسْتَنَدُ فِي اعْتِبَارِهِ .
ثم يبدأ الامام في عرض الرأي  الفقهي الذي يتبناه ويعضده بالأدلة المعقولة والمنقولة من استيلاء من كان ذا شوكة وعدة وبدأ يفصل في صور ذلك الرأي فيقول :

  1. أن يكون المستظهر بعدته ومنته صالحا للإمامة على كمال شرائطها
  2. ألا يكون مستجمعا للصفات المعتبرة جمع ولكن كان من الكفاة
  3. أن يستولي من غير صلاح لمنصب الإمامة ، ولا اتصاف بنجدة وكفاية

ويسير في التفصيل في كل صورة من هذا أيضا متنقل بين مهارات شتى من ملكته الفقهية بين تدليل عقلي و نقلي ثم تعليل وتقعيد لما يراه من رأي في تلك النازلة .

تلك بعض صور للتدليل على براعة الإمام العلمية ومهاراته الفقهية التي هي مناط البحث والدرس

الإمام أبي عبدالله ابن الأزرق المالكي وملكته الفقهية من خلال كتابه طبائع السلك :

هذا مثال آخر من أمثلة الفقهاء المحققين المشتغلين بالسياسية والذي تبدو عنده المهارة الفقهية واضحة ظاهرة لا تخطؤها عين ، وبالجملة فالإمام ابن الأزرق وكتابه طبائع السلك من نفائس الكتب التي تظهر فيها مكنة الفقهاء مع النوازل والخطوب السياسية

أولا : نازلة اتخاذ الكافر وليا في الحكم والسياسة ؟

بدأ الإمام ابن الأزرق في ذكر صور المسألة وتقرير ما هو منها عام وما هو خاص ثم دلل على كل صورة بدليل نصي ثم بدليل اجتهادي وساق التعليل في كل صورة فيقول :

( ويتقرر ذلك باعتبار طبقتين : الطبقة الأولى : عموم الخلق حتى الأمراء والولاة من تلك الجهة كما صرح به التنزيل في غير ما موضع فقال الله (( لا يتخذ المؤمنين الكافرين أولياء من دون المؤمنين )) وقوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ))
الدليل الاجتهادي : في ذكر قول ابن عطية (( نهى الله المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في الخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة ، وحكم الآية باق
ثم يذكر الامام ابن الأزرق التقييدات لهذا الحكم سواء من ذكر كون الآية عام لا يعرف لها مخصص وكذلك ذكر الاستثناءات الواردة على تلك الآية والتدليل عليها
فيقول ناقلا عن ابن عطية رحمه الله (( ولفظ هذه الآية عام في جميع الأعمار )) ويقول كذلك (( وأما معاملة اليهود والنصارى من غير مخالطة وملابسة ، فلا يدخل في النهي ، وقد عامل رسول الله يهوديا ورهنه درعه ))

الطبقة الثانية : خصوص الأمراء والولاة من حيث الإستعانة به ، ومن موارد النهي فيها موضعان :

  • الجهاد على المشهور ، قال في المدونة : ولا يستعان بالمشركين في القتال إلا أن يكونوا نواتية أو خدما

فيأتي الإمام ابن الأزرق على مثل هذا النقل ويعضده ويدعمه بالحجة والدليل

  • في الولاية والاصطناع . قال ابن العربي :(( لا ينبغي لأحد من المسلمين ولي ولاية ، أن يتخذ من أهل الذمة وليا فيها ، لنهي الله عن ذلك ، لانهم لا يخلصون النصيحة ، ولا يؤدون الأمانة ))

ويأت على هذا النقل فيعضده  ويمحصه ويحقق القول فيه بذكر عمل السلف

فهنا تظهر ملكة ابن الأزرق في استحضار الاقوال في النازلة التي يحققها وقدرته على سياق الدليل في مظنه مشفوعا بالتقييد أو التخصيص .

كان هذا تعريج سريعا على أمثلة لمحاولة الكشف عن الملكة وصورها من مهارات فقهية كان يستعملها فقهاؤنا للتعامل مع النوازل السياسية ، وربما يفرد لهذا البحث من الوقت والجهد الكثير لمزيد تتبع لطرائق الفقهاء في التعامل مع النوازل وكيفية التصرف فيها ومهاراتهم الفقهية .

وفي النهاية أسأل الله العظيم أن يجزي علمائنا عنا خير الجزاء على ما قدموه وبذلوه وأن يعيننا على الوفاء لهم وشكرهم على عنايتهم وضبطهم وتحقيقهم ، وأن يجعل سعى طلبة العلم للكشف عن مناهجهم وطرائقهم خطوة في نهضة هذه الأمة ومواجهة نوازلها الفقهية والسياسية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى