- ماسيمو بيلوتشي
- ترجمة: أسماء الشهري
- تحرير: محمود سيّد
- مراجعة: أروى الشاهين
على الفلاسفة أن يتوقّفوا عن نقض غزلهم أنكاثًا!
أحد خصائص الفلسفة بصفتها مجالاً بحثيًا أنها تُعتبر فريدةً من نوعها بين مساعي البشرية، إنها أيضًا تُسائِل نفسها بنفسها؛ وكان هذا سِمَتها منذ زمن سقراط وإبكتيتوس.
انظر على سبيل المثال ما يقدمه إبكتيتوس في “المحادثات” (1.1.1-4):
“الآن إذا كنت تكتب إلى صديق، فإن قواعد النحو ترشدك أنك بحاجة إلى الكتابة بأحرف معينة، لكنها لن تخبرك إذا كان عليك الكتابة لصديقك أم لا؛ نفس الشيء في علاقة الموسيقى بالأغنية، فلن يُقال لك إنك في هذه اللحظة عليك الغناء أو العزف على القيثارة أو لا يجب عليك فعل ذلك. إذن أيّ مَلَكة تلك التي تُرشدك في هذه المواضع؟ إنها تلك الملكة التي تعرف وتدرك نفسَها كما تدرك كلَّ شيء آخر، وماذا عسى أن تكون؟ إنها ملكة العقل؛ نعم، إنها القدرة الوحيدة لدينا التي يمكنها أن تدرك نفسها -ماهيتها وقدراتها وقيمتها- وأيضًا تدرك كل شيء آخر”.
كان هذا في سياق المناقشة مع طلابه عن طبيعة الفلسفة، والتي بالطبع تعتمد ممارستها على “ملكة العقل”. (بطبيعة الحال في الوقت الحاضر سنُدخل العلوم المعرفية تحت نفس المظلة).
مثل هذا الميل إلى الفحص الذاتي -أو بالأحرى تلك الجرعة المكثفة منه- هو أحد الأشياء الأولى التي لاحظت بالفعل انتقالها من العلم إلى الفلسفة (من الناحية الأكاديمية)، وهو أمر مرحّب به للغاية. وخير مثال على ذلك هو سلسلة المقالات التي نشرتها مدونة Stone في New York Times والتي تركز على ما إذا كانت الممارسة المهنية للفلسفة لديها ما تقوله حول التنوع الجندري (على الرغم من أنني أعتقد أنها لا تزال مناقشةً محدودةً بين المجالات الأكاديمية، ناهيك عن كونها منتشرةً في المجتمع كلِّه). واستجابة جزئية لهذا، كثَّفت الجمعية الفلسفية الأمريكية جهودها لمعالجة المشكلة على المستوى المؤسسي (وهي استجابة لا تزال نادرةً في مجالات أخرى).
لكن؛ يمكن أن يصبح النقد الذاتي بحدّ ذاته مجرد “موضة” عصرية، أو يمكن أن يبدد الجهود ونسف الأعمال التي بذل فيها أصحابها جهدًا. خطرت هذه الفكرة في ذهني أثناء قراءة مقال روبرت فرودمان وآدم بريغل بعنوان “عندما ضلّت الفلسفة طريقها” (لم يمضِ وقت طويل حتى انتشر رابط المقالة، وقد غرّد به على الفور وبدون تفكير “نُقّاد” الفلسفة المعروفون، مثل المؤلف والخبير في “كل شيء” سام هاريس، والفيزيائي لورانس كراوس صاحب مقولة أن “العالَم جاء من لا شيء، طالما أنني أفهم اللاشيء بطريقتي الخاصة”).
لقد أوضح فرودمان وبريغل نقاطًا جيدةً، لكنني أعتقد أنهما يذهبان بعيدًا، وربما ليسا يقوضان ما كتباه فقط، بل مصداقية الفلسفة بشكل عام. دعونا نُلقِ نظرةً.
لقد بدآ بملاحظة أن الفلسفة أصبحت مجالًا أكاديميًّا في نهاية القرن التاسع عشر، ورأيا أن “إضفاء الطابع المؤسسي على الفلسفة جعلها مجالًا لا يمكن متابعته بجدية إلا في إطار أكاديمي، وتمثل هذه الحقيقة أحد الإخفاقات الدائمة للفلسفة المعاصرة”.
لماذا حدث هذا؟
وفقًا للمؤلفَين كان ما فعلته الفلسفة ببساطة هو زيادة أهمية العلوم الطبيعية، مما جعل الفلسفة تخصصًا “إضافيًا” إلى جانب هذه العلوم داخل الجامعات الحديثة… وإذا كنا نطمح إلى مكان آمن للفلسفة في الأكاديمية، فإنها بحاجة إلى مجالها المنفصل، ولغتها الغامضة الخاصة، ومعاييرها الخاصة للنجاح والتقدم، واهتماماتها المتخصصة… لقد اعتمدت الفلسفةُ الطريقةَ العلميةَ لإنتاج المعرفة، لكنها فشلت في ملاحقة العلوم في إحراز تقدّم في وصف العالم”.
الآن يمكنك معرفة سبب عدم تمكّن هاريس وكراوس من مقاومة الرغبة في الضغط على زر “تغريد” ومشاركة المقالة!
ويُواصلان: “نحن أيضًا ننتج مقالاتٍ بحثيةً، ويُحكم علينا أيضًا بنفس الطريقة السائدة في المجال العلمي: مراجعة الأقران؛ ونحن أيضًا نطوّر تخصصاتٍ فرعيةً بعيدةً عن فهم الشخص العامّي في الشارع؛ وفي كل هذه الطرق نحن “علميّون” للغاية”.
هذا -على ما يبدو- أمر سيء حقًا؛ لأن بهذه الطريقة يجب علينا النظر إلى الفلسفة كما فعل سقراط، أي على أنها “تبشير -تمامًا مثل الكهنوت-… لأن هدف الفلسفة هو أن تصير صالحًا بدلاً من أن تكون مجرد جامع للمعرفة أو مُنتج لها”.
واستنتجا أنه “مثل ما حدث في العلوم، أصبحت الفلسفة إلى حد كبير مشروعًا تقنيًّا، والفرق الوحيد هو أننا نتلاعب بالكلمات بدلًا من الجينات أو المواد الكيميائية. لقد ضاع مفهوم الفطرة السليمة القائل بأن الفلاسفة يبحثون عن الحياة الجيدة، وأنه يجب علينا –مع أننا نخفق- أن نكون مواطنين صالحين وبشرًا جيدين. لكن بمجرد أن أصبحنا متخصصين= فقدنا رؤيتنا الكلية، وأصبح الهدف من الفلسفة الآن هو أن تكون ذكيًّا لا أن تكون صالحًا. إن هذا هو جوهر تراجعنا”.
اسمحوا لي أولاً أن أقول أين أتفق مع المؤلفَين: نعم، يجب أن تكون الفلسفة حاضرةً خارج الأكاديمية؛ نعم، يجب أن يتحدّث الفلاسفة عن الأشياء المهمة؛ ونعم، يجب أن يكون الحوار الفلسفي سائدًا في المجتمع ككل.
لكن؛ لا شيء من هذا يتعارض مع كون الفلسفة (أيضًا) تخصصًا أكاديميًّا، له مفرداته التقنية الخاصة، ويسعى لحلّ مشاكله المتخصصة. لننظر إلى المجالات الأكاديمية الأخرى: لا أرى أن وجود أقسام اللغة الإنجليزية يمنع الأدب -بطريقة مّا- من أن يكون ذا حضور مجتمعيّ ويمكن أن يصل إليه أيّ فرد؛ كما لا يعني وجود دراسات أدبية أكاديمية أن الأشخاص الذين ليس لديهم درجة الدكتوراه في اللغة الإنجليزية لا يمكنهم كتابة كتب ممتازة بأسلوب رفيع. علاوةً على ذلك؛ هناك الكثير من الأمثلة على أكاديميين في تلك الأقسام يُشاركون أفكارهم أيضًا مع جمهور أوسع، ويعملون في نفس الوقت داخل الأكاديمية وخارجها. يمكن قول الشيء نفسه عن الفن والقانون والأعمال، وبالطبع العلوم الطبيعية والاجتماعية. ما فعله فوردمان وبريغل هو تشييد ثنائية خاطئة، ربما لا تكون موجودةً أصلًا.
علاوةً على ذلك؛ أعتقد أن تحليلهما التاريخي خاطئ. لم تنشأ الفلسفة الأكاديمية على أنها ردّ فعل على صعود العلم وتقدمه، كل ما على المرء فعله هو قراءة مقال تشارلز بيرسي سنو الشهير بعنوان “الثقافتان”، والذي نُشر في أواخر عام 1959؛ لكي يقف على حقيقة واضحة بأن العلوم الإنسانية كانت مُهيمنةً داخل الأكاديمية حتى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعدها فقط بدأت العلوم في السيطرة، وهو الوضع الذي ترسَّخ الآن في الوضع الراهن. مرةً أخرى ما يؤصِّله مقال فرودمان وبريغل ليس بصحيح؛ لقد دخلت الفلسفة أسوار الأكاديمية لأن جميع مجالات البحث سارت على هذا النحو؛ وربما كان هذا جزئيًّا نتيجةً للثورة الصناعية وصعود الرأسمالية، فضلًا عن العوامل الديموغرافية، التي أدّت جميعها إلى زيادة هائلة في عدد الأشخاص الذين يتابعون دراساتهم في الفنون والعلوم الإنسانية والعلوم. وبذلك زاد الاتجاه إلى احتراف هذه التخصصات وتحوّلها إلى مهن أكاديمية.
صحيح أن الفلاسفة المحترفين – عامة- يعملون على قضايا أضيق وأضيق، وذلك في جزء منه هو استجابة لسياسة “إما النشر أو الإقالة” التي تتبعها الأكاديميات، وأيضًا لأن كل شيء ذي أهمية حول فكر سقراط وكانط وغيرهما قد قيل بالفعل، وليس مرةً واحدةً، بل مراتٍ عديدةً، لذلك يحتاج المرء إلى ابتكار مجالات جديدة (وبحكم الضرورة تكون أضيق) ليكون بإمكانه الادّعاء بأنه قام بشيء جديد، ومن ثمّ تزيد احتمالات بقائه على “قيد الحياة” في سباق الفئران الأكاديمي.
لكن هذا -مرةً أخرى- يسري على جميع التخصصات. قبل أن أصبح فيلسوفًا كنتُ عالم أحياء تطورية، ولا أستطيع أن أخبركم عن كمّ الندوات البحثية المُمِلّة والتي لا طائل من ورائها التي كان عليّ أن أحضرها فقط لأن الكثير من الأشخاص اللامعين اضطروا إلى قضاء سنوات من أجل تقديم أوراق اعتمادهم لتعزيز حياتهم المهنية، هذا إلى جانب حقيقة بسيطة؛ مفادها أنه لا يوجد العديد من أمثال “داروين” يتجوّلون في الأكاديميات هنا وهناك، وليس هناك تلك الأشياء العديدة الجديدة الرائعة لاكتشافها… الأمر كله هو كما قال توماس كون في مقولته الشهيرة “إن الكثير من العلوم هي حلّ لألغاز، وليست تغييرًا للنموذج السائد”.
هل إصلاح الأكاديمية هو بأن نُقاوم الميل إلى طرح أكبر عدد ممكن من وحدات الـ LPU (أقلّ وحدات قابلة للنشر)؟ هل يجب أن نشجِّع الجيل القادم من الأكاديميين على طرح أسئلة أكبر وأكثر غموضًا والتحدّث إلى الجمهور الذي يموِّل مِنَحهم الدراسية؟ إطلاقًا. لكن؛ هذه ليست مشكلةً خاصةً بالفلسفة، والتظاهر بخلاف ذلك هو حالة من الغطرسة (نحن رائعون جدًّا ومختلفون عن بقية الأكاديميين!)، ويؤدّي إلى نتائج عكسية تمامًا (أي إعطاء المزيد من الزخم لمن يحطّ من أهمية الفلسفة لتظهر لنا نسخ أخرى من هاريس وكراوس!).
دعونا نعمل معًا لجعل الفلسفة، والدراسات الأدبية، والتاريخ، والقانون، وعلم النفس، وعلم الأحياء، والفيزياء وجميع التخصصات الأكاديمية الأخرى أكثر فاعليةً فيما تهدف إلى القيام به على الجانب التقني، وأكثر تفاعلًا واستجابةً لعامة الناس. لكن في نفس الوقت دعونا لا نلاحق تلك الأهداف النبيلة بأن نجلد أنفسنا أو ننقض غزلنا أنكاثًا، ونُهدر الجهد الشاقّ الذي يبذله العديد من الزملاء.
اقرأ ايضًا: عندما ضلت الفلسفة طريقها