- ديفيد أنتونيني
- ترجمة: ريداء السلطان
- تحرير: نوال السنان
حنا آرنت (1906-1975) المولودة في هانوفر بألمانيا، مفكرة ولاجئة ومراقبة للسياسة الأوروبية والأمريكية ومعروفة بشكل خاص بتفسيرها للأحداث التي أدت إلى صعود الشمولية في القرن العشرين، كما أنها درست الفلسفة تحت إشراف الفيلسوفين الألمانيين مارتن هايدجر وكارل جاسبرز، ثم تابعت مسارها الأكاديمي وكتبت مقالة عن القديس أوغسطين، وقد غيرت الهولوكوست مسار حياتها لكونها يهودية، كما أن صعود هتلر واستيلاء النظام النازي على السلطة اضطرها للهروب باحثة عن ملجأ في فرنسا والولايات المتحدة، وبعد الحرب العالمية الثانية أصبحت تكتب عن السياسة لا من حيث المعنى الفلسفي التقليدي بل اتجه إنتاجها أكثر إلى السياق السياسي لتفسير أحداث القرن العشرين.
في هذا النص عرض لبعض الأفكار المركزية لفكرها السياسي وعن كيفية تطويرها للتغلب على نسيان السياسة كنقاش عام كما في ألمانيا النازية.
1- الشمولية وفقدان الحوار العام
تفهم آرنت السياسة باعتبارها مناقشة عامة تدور بين أفراد المجتمع حول جوانب هادفة من حياتهم المشتركة حيث إنها شَهِدت انهيار السياسة في ظل الحكم الشمولي النازي، ويسعى هذا الشكل من الحكم إلى تقليص الحوار العام بجعله انتقادًا للنظام ويعد عملاً إجراميًا، كما أنها سعت إلى فهم هذا الشكل غير المسبوق من أشكال المحكمة والدفاع عن الحوار العام ضد التهديدات التي تَعرِض لها، حيث أنها دافعت من خلال كتاباتها عن أهمية المناقشة العامة وقد شهدت مع المواطنين الألمان في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي ما يمكن أن يحدث في غياب هذه المناقشة، كاستبدال الواقع بآخر مُفتعل قائم على رؤية القائد الذي يحظى بقبول المواطنين من ذوي النوايا الحسنة، وبدون الحوار العام فإن نظام الحاكم يتمتع بحرية كاملة لتكوين سرد مزيف عن الواقع، وإدامة هذا السرد والحفاظ على السلطة لأنه ليس هناك ما ينافسها.
2- التعدد و”الوضع البشري”
يتضمن نص آرنت ١٩٥٨م عن الوضع البشري بعض الرؤى الأساسية وخاصة مفهومها عن التعدد الإنساني، فإن التعدد هو حالة أساسية من حياة الإنسان، فكما أننا متساوون من حيث إننا بشر فنحن مميزون فلا يوجد إنسان يشبه إنسانًا آخر، إن هذا التميُّز يمنحنا منظورًا لا يمكن أن يفهمه أي شخص آخر بشكل كامل، وعلى الرغم من ذلك فإن المساواة تعني أننا نعتقد -كافتراض مُسبق- القدرة على الكلام والحوار العقلاني فيما بيننا.
وعلى أساس التعددية فالسياسة إذن هي نشاط ومكان الاتصال المشترك القائم على وجهات النظر المتميزة للبشر المتساوين، وعندما ننخرط في الحياة السياسية فإننا نسعى إلى إيصال كيف تبدو الأشياء من منظورنا المتميز، بينما يفعل الآخرون الشيء نفسه، فبالنسبة لآرنت فإن نشاط مخاطبة بعضنا البعض علنًا حول كيف تبدو الأشياء من وجهات نظرنا المتميزة هو شريان الحياة السياسة.
تتم مشاركة وجهات نظرنا مع الآخرين في الفضاء العام والذي يجب الحفاظ عليه إذا أرادت السياسة الديمقراطية أن تحافظ على إمكانية قابلة للتطبيق، ويُدَمَّر هذا الفضاء العام في ظل الأنظمة الشمولية التي وجدت في القرن العشرين.
3- السلطة من خلال العصيان المدني
ما الطريق التي تقترحها آرنت للحفاظ على الحوار العام؟
تكمن الإجابة في الطريقة التي تعيد بها آرنت التفكير في مفهوم السلطة، غالبًا ما نربط السلطة كمفهوم سياسي بالحكام والحكومات والساسة الذين يحتفظون بالسلطة، كما لو أن السلطة هي شيء يُمتلك مرة واحدة وإلى الأبد، فكثيرًا ما نسمع عبارة مفادها أن السياسيين لا يهتمون بناخبيهم بل يهتمون بـ “البقاء في السلطة”، إلا أن آرنت تعتبر السلطة الشرعية هي الموجودة بين المواطنين عندما ينخرطون في العمل السياسي معًا، في حين أن السلطة التي يمارسها الحكام من خلال استخدام الإرهاب والعنف غير شرعية، وتقول: ” إن السلطة تخرج من بين رجال يتصرفون معًا وتختفي لحظة تفرقهم”.[1] فعندما تقرر مجموعة من البشر العمل من أجل غرض سياسي محدد فإن سلطة بينهم تجعلهم يتعاونون معًا لتحقيق الهدف السياسي؛ ويمكننا القول أن السلطة هي ما “تجمعهم معًا” وبين هويتهم كمجوعة وليس مجرد تجمع من أفراد مختلفين.[2]
بالنسبة إلى آرنت، فإن مثال السلطة التي تحافظ على الفضاء العام هي فِعل العصيان المدني، وخاصة الحركات المختلفة خلال العقود المضطربة في منتصف القرن العشرين في الولايات المتحدة، والتي كتبت عنها آرنت: “عندما يجتمع المواطنون معًا للاحتجاج على قانون غير عادل فهناك سلطة ما بينهم، إن العمل العام للاحتجاج على القوانين الجائرة هو مظهر من مظاهر الفضاء العام الذي نوقش أعلاه”.[3]
إن التفكير في السلطة مثلما تراها آرنت يعني أن أولئك المنخرطين في العصيان المدني يحاولون استعادة مساحة النقاش العامة، فمن خلال سن قوانين غير عادلة أساءت الحكومة استخدام الشرعية التي أوكلت إليها، ومن خلال العصيان المدني يحاول المواطنون استعادة تلك الشرعية.
إن استعادة المجال العام للنقاش آلية فعالة للمواطنين عندما يعتقدون أن الحكومة فقدت شرعيتها، يتضمن النقاش العام القوي في العديد من الأشكال أن النظام الحاكم ليس هو فقط الذي يحدد معايير النقاش العام خاصة إذا حاول إغراق المعارضة، مثال: عبر نزع الشرعية عن وسائل الإعلام أو الصحافة يتنافس النقاش العام مع محاولات القادة السياسيين لاستبدال الحقائق الملفقة من أجل الحفاظ على السلطة.
باختصار يتم الحفاظ على الفضاء العام من خلال القوة التي “تنبع” بين المواطنين عندما يجتمعون معًا، يشير الفضاء العام إلى نشاط النقاش المشترك بين مختلف البشر؛ ويتم الحفاظ على هذا الفضاء والنشاط طالما توجد فرص لتجمع المواطنين.[4]
الخاتمة
إن الفكر السياسي لدى آرنت يعتبر فريدًا من نوعه من بين المفكرين السياسيين لأنه لا يضع برنامجًا نظريًا مثل العقد الاجتماعي أو نظرية العدالة؛ فإن الفكر السياسي الذي تفكر فيه آرنت يشكل وجودياً محاولة فهم كيفية فقدان مساحة معقولة ذات مغزى للسياسة والحوار العام وكيف يمكن إعادة إحياء هذه المساحة من خلال العمل السياسي، فإن الظروف السياسية الحالية وخاصة مع صعود الحركات القومية والشعبوية في جميع أنحاء العالم تتحدث عن أهمية الحوار العام النشط بين المواطنين.
[1] Hannah Arendt, The Human Condition (Chicago: University of Chicago Press, 1958), 200.
[2] رؤية آرنت أن السلطة تجعل المجموعة متماسكة بديهية إلى حد ما، فيجب على أي مجموعة من الأشخاص الذين يقررون تحقيق هدف مشترك أن يعملوا معًا وألا يكونوا متعارضين، إن الاتفاق والعمل معًا يعني أن المجموعة لديها سلطة وقوة ما، ولكن إذا تشاجروا وسعوا وراء مشاريع منفصلة فلن تكون هناك سلطة.
[3] See Hannah Arendt, “Civil Disobedience” in Crises of the Republic (New York: HBJ Publishing, 1970)
[4] كان المفكر الألماني في القرن العشرين يورجن هابرماس قريبًا من آرنت في تفكيره في الفضاء العام أو المجال العام، لا سيما في إصراره على أشكال معينة وواضحة من الكلام والتواصل، ففكرته هي أن النقاش العام يمكن أن يستمر من خلال ما يسميه “قوة الحجة الأفضل”، ويرتبط هابرماس وكذلك راولز عمومًا بمدرسة للفكر السياسي تُعرف باسم الديمقراطية التداولية، حيث يكون التركيز على النقاش العام أمرًا ضروريًا. يمكن اعتبار جوانب من فكر آرنت ينتمي إلى هذه المدرسة الفكرية، ومع ذلك فإن أطروحاتهم عن المجال العام (في حالة هابرماس) أوالعقل العام (في حالة راولز) تنتمي إلى سلالات أكثر مثالية من النظرية السياسية في حين أن التفكير السياسي لآرنت له نقطة انطلاق مختلفة.