- نورة الأمير
أتابع أسئلة الفتيات المتتابعة حول هناء -رحمها الله- لإحدى صديقاتها، تساؤلات عن هذه الفتاة التي علا ذكرها، وارتفع اسمها بمجرد وفاتها، الكل يبحث عن السر، ويحمله التوق للخلود للبحث عن سر تخليد اسم دون غيره.
جاء تعليق أحدهم محمّلاً بالكثير من التفسيرات والتعليلات النفسية والاجتماعية قائلا:
“هناء هذي منفوخة”
وبعيدا عما تحمله تلك العبارة العصرية بامتياز من معان، إلا أن هذا الوصف الذي دائما ما يجيء في سياق وصف فيلم أو مسلسل، جاء باهتا سمجا ثقيلا في وصف مسيرة إنسان، وكأنما لكي تقنع هذا الجيل بحسناته فأنت بحاجة لبطولة مارفيلية، وقيم إنسانوية، وسيرة ملحمية تنتهي باستشهاد البطل في سبيل قضيته، وهنا مكمن الخلل والنقص.
هل هناء حقا كما يقول “منفوخة”؟
إذن وبعيدا عن محاولة تشخيص حال السائل وتحليل سؤاله، سنسعى لأن نكون منصفين وموضوعيين مع السؤال ونجيب عليه بكل بساطة:
أولاً: وفي إطار واقع مواقع التواصل الذي من عادته “نفخ” التافه، وتعظيم الحقير، والاهتمام بتوافه الأمور، فإن ارتفاع وسم باسم مغردة لها صولات وجولات بعد وفاتها يعد أمرا مفهوما ومعقولا، وهل يستكثر ببضع كليمات ترثى بها أخيتنا؟ أم أن اعتياد المرء على تعاقب المواضيع السريع، واعتياد الأذن على كثرة الأخبار وتنوعها، أفقد المرء القدرة على تمييز ما يستحق الوقوف أمامه طويلا، وما حقه المرور الباهت السريع؟
ثانيا: قصر عمر هناء وصغرها، فقد توفيت وهي في الثامنة والعشرين تقريبا، وبداية طلبها الجادة للعلم كانت في أوائل العشرينات، ولعلها ممن ينطبق عليه حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد اللهُ عز وجل بعبْدٍ خيرًا عَسَلَه))، قيل: وما عَسَله؟ قال: ((يفتَح الله عز وجل له عملًا صالحًا قبل موته ثم يَقْبِضُه عليه)) [السلسلة الصحيحة].
فالقفزات الهائلة في مستواها العلمي والمعرفي والعطائي، يوجب علينا أن نتلقى خبر وفاتها بهذا التفاعل، وأن نقابل سيرتها بهذا الاحترام، فأنت تقف أمام فتاة لها هذا الأثر الهائل في أبناء جيلها في عدد سنوات لا يقارب العقد! فما حصل ليس مجرد خبر فاجع لوفاة أحدهم، بل وفاة مغردة نشطة فجأة وهي في أوج شبابها، هذا الخبر بكل ما يحمله من حمولات ثقيلة على النفس: “مثل: طرح تساؤل الموت على النفس في مقتبل عمرها، وتساؤل الموت المفاجئ دون مقدمة مرض طويلة .. إلخ” يجعلك تشارك في مثل هذه الأخبار تفاعلا وتعزية وتأثرا، وتسائل نفسك: ما الذي فعلته هناء وفاتني؟
ثالثا: حرارة اتقاد الهمة، وشرارة حب الدين مما لا يمكن اصطناعه، كما يمكن تمييزه من البعيد قبل القريب، فتلك الحرارة في عطائها كانت سمة تميزها بالذات عن غيرها، كما أنها في ظني الدافع في تكثيف عملها، وافتتاحها لكثير من الحسابات رغم تنوعها. تشعر بأنها ملأى بالعلم، وبحاجة لتفريغ ما نضح منها في عدة مجالات، هذا الاحتراق الداخلي الذي قد ينعت اليوم بالقلق، ويصنف كمرض نفسي، أظنه داء العظماء والصادقين، ويا له من داء قد أضاع من صرفه في دنياه، وأمن من وضعه في أخراه.
رابعا: الجدية والمنهجية والالتزام في الطلب ومحاسبة النفس. من يعرف هناء يعلم جيدا مدى جديتها ومحاسبتها الشديدة لنفسها ونظامها الصارم في تنظيم وقتها. وجود عينة مثل هذه في زمن فائض بالتفاهة، زمن يستطيع إقناعك بعيش الحياة كما تحب وتريد، مع الاحتفاظ ببضعة تغريدات وعظية تسكت بها صوت ضميرك، لعمر الله أمر يصعب مجاهدته. كيف ولو أخبرتك أن هناء تعيش في أسرة ميسورة، جوها السائد ليس طلب العلم الشرعي، لن تحتاج لإثبات ذاتك بينهم لمسيرة علمية طويلة، فما الدافع الذي دفع هناء لدخول هذا العالم الطويل المرهق، والذي تحفه المكاره والصراعات؟ كما أن الواقع الاجتماعي يشهد توجها مخيفا وسريعا لوجهة الله وحده يعلم نهايتها، لكن الجميع متأكد أنها لا تمت للروح بصلة.. إذن ما الدافع؟ الإجابة في السر الخامس.
خامسا: وهنا نجد الإجابة الحقيقية على سبب التفاعل الواسع والشديد مع خبر وفاتها، وسبب ما ذكره المعلق من كونها “منفوخة”..
ألا وهو الصدق.
أحسبها كذلك والله حسيبها، لأنك حينما تجد المرء يحترق، يفلت يده -كما ذكرت- من كل لذائذ الدنيا ومغرياتها، يقاتل الألف هاجس وهاجس في داخله، يسعى لمحاولة تسوية الصراعات بداخله قبل خارجه، فاعلم أن قدمه لن تثبت إلا بصدقه، الصدق مع الله، الصدق مع النفس، الصدق مع الناس، والحديث عن الصدق يثير الشجن، ولو علم الناس أثر الصدق في التوفيق، لما أشاروا لغيره لو سئلوا عن أسباب نجاحهم، فالصدق مرآة، ولا يحتاج المرء قبل خوضه لغمار أي طريق إلا أن يعرف حقيقته وطوله ومدى وعورته، فمهما أوتي من أدوات وامتلك من مهارات، فإن عدم وضوح الطريق له، واشتباه الوجهة عليه، وخداع الدليل له، كل ذلك كافٍ في ضياعه وإن حال بينه وبين الوصول خطوة! وعلامة صدق صاحبتنا تيسير طريق الدعاء لها، وقد قرأت مرة عبارة موفقة لابن القيم يقول فيها: “فمتى وفق العبد للدعاء؛ كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد قُضيت” [الداء والدواء ٢٧/١ ]. فإذا كان العمل مما يراه الناس ويفهمونه، فإن الإيمان يسبقه ويثبت قدم العامل قبل الإقدام على عمله. وما لم يعه السائل هو ما يعيه المسلم الحق حين يقرأ قول الله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ الرَّحمَـنُ وُدّاً} (مريم: 96).
نعم أيها السائل، هناء -لا أطفأ الله اتقادك- “منفوخة” بالهم الدعوي، والجدية، والالتزام، لقد كتمت أنفاسها كثيرا وطويلا لكي تحافظ على ما بداخلها، لقد ملأت روحها بذلك كله حتى ارتفعت بعيدا، إلا أنك لو سألتني عن الوقود الذي أشعل روحها، والسر الذي رفع اسمها دون غيرها، فسأجيبك: الصدق..!
وما أصعبه في زمن بات الكل منا يغطي صدق ملامحه بزيف المساحيق، وصدق مشاعره بمستهلك العبارات. يغطي نداء فطرته الصادق كما يغطي عورته، ويداهن ضميره بالتبريرات حتى تختلط عليه الحقائق.
الصدق عزيز! وأعز أحواله حينما يكون مع النفس.
الصدق عزيز! وطريقه رغم استقامته محفوف بالمكاره.
الصدق عزيز! ولا يملك إلا طريقا واحدا: يمر بالبر، وينتهي إلى الجنة.
اقرأ ايضًا: درس هناء الأخير!
لم اعرف هناء الا بعد وفاتها، لكن اثر سيرتها على قلبي عظيم.
تغيرت بعد وفاتها واصبحت اصلي الليل واذكر الله ما استطعت
وانا التي كنت بعيده عن الله
يا كم مرت علينا وفاة ولم تؤثر ١٪ في القلب لكن وفاتها فيه ترغيب للأخرة، جعلتني افكر في مصيري الاخير بتمعن.
الله يجمعنا في جنات النعيم جنة الفردوس
سلمت يدك على هذه الكلمات التي ترجمت مشاعري حقيقة،
رحم الله هناء وألحقنا بها غير خزايا ولا مفتونين.