براند وفيلب يانسي كانا موفقين حين اهتديا لهذا العنوان لكتابهما مع أن الكتاب طبي يتحدث عن نعمة الشعور الحسي بالألم المادي ومأساة فقدان الأعصاب للشعور بشكل خاص، ومن ثَمّ، لم يوافق حدسي عندما طلبت الكتاب حين ظننت موضوعه كل آلام البشر المادية والمعنوية الجسدية والروحية.
لكن العنوان نفسه جدير ببذل ثمن الكتاب وموضوعه أيضًا.
لقد أيقنا من الكتاب أن إحساس أعصابنا بالألم هو عطية الله لنا لحراسة أعضائنا وأجسادنا من التلف والفناء، لكن هل الألم بالمعنى العام هبة وعطية ونعمة أيضًا؟
هل يجدر بنا أن نستشعر نعمة اختناقنا بالأحزان واصطلائنا بالألم ونحتفي بها؟
وللجواب على هذا السؤال: لا بد من القول إن الألم كما هو اسمه وحقيقته: ألم. لا يمكننا تزييف حقيقته وخداع مشاعرنا واعتبار الصداع والجراح والأوجاع والأحزان والقلق والتعب وفقد الأحبة والوحشة والخوف شيئا غير حقائقها، لا يمكن أن يكون الألم في ذاته شيئًا جميلاً إلا إذا فقد حقيقة كونه ألمًا.
ولكن هل يمكن القول بأن الألم رغم مراراته ونفور نفوسنا منه وكراهيتنا له وعذابنا به …نعمة؟
بكل تأكيد نعم .الألم نعمة وهبة.
بل إنه من أعظم الهبات والعطايا ومن أبين دلائل رحمة الله ولطفه بعباده. ورغم لهجنا ودعائنا وافتقارنا المشروع بكل إلحاح: أن يجنبنا الله الألم
لكن مع ذلك يبقى الألم نعمة كبرى.
ولو أننا نملك الآن الوعي بالحقائق بنفس اليقين الذي سيكون لنا في الآخرة لكنا نطلب من ربنا المزيد من الألم فعند الترمذي: “ليودَنَّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ أنّ جلودَهم قُرضت بالمقاريضِ، مما يروْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ”.
لماذا الألم نعمة؟
الخطايا حتم على بني آدم في كل صباح تستيقظ ذنوبنا معنا في أبصارنا وأيدينا وحياتنا المترعة بشراك الخطيئة. خطايانا أكثر من قدرتنا على الانتباه والإحصاء فضلا عن التكفير والتطهير. وفي الحديث القدسي (يا عبادي، إنّكم تُذنِبونَ باللَّيلِ والنَّهارِ)
الذنوب روزنامة يومية للآدمي متكررة بتكرر أنفاسنا
الكثير منها يعفو الله عنه بلا سبب منا بل برحمة منه
قال تعالى: ﴿وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾
وبعد الكثير يبقى الكثير والكثير من الآثام.. تلاحقه النفوس المؤمنة بالتوبة بالاستغفار والأعمال الصالحة المكفرة ويبقى الكثير وهنا يأتي الألم، في صحيح مسلم: (أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الفَرْخِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: هلْ كُنْتَ تَدْعُو بشَيءٍ، أَوْ تَسْأَلُهُ إيَّاهُ؟ قالَ: نَعَمْ؛ كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنْتَ مُعَاقِبِي به في الآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لي في الدُّنْيَا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: سُبْحَانَ اللهِ! لا تُطِيقُهُ -أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ- أَفلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قالَ: فَدَعَا اللهَ له، فَشَفَاهُ)
لقد فهم الصحابي فكرة التكفير..
لكنه أخطأ في ظنه أنه يمكنه تحمل آثار جميع ذنوبه في الدنيا. فأرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء ولم يخطئه في فهمه أن ما أصابه في الدنيا يسقط العقوبة في الآخرة لكنه بين له أنه لا يطيق ذلك كله.
الألم بمداه الواسع من أقصى الأوجاع الطاحنة والصدمات الكبرى والأثقال المنهكة المستديمة إلى العوارض الخفيفة إلى أدنى لحظة كدر عابرة وتغير مزاج وهم يسير كل ذلك كفارة.
كفارة وتطهير واغتسال في ذاته لا يفتقر إلى شيء آخر معه لا يفتقر إلى صبر ولا نية ولا احتساب.. يكفر بذاته. في صحيح مسلم (ما يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِن وصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتّى الهَمِّ يُهَمُّهُ؛ إلّا كُفِّرَ به مِن سَيِّئاتِهِ).
قال الشيخ ابن باز رحمه الله في شرح الحديث: “ثم ظاهر الحديث مطلقًا أن هذه كفارات، حتى ولو قدر أنه لم يحصل منه احتساب وصبر فهذه كفارات”.
وحينما سئل رحمه الله: هل لا بدّ من النية؟
الشيخ: “الظاهر لا، الكفارات ليس من شرطها النية، المصائب ولو من غير نية.”
قال ابن تيمية رحمه الله: “وأمّا نَفْسُ المُصِيبَةِ فَهِيَ مِن فِعْلِ اللَّهِ؛ لا مِن فِعْلِ العَبْدِ وهِيَ مِن جَزاءِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ عَلى ذَنْبِهِ وتَكْفِيرِهِ ذَنْبَهُ بِها”.
فالآلام المكفرة ثلاثة أنواع:
ألم يناله في سبيل المعصية فهو في ذاته كفارة وجزاء عاجل.
فلو كان في طريقه لمعصية فأصابه بلاء أو تعب أو هم أو خوف كان كفارة لكن هل تكفر جميع الذنب أو بعضه هذا بحسب الألم وحسب الذنب وعلم مقاديرها عند الله تعالى.
وألم يناله وهو في عمل مباح أو حال مباح فصبر واحتسب جمع الله له أجر الاحتساب وثواب الصبر مع كفارة الذنوب وإن جزع ولم يصبر.
لم يمنع كون الألم كفارة وذنب جزعه شيء آخر.
وألم ينال العبد بسبب سعيه لعمل صالح كتعب الصلاة والبر والسفر للحج ونحو ذلك
فهذا تكفير للذنوب وثواب للصبر وثواب عمل صالح.
قال ابن تيمية رحمه الله: “المصيبة التي تحصلُ بسبب العمل الصالح هي أعظمُ قدرًا؛ فإنها من العمل الصالح الذي يثابُ عليه، كجُوعِ الصائم وعطَشِه، وكتعب المسافر في حجٍّ، أو جهادٍ، أو طلب علمٍ، أو هجرةٍ في سبيل الله، أو تجارةٍ يستعينُ بها على طاعة الله، فإنه ما يحصلُ له من تعبٍ، وجوعٍ، وعطشٍ، وسهرٍ، وخوفٍ، وذهاب مالٍ، ونحو ذلك، حاصلٌ بفعله الاختياري الذي يفعله لله، مبتغيًا به وجهَ الله، فهذا مع ما يحصلُ له من تكفير السيئات، يُكْتَبُ له به عملٌ صالح” ا ه.
كل لحظة خروج منك عن منطقة الراحة والسعادة: فهي ألم وهي لا تخلو للمؤمن مطلقا من ثلاث حالات:
إما تكفير للذنب، أو تكفير وسبب لأجر الصبر، أو تكفير وأجر للصبر وعمل صالح في نفس الألم.
ومن يرد الله به خيرا يصب منه.
حين تذهب للعمرة فتتعطل السيارة فتعبك وحزنك وضيقك كفارة وصبرك عمل صالح وآلامك في ذاتها عمل صالح من نوع ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفّارَ ولا يَنالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيْلًا إلّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾،
وحين تذهب للمقهى فتندلق القهوة على ثوبك فاندلاقها وحزنك واتساخ ثوبك وكل خروج عن حالة الراحة كفارة،
فإن احتسبت وصبرت جمع لك مع الكفارة ثواب الصبر، فإن كنت ناويا بشرب القهوة الاستعانة على طاعة أو بر أو عمل تكسب منه لنفسك وأولادك كانت آلامك باندلاق القهوة في ذاتها عمل صالح.
وإن ذهبت (عافانا الله وإياك) لمعصية فصدمت في الطريق كانت الصدمة كفارة،
وربما كان ذنبك مثلها فتكفره كله أو مصيبتك أعظم فتكفره وتكفر غيره،
أو تكون دونها فتكفر بعضه وتخففه،
فلو صبرت مع ذلك نلت أجر الصبر على الألم.
وظاهر الحديث “ما يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِن وصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتّى الهَمِّ يُهَمُّهُ؛ إلّا كُفِّرَ به مِن سَيِّئاتِهِ“
أنه كلما عظم الألم كان التكفير أعظم.
وربما جزع الإنسان جزعا يأثم به لكن المصيبة أعظم من جزعه فتكفر إثم الجزع وتكفر غيره.
والله ذو الفضل العظيم.
الألم بكل أشكاله، والتعب بكل أنواعه، والمرض بكل صنوفه، والمكدرات والمنغصات والمزعجات، وكل درجات الألم، كل فقدان لحالة الراحة: دخول في منطقة التكفير والتطهير وتساقط الذنوب ومحو الخطايا.
هنيئا لك الهبة يا خامة الزرع.
شعور أعصابنا بآلام الوخز والاختراق والحر والبرد تحرس أجسادنا، وشعورنا نحن بالآلام تحرس آخرتنا..