مشاري الشثري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله .. وبعدُ:
فلا تزال قضية (التمذهب) قضيةً إشكاليةً، يختلف المتفقهة والباحثون في النظر إليها، وأحبُّ في هذه الكتابة أن أبسط القول حول بعض المغالطات المنهجية التي يقع فيها كثيرٌ من نقَّاد التمذهب، وليست هذه المغالطات واردةً بالضرورة على لسان كل ناقدٍ للتمذهب، كما أني لم أقصد هنا نقدَ أعيانٍ من أولئك النقَّاد، وإنما جهدي أن أقدم رؤية مقاربة حول التمذهب وترشيد القول فيه من خلالِ معالجة تلك المغالطات والتنبيهِ على مكامن الغلط فيها.
وترجع هذه المغالطات إلى قصورٍ لدى النقَّاد في إدراك حقيقة التمذهب، فقد نال تصوراتهم قصورٌ في إدراك مفهومه ووظيفته ومقاصده، وسينكشف ذلك باستعراض تلك المغالطات.
وقبل ذلك أنبه على أن هذه الكتابة ليست محاماةً عن مسالك المتمذهبة، وإنما أقصد إلى تحرير القول في مفهوم التمذهب ووظيفته بعيدًا عن مفصَّل مسالك المتمذهبة في تبنِّيه وتوظيفه.
(1)
أولى تلك المغالطات: التعامل مع التمذهب على أنه ضبطُ أقوالِ إمامٍ فحسب، وينبني على ذلك أن المتمذهب عندهم لا يعدو أن يكون مقلدًا محضًا ضابطًا لفروعِ إمامٍ فحسب.
وهذه المغالطةُ شائعةٌ في أدبيات نقَّاد التمذهب، وهي تدل على قصورٍ شديدٍ في إدراك حقيقة التمذهب وما كان عليه عمل العلماء على مر العصور في تمذهبهم.
وذلك أن الذي لا تخطئه عين كل مطالع لواقع المذاهب الفقهية واشتغالات علمائها أن التمذهب منهج اجتهادي متكامل يترقى فيه الطالب من رتبة إلى رتبة أعلى، والتقليدُ وإن كان مبتدأَ ذلك المنهج إلا أنه يفضي بالمتمذهب إلى شُعَبٍ من الاجتهادِ آخذٍ بعضها بحُجَز بعض، ثم المتمذهبة بعد ذلك على طرائقَ ومسالك، فمنهم الذي يسمو بهمّه إلى رتبةٍ من الاجتهاد عاليةٍ حسب ما أفاء الله عليه، ومنهم المقتصد دون ذلك.
فالتمذهب ليس مرادفًا للتقليد، وإنما هو منهجٌ في النظر والتفقه، يتحذَّق فيه المتمذهب بالأصول والفروع، سواءٌ المنصوصة عن إمام المذهب أو التي حصَّلها أتباعه رعايةً للمنهج الاجتهادي الذي جرى عليه .. فالتمذهب بذلك منهجٌ آخذٌ من كلٍّ من التقليد والاجتهاد بطرفٍ بحسب رتبة المتمذهب ومقامه من الفقه والتفقُّه.
وامتيازُ المذاهب الأربعة -التي هي محل التمذهب فيما استقرَّ عليه عمل الأمة- نابعٌ من قوتها المنهجية، وقابليَّتها لذلك الترقي لتكامل أدواتها وموادّها الفقهية، وانضباط نظامها الاستدلالي، فليست مجرد فهرسٍ لمختارات إمام في مسائل الفقه، فالأخذ بالتمذهب إذًا أخذٌ لنظامٍ وليس مجردَ أخذٍ لقائمةٍ فقهيَّةٍ تابعةٍ لأحد الأئمة.
ويؤكد ذلك أن اصطلاح (المذهب) وإن كان مبنيًّا في الأصل على فقه إمامٍ إلا أنه يتسع لأنماط اجتهادية أوسع، فهو يشمل ما يحصِّلُه أتباعُه، والوصف بالتبعية لا يقتضي التقليد المحض، بل هي تبعية اجتهادية على وفق نظامٍ قد تفضي بالمتمذهب إلى مخالفة الإمام نفسِه جريًا على القواعد.
وهذا وإن لم يكن متحقِّقًا في آحاد الطلبة ومبتدئيهم، إلا أن المترقِّي في تمذهبه يتحصَّل له ذلك شيئًا فشيئًا، ثم هو قد يفارقُ محجَّة مذهبه في مسائلَ وربما في أصولٍ ولا يخلع ذلك عنه وصف التمذهب بمفهومه العام.
ولأجل ذلك تجد أصحابَ المذاهب أنفسَهم -على تفاوتهم في ذلك بحسب رُتَبِهم- جدُّوا في إبداء المشكلات على مذاهبهم، وانتقاد الأقوال المدوَّنة فيها، وامتحان الأصول المخرَّجة منها، وهذا يلوح لكل مَن أجال نظرَه في مصنفاتهم، وما كان هذا منهم إلا لإدراكهم أن تمذهبهم نظامُ نظرٍ واجتهادٍ، وليس مجرد تقليدٍ وضبطٍ لمسرَدِ أقوال.
(2)
ثاني تلك المغالطات تكمن في تصوُّر أولئك النقاد لمفهوم (الاجتهاد)، وذلك أنهم في سياق نقدهم علماء المذاهب يرونهم حائدين عن سبيل الاجتهاد لعدم أو قلة (مخالفتهم) لإمامهم. حتى إنهم حين يفرضون السُّلَّم المثالي للمتفقه يختمونه ببلوغه رتبةً (يخالف) فيها إمامَه ومذهبه.
والمغالطة ها هنا في أن الاجتهاد عندهم إنما تُحصَّل ثمرته بحسب (مخالفة) المتمذهب لإمامه، فكأنهم لا يرون الاجتهاد إلا مخالفةً، وأما الموافقة فلا تكون إلا تقليدًا، وهذا فرعٌ عن تصورهم الخاطئ بأن التمذهب عبارةٌ عن تقليد منظَّم، وعليه فإن المرء عندهم لا ينال شعبةً من الاجتهاد إلا بقدر ما فارق به ذلك التقليد. وهذا بعض آثارِ تعامل أولئك النقَّاد مع المذاهب على أنها مجرد فهرسة لمختارات علماء، وليست أنظمة اجتهادية.
وأمَّا إذا قرأنا التمذهب قراءة صحيحة، وهو أنه نظام اجتهاد -وإن كان التقليد واقعًا في طريقه-، فإن المتمذهب حينئذ يكون في تمذهبه جاريًا على أصول اجتهادية ومسالكَ في النظر، هي تلك الأصول والمسالك المقرَّرة لدى إمامِ وأتباعِ ذلك المذهب، وما دام كذلك فالوجه أن يكون وفاقه لما تحصَّل من تلك الأصول والمسالك هو الغالبَ، وموافقته حينئذ لا تعني كونه مقلِّدًا لاختياراتٍ، بل هو جارٍ على وفق تلك الأصول الاجتهادية وما تحصَّل عنها من فروع.
ثم إن جريانه على ذلك يكون بحسب رتبته التعليمية، فليس الاجتهاد ضربةَ لازب، ولا هو رتبة واحدة، فالمتمذهب في أول أمرِه يكون أمسَّ بجانب التقليد لكون همِّه مسلَّطًا على تحصيل الفروع والاختيارات، وهذا هو اللائق بالمتفقه المبتدئ، فهو يتلقَّى الفقهَ عن طريق مذهبٍ حتى يُتقن أصوله ويضبط فروعه ويقف على مآخذه، ثم إنه في كل مرحلةٍ يتحذَّق بأصول مذهبه وقواعده ومآخذه، كما كان علماء مذهبه بطبقاتهم يترقَّون في تمذهبهم من منزلةٍ لأرفعَ منها.
والحاصل أن ما أذكره من كون التمذهب نظامَ اجتهادٍ لا يعني بالضرورة إفضاءَه بالمتمذهب إلى مخالفة مذهبه واستتباعه لذلك، بل الشأن في مدى اتصال تلك الأقوال بمسالك النظر ومآخذ الأصول، فالأصل أن ما قرره أئمة المذهب ملاقٍ لتلك الأصول، وعملهم ليس إلا مراعاة ذلك، وليس تقييدًا أعمى لمختارات إمامهم، بل ربما خالفوا قولَه أو خرجوا له قولًا آخر في مسألةٍ نصَّ عليها متى ما رأوا ظاهر قوله خارجًا عن أصول النظر المقررة لديه في مسائل أخر، فهم إن تركوا قوله فاتباعًا لدليل أو طردًا لقاعدة، ولا يخرج المرء بذلك عن كونه متمذهبًا.
فمَن سار في تمذهبه سيرة منهجية منتظمة فلن تكون مخالفاته كثيرةً ولا غالبةً إذا ما قورنت بموافقاته، شأنُه في ذلك شأنُ كثيرٍ من المجتهدين المنتسبين للمذاهب، وذلك أن الفرضَ اشتراكُ قاعدة النظر، وإذا اشتركت الأصول اشتركت الفروع المحصَّلة، ولكن قد يقع إخلالٌ بالتفريع فتحصل المخالفة حالتئذ، ثم قد يقع الخلاف في أصل كلي فتزداد نسبة المخالفات مع بقاء صفة الانتساب للمذهب للاشتراك في غالب أصول النظر، ولذا تجد أتباع المذهب المعين يتفاوتون في نِسَب مخالفتهم للإمام، لكن لا تطغى مخالفاتهم على ما وافقوا فيه إمامهم، مع نوالهم رتبًا من الاجتهاد الفقهي.
واعتبرْ ذلك في مثل الإمامَين ابن قدامة وابن تيمية رحمهما الله:
فكلٌّ منهما متخرِّجٌ بمذهب الحنابلة، منتسبٌ إليه، وكلٌّ منهما يتعامل مع بقية أتباع المذهب على أنهم أصحابه، يحكي أقوالهم ويُعنى بها عنايةً خاصَّة زائدةً على عنايته بغيرهم من علماء المذاهب، كما تجد أقوالهما وأنظارهما وثيقة الاتصال بالمذهب أصولًا وفروعًا، وتجدُ لابن تيميَّةً ميلا زائدًا لفقه أحمد وإعلاءً من منهجه بل وانتصارًا لمفاريده التي انفرد بها عن سائر أهل العلم.
ثم إن كلًّا منهما وإن اختلفت درجة خلافه للإمام إلا أن الموافقة هي الغالبة عليه، فهم موافقون للمذهب موافقةً غالبةً، ومخالفون فيما وراء ذلك، مع الإقرار بأنَّ مخالفة كلٍّ منهما تختلف عن الآخر كمًّا وكيفًا بحسب تصرُّف كلٍّ منهما بأصول إمامه ومدى وفاقه وخلافه لتقريرها والتفريع عليها وتحصيل المدارك والمآخذ الجزئية لمفصَّلها والتي يتمايز فيها النظّار تمايزًا واسعًا في نظرهم وتخريجهم.
بل تجد ابن تيمية في كثيرٍ من مخالفاته لمشهور المذهب يَجْهَد لرَدِّ ذلك لأصل أحمد ونصه، وما ذلك إلا رعايةً منه لهذا النمط من الاجتهاد، فليس القصد أن يُثبِتَ مخالفاته لإمامه، بل تراه حريصًا على إثبات موافقة ما صار إليه لما عليه الإمام أحمد، مع مخالفته له في مسائل أخرى نظرًا لافتراق نظره في بعض أنحاء الأصول الاجتهادية وكثيرٍ من المآخذ الجزئية، فهو من جهةٍ موصولُ النسبة لأصول أحمد ومن جهةٍ أخرى له سمته الخاص واجتهاده الفرد، وهو ما فقهه الحنابلة أنفسهم فجعلوا أقوالَه كلَّها من جملة المذهب، وهذا ما لم يدركه كثيرٌ من نقَّاد التمذهب ولا غلاة المتمذهبة.
والإشكال الذي يقع فيه نقَّاد المتمذهبة فيما يتصل بابن تيمية أنهم يتوسَّلون بنموذجه لتوهين أصل التمذهب، لا لتفعيله وترشيد القول فيه، والفرق بين المسلكين كبيرٌ جدًّا. كما أنهم يغالطون الواقع حين يخاطبون بدايات المتفقِّه بنهايات ابن تيمية، وهذا قلبٌ لهرم التفقُّه.
والحاصل من استحضار طريقة هذين الإمامَين أنهما مع علو رتبتهما الاجتهادية لم يزالا في فقههما موصولَين بفقه إمامهم، وإن كان لكلٍّ منهما بعد ذلك مسلكٌ فرد ونمط خاص.
والذي ينبغي التوكيدُ عليه هنا أن يُرشَّد التمذهب بتصرُّفات علماء المذاهب بمختلف طبقاتهم، وباختلاف مقاصدهم وأغراضهم، حتى يكون المتفقهة على وعيٍ بمسارات التفقه وطرائق الترقي في الاجتهاد والنظر، لا أن يُسلَك بهم سبيلٌ واحدٌ، وأن تُبيَّن للمتفقهة مكامن الاجتهاد في التمذهب ومدارجه، وهذا ما أخلَّ به أنصار التمذهب ونقَّاده على حدٍّ سواء، فليس الإخلالُ بهذا المقام خاصًّا بنقَّاد التمذهب، بل هو واقعٌ أيضًا عند كثير من المتمذهبة الذين جمدوا على رسوم الفروع دون التحذُّق في أصولها ومآخذها، والذين ضيَّقوا التمذهب حتى حصروه في تحصيل القول المعتمد عند متأخريهم دون رعايةٍ للمنهج الاجتهادي الكامن في مذاهبهم بمختلف طبقات أصحابها.
(3)
ثالث تلك المغالطات: عدم رعاية مقام الاجتهاد وابتذال منزلته، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: مخاطبة المتفقهة حتى في ابتداء تفقههم باستئناف النظر في الأدلة، والترجيح بين الأصول الاجتهادية. وهذا وإن لم يجرِ على ألسنة نقَّاد التمذهب صراحةً فإن منهجهم ومسلكهم يقتضيه ويدل عليه. إذ لا معنى لمخاطبة المتفقه في ابتداء تفقهه بتطلب (القول الراجح) و (فقه الدليل) في كل مسألةٍ إلا ذلك، فأنَّى له الترجيح والتفقه في الدليل بعيدًا عن دائرة المذهب المعين إلا إن كانت له أصول محرَّرة وقواعد مقرَّرة؟
وهذا في حقيقته ابتذالٌ للاجتهاد، فبدل أن يكون الاجتهاد نظرًا كليًّا يُنتَهى إليه بحسب ترقي المتفقه ومرتبته صار لدى أولئك النقَّاد مبتدأً لنظر المتفقهة يطالبون به في كل مسألةٍ قبل استكمال أدواته، فصار الواحد منهم يتطلَّب المآخذ في كل مسألة والترجيح بين دلائلها الخاصة دون ضبطٍ لمادَّة الاجتهاد وتحصيلٍ لأدواته.
وقد يحاول بعضهم الانفصال عن ذلك بأنه إنما يخاطبُ بذلك المتأهِّلين، لكن واقع نقدهم يجانب ذلك مجانبةً تامَّة، وذلك أنهم إنما ينتقدون التمذهب مخاطبين به آحاد الطلبة، ثم إنهم يوصونهم بقراءة ودراسة كتب المذاهب بذلك القصد من الترجيح وطلب الدليل والتجرئة على مخالفة المقرر إيهامًا لهم بأن ذلك هو طريق الاجتهاد. فهذا في الحقيقة ابتذالٌ لمقام الاجتهاد تحت شعارات نبذ التعصب.
الجهة الثانية: تقريرُ أن التمذهب (تطويلٌ للطريق على المتفقه) بخلاف الاجتهاد الذي هو (أيسر طريقًا)! وهذا صرَّح به بعضهم، وهو يدل على ما تقدَّم من ابتذال منصب الاجتهاد.
ومن شعب ذلك التطويل المذموم عندهم إطالة المتفقه النظرَ في تحرير مصطلحات وحل إطلاقات وإجمالات وإبهامات، وهم يرون ذلك ضربًا من تضييع زمان المتفقه وأن ذلك لا يثمر لديه سوى تحرير قيدٍ في مسألةٍ، ثم إنه إنما يحصل بذلك قولَ إمامٍ واحدٍ من جملة الأئمة، فكان ماذا؟
هكذا يصورون الأمر.
وكأن هذا القيدَ، وما يُجْرِيه المتفقه في طريق ذلك من تحرير مصطلحات وحل عبارات = ليس ذا شأنٍ. وهل المسائل إلا بقيودها؟! فكم من قيدٍ ترتبت عليه ضوابط وقواعد، وانبنت على تحريرِه اتجاهاتٌ وطرائق داخل مذاهب الفقهاء.
وكأن تحصيل قولِ أحد الأئمة، والكشف عن مسالك أتباعه في تحصيل مقالته = ليس بذي بال.
ولا يدل ذلك من صنيعهم إلا أن المتفقه إنما ينبغي له النظر في خلافات الأئمة نظرًا ظاهريًّا ليسارع إلى الاجتهاد والترجيح دون تعاني القول في مفصَّل عبارتهم وما تدل عليه ألفاظهم. وأما اختلافات علماء المذهب المعين في تحصيل ذلك فليست لديهم إلا تطويلًا مذمومًا للطريق.
وليس نقدهم قاصرًا على مغالاة بعض المتمذهبة في مباحثةٍ في ألفاظ ومشاحَّةٍ في اصطلاحات لا تثمر فقهًا، إذًا لكان لهم في ذلك النقد متَّسع، بل إنهم ينقمون على المتمذهبة إطالة النفس في تحرير الأقوال رعايةً لبعض الصناعات المذهبية من بيان المجمل والمبهم والمطلق مما ورد في نصوص علماء المذهب، مع أن ذلك البيان إنما غايته الدلالُة على أحكام فقهية، وبيانُ مسالك العلماء حال اختلافهم في تحصيل أقوال الأئمة، فأيّ ابتذال أكبرَ من أن يُلامَ المتفقهُ المتمذهبُ على إطالته النفس مثل ذلك وأنه إنما يطيل بذلك الطريق على نفسه، في مقابل يسر النظر في نصوص الوحي!
(4)
رابع المغالطات التي تجري على ألسنة كثيرٍ من نقَّاد التمذهب: جعلهم الاجتهاد مقصدًا لجميع المتفقهة، ويعنون بذلك الاجتهاد في أعلى صوره وأسمى مراتبه.
وهذه غفلةٌ عن المهام العلمية المنوطة بالمدارس الفقهية، فعطاء الفقهاء والمتفقهين أوسعُ دائرةً من خصوص بلوغ رتبة الاجتهاد.
وفيما يتعلَّق بالتمذهب، فقد قدمتُ أنه نظام اجتهاد، وليس مجرد مسلك تقليد، ثم إنَّ المتمذهبة في سلوكهم سبيل التمذهب يفترقون في بلوغ المنازل التي يفضي بهم إليها ذلك النظام الاجتهادي:
فافتراقهم قد يكون بحسب استعداداتهم، وهذا عائدٌ إلى قدراتهم المعرفية وقبول طبائعهم للترقي والاجتهاد، وهذا أمرٌ مدرَكٌ في الفقه وسائر العلوم، ولا اختيار للمتفقه في ذلك، فإن غالب طِبَاع المتفقهة وأذهانهم لا تقبل كثيرًا من ملكات الاجتهاد، وليس هذا محلَّ النظر هنا.
كما قد يكون افتراقُهم بحسب مقاصدهم، وأعني بذلك أن للتفقه مداراتٍ عدَّةً لا تنفك عنها أي مدرسة فقهية، وذلك أن الفقه وإن كان في التصنيف المعرفي علمًا واحدًا، ولكنه في حقيقة الأمر علومٌ متعددة، ولا يكاد يبلغ التحقيق في الواحد منها إلا من أخلص له عمره، وفيما يتصل بما نحن فيه، فإن من مدارات التفقه التي يسع المتفقه التخصص فيها: تحقيق القول في مذاهب الأئمة، وتحرير مقالاتهم. وهذا ليس ضربًا من التقليد، بل هو محتاجٌ إلى شعبةٍ عاليةٍ من الاجتهاد يُستطَاع بها فهم نصوص الأئمة ومآخذهم، وهذه الرتبة لم ينلها علماء المذاهب كلهم، بل هم متفاوتون فيها تفاوتًا بينًا، وعليه فإذا كان من مقاصد بعض الفقهاء تحقيق مذهب إمامه وتحرير المعتمد من مقالاته فليس هذا مما يُعابُ ويصرف الطلبة عنه، إذ هو أحد مقاصد التحقيق في الفقه، بل هو من مهماتها، ولكن قد يقع الإخلال هنا من جهة أنصار التمذهب بحصرهم مسارات التمذهب على هذا المقصد فقط وجعلهم التمذهب سبيلًا واحدًا نهايته تحصيل القول المعتمد دون التحذُّق بما حفلت به كتب المذهب بمختلف طبقاته.
وعدم رعاية هذا المقصد -أعني تحقيق مذاهب الأئمة وتحرير المعتمد من مقالاتهم- تسبَّب في إخلالٍ كبيرٍ بمخرجاتنا الفقهية، فكم بُلِيَت ساحتُنا الفقهية ومجامِعُها وجامعاتُها -في كثيرٍ من مخرَجاتها- بسبب إخلالها بمذاهب الفقهاء وعدم قصد كثيرٍ من المنتسبين لها إلى تحرير مقالات أئمتها، ثم صدرت على وَفق ذلك الإخلال رسائل وأطاريح وقرارات، وما ذلك الإخلال إلا شعبة من إخلالٍ أكبرَ منه، وهو الإخلال بإدراك مقاصد التفقه، وأنها تتسع لتحرير القول في مذاهب الأئمة وتمرين الطلاب على التحذّق فيها. وحتى لو أخلص شريحةٌ من المتفقهة أعمارهم على مذاهبهم بقصد ضبطها وتحرير مآخذها وتخريج النوازل عليها = فهذا من الفروض الكفائية التي تحتاجها الأمة، وبمجموع تصرفات أهل كل مذهب ننال نتاجا فقهيا عاليا يستثمره جمهور المتفقهة، بخلاف ما نحن فيه من استئناف كلٍّ من المتفقهةِ النظرَ في كل نازلة بالاستثمار اللحْظِي والنظر العابر والجولان السريع في كتب المذاهب دون تحذُّق في تخريج تلك النوازل على أصولها وربطها بنظائرها كما نراه في كثير من الرسائل والقرارات.
ثم لا يقعْ في وهمك أن تحقيق هذا المقصد يكفي فيه الواحد والاثنين، بل هو يحتاج جمهرةً من الفقهاء والمتفقهين، فإن ذلك لا ينال إلا بتراكم الطبقات، لا سيما وواقعنا المعاصر يحفل بكثير من النوازل والمتغيرات، فإذا لم تُحقَّقْ فيها مذاهب الأقدمين على وجهها وتُخَرَّجْ تلك النوازل على وفق أصولها فكيف سيستقيم لنا بناؤها على الأصول المقررة في فقه السلف المتمثلة في الصحابة والتابعين وتابعين وما حصَّله الأئمة الأربعة وأتباعهم عنهم. ولكنَّ واقع نقّاد التمذهب يفضي بنا إلى تخريج القول في تلك النوازل على اجتهاداتهم هم، وعلى أصولهم التي استأنفوا تلفيقها من تلافيف قراءاتهم ودراساتهم.
(5)
المغالطة الخامسة يمثّلها تقريرُ كثيرٍ من نقاد التمذهب بأن (التمذهب وسيلة لا غاية)، وترتيبهم على ذلك الوصيةَ بعدم الانهماك في الوسائل على حساب الغايات.
بل ربما صرح بعضهم بالتوقف في تحصيل الوسيلة عند حدٍّ، ثم تركها وتجاوزها إلى ما بعدها، وغير ذلك من إفرازات كبح جماح التمذهب تحت ذريعة كونه (وسيلةً).
ومكمن المغالطة هنا افتراض نقّاد التمذهب أن المنهج الذي يقدمونه إنما يخدمون به الغايات، بخلاف التمذهب الذي لا يجاوز كونه وسيلةً .. بينما الواقع أن ما يقدمه أولئك النقاد لا يعدو أن يكون افتراعًا لوسيلةٍ أخرى.
فنحن في الحقيقة بإزاء مفاضلةٍ بين وسيلتين، وإذا استحضرنا حقيقة التمذهب وما تقدم بيانه من كونه نظام اجتهاد تعاقبتْ على تحريره طبقاتٌ من الأئمة والعلماء = أدركنا الفرق الشاسع بين الوسيلتين.
والذي أراه أن إخضاع التمذهب لثنائية (الوسيلة/الغاية) في مثل هذا السياق إنما يراد به مخاطبة وجدان السامع، فأنتَ إذا أقنعت القارئ بأن البحث بين وسيلة وغاية، وجعلت التمذهب وسيلة في مقابلة ما يدعيه أولئك النقاد من رعايتهم لغائيَّةِ النظر في نصوص الكتاب والسنة = ألجأته إلى الحكم على التمذهب بأنه وسيلةٌ، ومن ثَمَّ الحط من رتبته مقابل تلك الغاية. ويزداد ذلك إذا قدَّمت بين يدي ذلك التأكيد على وجوب طاعة الله ورسوله ﷺ وعظم منزلة الاجتهاد ودنو رتبة التقليد، فيُفهَم ذلك الطرح في هذا السياق الحائد بالقضية عن نصابها.
بينما إذا استُحضِرَ أن التمذهب نظام اجتهاد أدرك الناظر أن لا مفاضلةَ هاهنا بين وسيلة وغاية، ولا بين تقليد واجتهاد، بل هي مفاضلة بين وسيلتين.
والوجه القاصد أن تُحَرَّرَ مناهج التفقه ووسائل بلوغ الاجتهاد -بمختلف مراحله- من خلال تحصيل الأصل الكلي الجامع الذي تدل عليه تصرفات الفقهاء وما كان عليه شأنهم في تفقههم وما خرَّجوا عليه طلابَهم، دون التوهُّم على منهج التفقه بأدبيَّاتٍ طارئة ثم إخضاع تصرفات متقدمي الفقهاء على وفق ذلك التوهُّم.
(*)
هذا، وأختم هذه الكتابة بالتأكيد على ثلاثة أمور:
الأول: ضرورة حياطة منصب التفقه من الابتذال من خلال دفع المتفقّهة إلى أيسر المسالك فيه وكأن ذلك اليُسْرَ مقصود لذاته، ويزداد الإشكال حين يُجعَل ذلك اليسر حاصلًا بالتهوين من شأن تحصيل مذاهب الفقهاء وعدم إجهاد النفس وكدّ الخاطر في فهم نصوصهم وإدراك مسالك أصحابهم في تحصيل فروعهم وأصولهم، فهذا في حقيقة الأمر ابتذال للشريعة ومسالك تحصيل أحكامها، فتلك التركة التي ورَّثَنَاها الفقهاءُ إنما حصَّلوها باستقرائهم ونظرهم في النصوص، ومذاهبُ الفقهاء إنما وصلتنا بتعاقبِ أتباعها وتلاحُقِ أقلامهم -بمختلف طبقاتهم- على ضبط وتحرير تلك التركة ليكون أخذ أحكام الشريعة على هدًى.
الثاني: أن هذه المرافعة لصالح التمذهب لا تعني المرافعة عن مسالك المتمذهبة، بل هي مرافعةٌ عن أصل التمذهب وحقيقته في مقابل سوء التصور التي حَفَلت به كثيرٌ من أطاريح نقَّاده، وأمَّا مسالك المتمذهبة ففيها الصواب والخطأ، وقد سبقت الإشارة إلى بعض ذلك، وقد كتبتُ من قبل كتابةً تعرَّضت فيها لجنايات بعض المتمذهبة، فانظرها -كرمًا- فيما كتبتُه بعنوان: (كلمةٌ في التمذهب .. ضرورته وجنايات بعض أتباعه)[1].
الثالث: أن قدرًا من تلك المغالطات إنما تخلَّقت لدى أصحابها بما رأوه من مسالك المتمذهبة الغالطة في تمذهبهم، وعليه ينبغي على المتمذهب أن يدرك ما تقدم بيانُه غيرَ مرةٍ من أن التمذهب نظام اجتهاد، وأنه سبيلٌ للترقي في الفقه والاجتهاد. وتقريرُ أن التمذهب كذلك يصادمه حَجْرُ التمذهب مفهومًا وممارسةً على مجرد تحصيل القول المعتمد لدى متأخري كل مذهب ثم الموازنة بين المتمذهبة بحسب حيازتهم لذلك فحسب. فهذا التحصيل من التمذهب، وليس هو كلَّ التمذهب، بل حقيقة التمذهب أمرٌ وراءَ ذلك، فهو شاملٌ لتصور المسائل على وجهها، والتحذق في دلائلها، وتبيُّن مسالك علماء المذاهب في فهم نصوص الأئمة والتخريج عليها، مع النظر في أوجه اختلافهم في تحصيل الأصول والتفريع عليها، واستنباط القواعد والضوابط والتخريج عليها، ودراسة انتقادات بعضهم على بعض، وغير ذلك من مثارات النظر والاجتهاد. وقبل ذلك النظر في نصوص الإمام نفسه والتدرُّب على مسالكه في النظر والاجتهاد وكيف كان تفقهه وأخذه بنصوص الوحي وأقاويل الصحابة والتابعين.
فأمَّا أن يكون قصارى همِّ المتمذهب ضبط القول المعتمد لدى المتأخرين، ومخاطبة عموم متفقهة المذاهب ببلوغ هذا القصد فحسب = فهذا إهدار لتركة فقهية هائلة وإغفال لنظام اجتهادي عالٍ .. فكن على ذُكرٍ من حقيقة التمذهب، ليكونَ تمذهبُك تفقُّها راشدًا وترقيًّا اجتهاديًّا، ثم تكون موافقتُك -إن وافقتَ- على وعيٍ، ومخالفتُك -إن خالفتَ- على منهج.
والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابه أجمعين.
[1] http://www.saaid.net/Doat/mishari/28.htm
مجموع الفتاوى ٢١٠/٢٠
وسئل شيخ الإسلام – رحمه الله -:
عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فرأى أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها: فهل يجوز له العمل بذلك المذهب؟ أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالأحاديث ويخالف مذهبه؟
فكان مما أجاب به :
“والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين:
إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه؛ ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره واشتغال على مذهب إمام آخر. وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح. وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما في هذه المسألة؛ لضعف آلة الاجتهاد في حقه. أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم} والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم.”
نقل ابن القيم عن ابن عبد البر أن الناس قد أجمعوا على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم وأن العلم معرفة الحق بدليله، أما بدون دليل فهو تقليد.
لو أخذنا بهذا “الإجماع” لتعريف التقليد لزال الكثير من الخلاف في هذه المسألة، إذ المسلم يبدأ بتقليد معلمه ليقوم بفرائضه العينية، ثم إن واصل الطلب وترقى في العلم فإنه يجمع بين المسألة والدليل وطرق الإستنباط…
و طبقا لهذا التعريف، فإن المتمذهب الذي يتعلم مسائل مذهبه بأدلتها على حسب أصول المذهب لا يُعدّ مقلدا.