إسماعيل العبودي
ذكر د. هيثم بن فهد الرومي في كتابه: “الصياغة الفقهية” أبرز ثلاثة مناهج في الصياغة الفقهية المعاصرة وهي:
- المقارنات التشريعية.
- التقنين.
- النظريات الفقهية.
ويُقصد بالأول المقارنة بين الشريعة والقوانين المعاصرة، أما التقنين فهو وضع القانون على شكل مواد، وبالنسبة للمنهج الأخير فهو كنظرية الالتزام والحق وغيرها. وقد أَلْزَم المؤلف نفسه بالصياغة الفقهية في العصر الحديث، وإلا فإن الصياغة الفقهية للمتقدمين أشمل بكثير. والصياغة المنهجية لعلمٍ مُعين لا تخلو من فرضيات معينة، فالمقارنات تهدف إلى رفع مكانة الشريعة والفقه مقابل القانون بعد دخوله للعالم الإسلامي. ويعتبر التقنين والنظرية نتاج للعلوم الطبيعية الوضعية وبالذات علم الأحياء الذي يَفترِض وجود نظام دقيق يحتاج فقط إلى اكتشافٍ وتحديد، إلا أن هذا الكتاب: “إجالة الطرف في مسائل الوقف” لمعالي الشيخ د. قيس آل الشيخ مبارك – عضو هيئة كبار العلماء في السعودية سابقًا – يقوم على منهجية وفرضيات وأسس مختلفة توجد في عمل العلماء المتقدمين، وبناءً على حاجة المسلمين في العصر الحديث وليس ردًا أو مقارنةً على مناهج أو صياغة من حضاراتٍ أخرى، وهذا مناط تميز هذا الكتاب.
هدف الكتاب صياغة أقوال المذهب المالكي في الوقف صياغةً مفهومةً لقارئ اليوم، وبما أن المؤلف يُعد من أبرز علماء المالكية في العصر الحديث؛ فقد بنى هذه الأقوال على ما استقر عليه المذهب المالكي عند المتأخرين، وأورد في المقدمة نصًا من متن خليل في الفقه المالكي في صفحتين تقريبًا، وجعل الكتاب شرحًا لهذا النص بأسلوبٍ يفهمه العامي، وليس هدف هذه المقالة مناقشة قول المالكية أو نقاش ما قاله المؤلف وما فهمه من أقوال المالكية في المسائل التي استعرضها؛ إنما هدف المقالة هو إبراز هذه الصياغة الفقهية المبتكرة من معالي الشيخ في ظل الجدالات المعاصرة عن تجديد الفقه وتقنينه. فهذا الكتاب هو تجربة عملية لعالمٍ فقهي مختص أراد أن يكتب ليسد حاجة عند الناس وليس الهدف منها كنابة تنظيرية فقط، فكيف نستطيع استكشاف آفاق تجديد الفقه عمليًا؟ وكيف يستجيب الفقه للمتغيرات؟
أشار المؤلف إلى أنه لن يناقش أدلة المسائل ولن يستعرض أقوال المذاهب الأخرى في مؤلفه، وأن هدفه أن يُفهِّم العامي ما يريده من مسائل الوقف من خلال المذهب المالكي، وهو في صنيعه هذا يقع مقابل مدرستين في العصر الحديث.
- المدرسة الأولى: مدرسة فقه الدليل، وهي مدرسة تتبع الراجح من الأقوال، وتبحث عن الأدلة من الكتاب والسنة وتختار ما هو أقوى دليلًا بغض النظر عن اختيارات المذاهب الفقهية.
- أما المدرسة الثانية: فهي مدرسة فقه التيسير، وهي مدرسة تسعى إلى الاختيار والتلفيق الفقهي بناء على الأصلح للمسلمين وحاجتهم للتيسير في العصر الحديث.
أما مؤلف هذا الكتاب فقد تعرض فقط لمسائل الوقف عند المالكية وأورد بعضًا من خلافاتهم داخل المذهب، وهذه صياغة جديدة في البحث الفقهي المعاصر، وتتميز عن المدرستين الآخريين من جهتين:
- الأولى: كثرة المسائل التي أوردها المؤلف مع سهولة استيعابها، وهذا بسبب أن المسائل مترابطة فيما بينها بعللٍ واضحة، وهذا ما يساعد على استيعابها بسهولة، وقابلية التخريج عليها.
- والميزة الأخرى أن الكتاب على كثرة مسائلة إلا أنه يُعد صغيرًا، وهذا بسبب أنه لا يورد الأقوال من المذاهب الأخرى أو الأدلة، وهذا يسهل على القارئ الإلمام بمناطات الأحكام في الوقف عند المالكية، فيقل احتمال الوقوع في خطأ تنزيل المسائل، أو الادعاء بأن هذه المسألة نازلة وهي موجودة في كتب المذهب.
لقد انتشرت عند متأخري المذاهب كتب الشروح والحواشي، وتعتمد هذه الكتب المُطوَّلة لغةً دقيقةً يصعب فهمها على من هو خارج المذهب الفقهي؛ فكيف بمن هو خارج المذاهب ككل ولم يتعلم على الطريقة المذهبية! وقد كثرت الشكوى في العقود المتأخرة – في القرنين الأخيرين وبالأخص من بداية القرن الثالث عشر الهجري -، وكثر النقد على كتب المذاهب، واختلفت سبل الخروج عن المذاهب كما مر معنا.
إنّ كتاب: “إجالة الطرف” قد عالج مشكلة تَعقُّد اللغة، وذلك بتسهيل لغة المذهب وتبسيط المسائل في الموضوع بما يتناسب مع لغة القارئ عن طريق ترتيب مصطلحات المذهب وتقعيدها وليس بالخروج عنها. وهذا منهج جديد أبدع فيه الشيخ، وهو ما نحتاج إليه في هذا العصر خاصة بعد زيادة الاهتمام بالتعلم على مذهب فقهي معين بدل الاعتماد على القول الراجح في التدريس. وهنا يلفت مؤلف الكتاب النظر إلى أنَّ هناك طريقة تُعالج مشكلة النقد الذي قُدِّم للمذاهب أو كتب المذاهب الفقهية بطريقةٍ عملية يحسن الالتفات إليها والاستفادة منها. فالكتاب يحمل أفكارًا ورؤى وتطبيقاتٍ مبتكرة في الكتابة الفقهية المعاصرة.
ومن جانبٍ آخر فإن الكتاب لا يماثل كتب الرسائل الفقهية في موضوع معين عند الفقهاء المتقدمين، والتي في غالبها تكون معالجة لمسائل النوازل. وقد كُتب بعضها بلغةٍ عالية مقارنةً بين المذاهب. أما الشيخ فكتب كتابه مخاطبًا عامة الناس، وهذا ما يميزه. وفي هذا إشارة مهمة لأهمية معرفة العامة للفقه وتقريبه لهم.
إن تقريب العلوم للعامة لم تكن الحاجة لها ماسة عند المتقدمين كما هو الحال في الأزمنة المعاصرة، ومع انتشار التعليم وسهولة الحصول على المعلومة؛ أصبح من الضروري وجود كتب تعليمية مختصرة وشاملة لعامة الناس، وقد يكون من المناسب تدريس مثل هذه الكتب في الجامعات ليكون مرجع العامي والمتعلم واحدًا.
إنّ المشكلة الأساسية التي تواجه هذا الكتاب هي اعتماده على مذهب فقهي واحد، بينما عمل الناس في البلدان على مذاهب فقهية مختلفة. وقد أشار المؤلف إلى أنه كتب الكتاب لقاضي الوقف في الأحساء – بلد المؤلف -.
ولنا أن نسأل: هل من الممكن كتابة كتاب بنفس طريقة المؤلف، وتكون مصادره مبنية على ما عليه العمل في القضاء، بحيث يكون البناء العلمي للكتاب من خلال الأحكام القضائية؟، وكذلك تُكتب الرسائل العلمية وتُبنى المسائل على ما جرى عليه العمل في المحاكم؟ ويجوز للقاضي مخالفة المعمول به شريطة أن يستدل على رأيه، وتقره المحكمة العليا.
وأخيرًا فإنَّ أسلوب ومنهج الكتابة مؤثر بشكل كبير على بناء العلم بصفة كاملة، فهو من أساسيات العلم التي تؤدي دورًا مهمًا في فهمه وتنزيله وعلاقته بالعلوم الأخرى. إنّ الفقه ليس مجرد أحكام فقط يمكن نقلها بأي قالب معرفي، فالفقه مصدره القرآن والسنة، ويحمل تجربة المسلمين في تنزيل النصوص الشرعية على الوقائع المستجدة؛ لذلك فإنَّ نزع الصياغة من الأحكام هو بمثابة نزع الروح من الجسد.