- إلكسندر كلاب
- ترجمة: زياد الحازمي
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: سهام سايح
قبل خمس سنوات هاجر مئاتُ الآلاف من اللاجئين من سوريا وأماكن أخرى إلى دول الاتحاد الأوروبي، ممّا أثار ما عُرِف على نطاق واسع بـ”أزمة اللاجئين”، واليوم تدفقٌ آخر من البشر قد يكون قادمًا مع ازدياد الحالة الإنسانية في شمال سوريا سوءًا.
منذ 2011 احتضنت تركيا ما يزيد عن أربعة ملايين لاجئ من جارتها الجنوبية، العديد منهم كان يتوق للمواصلة قُدُمًا إلى أوروبا، لكن في 2016 وقّعت أنقرة اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي تتعهد بتطويق وكبح تدفق اللاجئين غربًا في مقابل تمويل بستة مليارات يورو، ولكن بعدها بأربع سنوات (ومع انهيار مجازفاته في سوريا وليبيا وضعف الاقتصاد) نشر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان سلاحًا أبقاه في جعبته منذ توقيع اتفاقية 2016، حيث تمرَّدت أنقرة على الاتفاقية وسمحت للاجئين بالمرور إلى أوروبا مرة أخرى، ويبدو أنّ هدف أردوغان من ذلك هو إجبار بروكسل على مد يد العون لتوغله في إدلب بسوريا.
بحلول الأول من مارس تجمّع ما يقارب الثلاثين ألف لاجئ على ضفاف نهري إيجه وإفروس الذين يشكلان الحدود البرية بين تركيا واليونان، واندفعت كتائبٌ من الجنود اليونانين إلى الحدود.
طوال الأسبوعين الماضيين كانت هناك مناوشات بين الذين يحاولون عبور الحدود اليونانية والقوات الأمنية في كستانيي، وهي قرية على الحدود مع تركيا، ووفقًا للمسؤولين المحليّين فإنّ السلطات اليونانية ردّت عشرات الآلاف ممن حاولوا دخول أوروبا واعتقلت 300 آخرين ممّن تمكنوا من العبور فعلاً، هذا المشهد الكئيب في هذه القرية الصغيرة يُظهر ما أصبحت عليه الحدود الأوروبية التي كانت تتّسم بالصلابة والصرامة. إنّ الاتحاد الأوروبي يتجاهل التزاماته الدولية الشرعية ويغلق أبوابه في وجه أولئك الذين يفرّون من الصراعات، ويفشل في أن يرقى لمستوى القيم التي يزعم.
البلدة الحدودية
بحلول اليوم الثاني من مارس ومباشرة بعد بدء الاشتباكات، استقليتُ حافلةً لكستانيي، وهي قرية على مسافة قريبة من البريّة لأثينا، وكان الاهتمام الدولي يميل للتركيز على جزيرة لسبوس وبعض جزر بحر إيجه الأخرى. العديد من اللاجئين والمهاجرين كانوا قد وصلوا منذ 2015، ولكنهم بالكاد شقوا طريقهم لتراقيا، وكانت المخابئ العسكرية المموهة والتي يعود تاريخها لأيام وقوف المنطقة على الخطوط الأمامية للحرب الباردة، تملأ المنطقة، كانت حافلتي تسير محاذية لـ”فيا إجناتيا”، الطريق الروماني القديم الذي يعبر البلقان قبل أن ينعطف شمالاً باتجاه بلغاريا، وبجانب الطريق شرقًا كانت حقائب الظهر والملابس المتروكة والتي خلّفها الأشخاص الذين عبروا إلى أوروبا في الأشهر السابقة تنتشر على ضفاف نهر إفروس، السلطات اليونانية زعمت أن أكثر من 1000 مهاجر عبروا إفروس ودخلوا اليونان منذ بداية العام.
على مدى الأيام السابقة استقطبت بلدة كستانيي مسؤولين من أثينا وبروكسل، وسافر ممثلوا وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي من زغرب ووارسو بصحبة منتمين لفرونتكس (الوكالة الأوروبية لمراقبة وحماية الحدود الخارجية) إلى جانب صحفيين من برلين ولندن ونشطاء يمينيين متطرفين من جميع أنحاء القارة، كان سكان كستانيي قد اجتاحوا الشوارع وغطوا مبانيها العامة بطبقة جديدة من الطلاء الأبيض، وبالقرب من موقع حدودي مغلق يؤدي إلى مدينة أدرنه التركية نصبت الأمم المتحدة خيمة زرقاء صغيرة حيث عبَّر المسؤولون عن مخاوفهم بشأن العنف الذي يتصاعد على بعد أمتار فقط على طول النهر.
شرق هذه البلدة واصلت القوات اليونانية رصَّ خطوطها ضد أولئك الذين يحاولون العبور، واندلعت اشتباكات في المنطقة المحايدة بين حدود الدولتين، حيث قامت الشرطة برش المهاجرين بالمياه المصبوغة بالحبر الأزرق لتسهيل معرفتهم إذا حاولوا في وقت لاحق عبور النهر إلى اليونان، رد اللاجئون بإلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع والتي استُدِل أنّها أُخِذت (أو ربما قُدِّمَت) من شرطة الحدود التركية، بحلول الليل أضاءت المروحيات اليونانية ضفاف إفروس بالكشافات، وفي اليوم التالي قامت الشرطة بدوريات تفتيشية للقرى مطالبة بإظهار الجوازات ممن تبدو عليه ملامح غير يونانية، وبين الفينة والأخرى على طول الطرق السريعة رأيت ضباطاً يحتجزون مهاجرين أمسكوا بهم يصعدون الجبال في اتجاه الغرب نحو سالونيك.
في الوقت الذي وصلتُ فيه إلى كستانيي كانت هذه التوترات قد أدت بالفعل إلى إطلاق النار على أحد اللاجئين، وفقًا للتلفزيون التركي فقد قتل الجنود اليونانيون رجلاً سوريًا في 2 مارس/آذار حاول عبور النهر، ورفضت السلطات اليونانية هذا الادعاء وقالت أنّه “خبر زائف”، لكن المحققين البريطانيين وجدوا أدلة على وقوع الحادثة أو على أقل تقدير لا يمكن استبعاد وقوعها، وقد أثارت النتائج التي توصلوا إليها احتمالية أنّه -إلى جانب قتل لاجئ- فقد حاولت اليونان أيضًا التستر على الأمر، وخلال يوم واحد استأنفت أنقرة أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وقدّمت شكوى ضد أثينا بشأن إطلاق النار المزعوم.
تواجه تركيا المئات من القضايا العالقة المرتبطة بها في تلك المحكمة، ومع ذلك فإنّ ما بدا في بداية شهر مارس هزليًا -على سبيل المثال ادّعاء وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أنّ اليونان ملزمة باحترام “حقوق الإنسان الدولية”- أصبح أقلَّ سخافة أكثر فأكثر مع ظهور الأزمة، في كستانيي بدأت تصرفات اليونان تعكس إفلاسًا أخلاقيًا، عاد مجموعة من الأفغان والسوريون إلى تركيا في 7 مارس/آذار يزعمون أن قوات الأمن اليونانية ضربتهم بالعصي وجرّدتهم من ملابسهم، وعلى طول نهر إفروس بدأ الحراس اليونانيون يقومون بدوريات في المنطقة ليلاً مع كلاب الصيد دون منع من قبل السلطات المحلية، وكشف تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” في 10 مارس/آذار عن وجود مركز احتجاز لم يتم الكشف عنه على ضفاف نهر إفروس حيث قامت الشرطة اليونانية بجمع المهاجرين سرًاً والذين كانوا قد اعتقلوا لعبورهم النهر، ثم طردهم إلى تركيا دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة.
“كيف وصلت إلى هنا؟“
في الثالث من مارس وصل رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى كستانيي برفقته رئيس الوزراء الكرواتي أندريه بلانكوفيتش وأعضاءٌ كبار في المفوضية الأوروبية للتعبير عن دعمهم لحرس الحدود اليوناني، قبل ساعة من هبوط طائرتهم المروحية في البلدة رأيت أربعة من رجال الشرطة يقفزون من دراجتهم النارية ويوقفون شابين على الشارع الرئيسي للبلدة، “هنا! اجلس هنا!” هكذا صاحوا باللغة الإنجليزية، لقد ألقت الشرطة خلال اليومين الماضيين القبض على 40 مهاجرًا كلٌ بمفرده، معظمهم تقريبًاً في الريف، أما هذان الرجلان فقد حاولا السير مباشرة عبر كستانيي في منتصف الظهيرة ربما على أمل ألا يثيروا الريبة.
“كيف وصلت إلى هنا؟” سأل ضابط شرطة مشيرًا إلى الأرض.
“عبر النهر”،
هذا ما قاله أحد الرجلين، والذي كان يرتدي بنطلون جينز وقميصًا رماديًا وله شعر أشقر يخالطه البياض، وقام بتحريك يديه وكأنّه يسبح ثم توسل للحصول على الماء فأحضر الشرطي زجاجتين.
“من أين أنت؟”
“سوريا.”
“إذن فقد جئت إلى هنا بشكل غير قانوني، أي بدون أوراق”.
دفع الشرطي الرجلين باتجاه شاحنة بيضاء كانت واقفة بجانب الرصيف ووضعوهم في الداخل وأغلقوا الباب، قال ضابط وهو يقفز على دراجته النارية “لا أعرف ماذا سيحدث لهم الآن”.
إذا كان السجل اليوناني الرسمي للاعتقالات المعلن عنه في اليوم التالي ذا مصداقية، فسيظهر أنّ الرجال ليسوا من سوريا، فإن الـ98 شخصًا في السجلات قدِموا من دول أخرى تمتد من باكستان إلى الصومال، بالنسبة للكثيرين في اليونان وبعض الدول الأخرى فإنّ هذه التفاصيل تشير إلى الصعوبة الأكبر التي تواجهها اليونان والدول المستقبلة الأخرى في تقدير تدفق اللاجئين، وهي أنّ الظاهرة المزعومة للمهاجرين الاقتصاديين (المسافرين لأسباب اقتصادية) مخفية تحت ستار اللاجئين.
إغلاق الباب
ومع ذلك فإنّ ما حدث في شوارع كستانيي يشير إلى الحيل البارعة في الخطابات الأوروبية بشأن “أزمة اللاجئين”: فقد كان تعريف “اللاجئ” وكل من يحق له اللجوء عرضة لتغييرات اعتباطية إلى حدٍ ما منذ نهاية الحرب الباردة، فمنذُ جيلٍ مضى كان من المهم لمن يطلبون اللجوء في أوروبا أن يبرهنوا أنّهم تعرضوا للاضطهاد، وفي عام 1985، العام الذي تلقت أوروبا الغربية فيه طلبات لجوء أكثر من عامه السابق، مُنح عشرات الآلاف من الأشخاص من بولندا ورومانيا ويوغوسلافيا حق اللجوء فقط على أساس أنّهم عاشوا في دول اعتبرتها أوروبا الغربية ذات أنظمة شمولية (استبدادية) وكانت رحلاتهم إلى أوروبا الديمقراطية بمثابة انتصارات رمزية في الحرب الباردة، لكن هذا تغيَّر في التسعينيات فقد أصبحت الدول الأوروبية غير مهتمة باللجوء السياسي وجعلت عمليتها أكثر صرامة.
حتى اليوم مع استمرار مسؤولي الاتحاد الأوروبي في المداهنة بأنّ فكرة اللجوء حقٌّ “أساسيٌ”، فقد أكدت السنوات الخمس الماضية عكس ذلك: احترام اللجوء في أوروبا أصبح يعتمد كليًا على الاحتمالات السياسية الحاصلة، في تعارض صريح لأي اعتبار واحترام لحقوق الإنسان. في عام 2015 أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنّ حدود أوروبا مفتوحة للاجئين، وبعد مرور عام واحد وعندما انتهت المنفعة السياسية من هذا القرار وجدت القارة مهربًاً لمنع دخول اللاجئين على خلفية الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا الذي نصّب أردوغان -رشوةً- حارسًا لأوروبا، واليوم بعد فضّ هذه الاتفاقيات توصلت أوروبا إلى تعليل آخر لعدم السماح للاجئين بالعبور عبر حدودها الآن: قدسية الأمن القومي اليوناني، حيث أسبغت المفوضية الأوروبية على اليونان -الدولة العضو التي لم يمضِ وقت طويل منذ تهديدها بالانسحاب من مرتبتها- الحق في الحفاظ على حدودها وسيادتها الوطنية.
اللاجئون الذين يصلون لجزيرة لسبوس يجب عليهم الآن أن يثبتوا بالتفاصيل الدقيقة أنّ حياتهم كانت في خطر في الأماكن التي قدِموا منها، فعليهم أن يثبتوا ليس فقط أنّهم قدموا من سوريا مثلاً، بل أنّهم جاؤو من مناطق خطرة محددة داخل الحدود السورية. في فبراير 2016 وقبل شهر من موافقة تركيا على الحد من تدفق المهاجرين عبر أراضيها إلى أوروبا، مشيت على أرصفة ميناء بيرايوس قرب أثينا، المكتظة بالوافدين من العراقيين والسوريين الذين سارعوا لإظهار الشواهد لأدلة اللجوء الخاص بهم كالإصابات الجسدية أو الحروق على سبيل المثال لجعل مطالباتهم أكثر موثوقية، بالنسبة لكثير من اللاجئين أصبح إظهار هذه الإصابات هو الفارق بين الحياة في أوروبا و”معسكر الاحتجاز” على بحر إيجه.
كان القادة الأوروبيون متناقضين بشأن مسألة اللاجئين.
الخداع في خطاب الزعماء الأوروبيين فضح أيضًا سلسلة من التناقضات في مسألة اللاجئين، فقد زعمت ميركل في عام 2017 أن “رفض بعض البلدان قبول أي لاجئين ليس حاصلاً، وهو يتناقض مع روح أوروبا، سنتغلب على ذلك، سوف يستغرق الأمر بعض الوقت والصبر ولكننا سننجح”، لكن بعد أن غمرت الأزمة على حدود اليونان عناوين الأخبار في أوروبا في الأسابيع القليلة الماضية، كان حزب ميركل الديمقراطي المسيحي هو الذي قاد التصويت في 5 مارس في البرلمان الألماني ضد نقل 5000 طفل لاجئ عالقين في اليونان إلى دول أوروبية أخرى.
في كستانيي هذه الاختلافات بين الجهات التي تشكل “المجتمع الدولي” كانت واضحة المعالم، ففي أحد أطراف البلدة استدعت متحدثة باسم الأمم المتحدة الصحفيين من حولها لتعلن أنّ اليونان ليس لديها الحق في إيقاف طالبي اللجوء عند حدودها، قالت المتحدثة ببطء “دعني أكرر” معطية الوقت للجميع لتدوين كلماتها “ما يحدث الآن غير قانوني، لا يمكنك إبعاد طالبي اللجوء الشرعيين على حدودك، هذا انتهاك للقانون الدولي”.
ولكن في الطرف الآخر من البلدة شددت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين على ما كان عكس رسالة الأمم المتحدة، حيث أصرّت على أنّ اليونان لديها كل الحق في حماية حدودها ساردةً حزمة من المساعدات من المعدات العسكرية والأفراد التي سيوفرها الاتحاد الأوروبي: سبع سفن دورية ومروحيتان وطائرة وثلاث مركبات ذات رؤية حرارية و100 من حراس فرونتكس، وخلصت فون دير لين إلى أنّ اليونان هي “درع” أوروبا و “أن أولئك الذين يسعون لاختبار وحدة أوروبا ستخيب مساعيهم”.
ومع تصاعد الأزمة الإنسانية الكبرى في سوريا يعمل الاتحاد الأوروبي فقط على تشديد موقفه خائضًاً معركة وهمية في كستانيي والتي يضم جنودها المشاة الآن اليمين المتطرف، كان خطاب فون دير لين بمثابة منحة لكل أولئك الذين يتطلعون لرؤية الأحداث على الحدود اليونانية من منظور حضاري، ففي 4 مارس بدأت عصابات النازيين الجدد في السفر من ألمانيا والنمسا نحو الحدود اليونانية، وتسابق قادة أحزاب اليمين المتطرف إلى كستانيي لتقديم “العلف الشعبوي” بأنفسهم لمنتخبيهم، “إذا أردت الذهاب إلى ألمانيا فسأحتاج إلى أوراق، أليس كذلك؟ نعم أم لا؟” قالها كيرياكوس فيلوبولوس زعيم الحزب المسمى حزب الحل اليوناني لي ولمجموعة من الصحفيين بعد قدومه من أثينا ليُطمئن اليونايين المحليين بأنّ حزبه مهتم بمحنة أولئك الموجودين على الحدود، مضيفًا: “ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، يجب عليهم أن يعلموا أنّ أوروبا المسيحية تبدأ هنا بالتحديد”.
حُذف المقال من المصدر، وهنا نسخة من المقال على موقع الارشيف