عام

مِيزات التّفكير الهندسي

ياسر بن فهد العوفي

إن امتلاك الإنسان لأداة الحُكْم (العقل) واستعماله في المقارنات والتحليلات واستخلاص النتائج وبناء الأحكام والقرارات، يجعله مطالباً بالاستمرارِ في تقويم هذه الأداة وتنميتِها وغرسِ المهارات التي تطوّر أداءها، مما يضمن له – بتوفيق الله – الوصول إلى النتائج الصحيحة أو مقاربتها. ولمّا كانت طُرق التفكير تطبع ذهنَ الإنسان على مهارات معيّنة إيجابية كانت أو سلبية تقوده إلى نتائج محمودة أو مذمومة، فقد كان لزاماً عليه أن يراقبَ طرائقَ تفكيرِه: كيف تشكّلت ؟ وما عوامل التأثير فيها ؟ وما محاسنها ومساوئها ؟ وكيف يتعامل معها ؟

لذلك فإن هذا المقال يعرض بعضاً من المحاسن والميزات التي يطبعها التفكير الهندسي في الذهن، والآثار لهذه الميزات على قرارات الإنسان في شتّى القضايا مع بعض العلامات الدالّة على تملّكها. ولفظُ التفكير الهندسي وإطلاقُه بما هو طريقة تفكير تعتمد على التّحليلِ المنطقي لإيجادِ الحلول أعمُّ وأوسعُ من أن يُضيّقَ في مجال دراسةٍ أو عمل، وإن كان المهندسُ أولى من غيرِه بامتلاكِ هذه المهارات فإن غيرَه قد يكون أملكَ لها منه وأقدرَ على استعمالها وأعمقَ في تطبيقها، وإن لم يدرس الهندسة يوماً. والغرضُ من هذه المقالة عرض المهارات تحفيزاً لامتلاكها إن عُدِمتْ أو استثمارها وتطويرها إن وُجِدت، ولفتُ النّظر إلى تطبيقاتها في الحياة اليومية. والحقيقة أن مثل هذه المواضيع تحتاج بحوثاً مدقّقة وواسعة أكثر من حاجتها إلى المقالات القصيرة.

 

1) استخراج المعطيات:

إذا طُرِحت على الإنسان قضيةٌ اجتماعية في مجلس، أو قرأ كتاباً فِكريّاً، أو عرضت عليه مسألة علميّة مطوّلة، فإنه من الإعياء الذهني أن يتتبّع الهوامشَ والذيولَ ويتعقّب كل الألفاظ والمدلولات المطروحة. خصوصاً إذا كان مجالِسوه ثقلاء، أو يقرأ لمسترسِلٍ يبدئُ ويعيدُ في كلامه. فما أحوجه – والحال تلك – أن يُحسنَ الإجابةَ على هذا السؤال في نفسه: ماذا يريد هذا الكاتب من هذه الصفحات؟ ما النقاط التي يريد هذا المتحدّث إيصالها ؟

إن مهارة استخلاص المعطيات لا توفّر الطاقة الذهنية وحسب، بل أيضاً تساعد على حُسنِ الاستقراء وتحويل المحتوى المطروح إلى معلومات منظّمة يُحسن الإنسان التعامل معها وبناء القرارات عليها. وتدفع هذه المهارة أيضاً إلى التركيزِ على ما فيه عملٌ وإفادة وتركِ المُضرّ وما لا طائلَ منه، وامتلاكِ القدرة على الاستيعاب الشامل للأفكار والكفّ عن التفاصيل الدقيقة والجزئيات المتشعّبة التي تشتّت الفكرة وتفرّق أطرافها أكثر من جمعِها وربطها.

الممتلكون عادةً لهذه المهارة تجدهم عند حلّ المسائل العلمية مثلاً يضعون خطوطاً تحت الكلمات أو المفردات التي قد تساهم في إيجاد الحلّ، أو يكتبونها في جهةٍ مستقلّةٍ من الصفحة كي تبقى مخزونةً قريبةً حين استدعاءها. كذلك في النقاشات العلميّة تجدهم أضيقَ الناسِ صدوراً بذلك الذي يُلقي الكلامَ عائماً غائماً لا تجد في كلامِه إلا ما تجده في يدك إذا أدخلتها الجيبَ الفارغ.

وفي التنزيل الحكيم : ” الذين يستمعون القولَ فيتّبعون أحسنه “[1]

 

2) البحث عن الخطوة التّالية:

التفكير الهندسي بطبيعته يتعامل مع الأمور والحوادث على أنها متسلسلات: إذا وقع (أ) فإن (ب) سيلحقه وإذا وقع (د) فإن قَبلَه (ج) وهكذا. فوضْعُ الفكرةِ في نظامٍ تسلسليّ يجعلُ الفكرة التي تليها حاضرةً دائماً معها، وتتبّعُ تسلسلِ الأفكار يقرّبُ النتيجة ويعطي تصوّراً عنها وكثيراً ما يصل إليها.

 لذلك فإن الوقوفَ على الخطواتِ الأولى مع وجودِ أفكار متلاحقة لها يُعدّ نقصاً بالنسبة للتفكير الهندسي لأنه لم يصِلْ بصاحبِه إلى نهاية السلسلة. هذا يجعل السؤال المطروح في الذهن الهندسي دائماً وبدون وعي: ثم ماذا ؟، لا يكتفي من المشكلة بالتبرّم بها، ولا من الرأي بمجرّد طرحه، حتّى يسأل عن التّبعاتِ والنتائج ثمّ يقيّمها، ويعمل وفق مفتضاها. لذلك صاحب التفكير الهندسي في ذهنه قلق تجاه التعامل مع أنصاف الأشياء: نصف وَصْف، نصف رأي، نصف استنتاج، نصف حلّ، فإذا وصَلتُه هذه الأنصاف سعى إلى إكمالها وفق المقدور.

وتتبّع تسلسل الفكرة لا يقود فقط إلى السعي في بناء الفكرة اللاحقة بل أيضاً إلى التدقيق في صحّة الفكرة السابقة. وهذه أيضاً مهارة مُضمّنة: أن التفكير الهندسي يتعامل مع الأفكار بشكل متفاوت في الثقة، لأنه متعهّد بتتبّع سلسلة الفكرة فإذا وجد أن حلقةً من الحلقات غير موثوقة ألغاها،أو لم يعتمد عليها بشكل كبير. فهو يقدّر قوّة الفكرة التالية ومقدار الثقة فيها بناءً على قوّة الفكرة السابقة ومقدار الثقة فيها. لذلك غالباً لا يتعامل مع المعلومات المعطاة من مصادر مختلفة بنفس الدرجة من الثقة ويبني قراراته بناءً على هذا التفاوت. فهو يفرّق مثلاً بين قراراته التي بُنيَت على افتراض وبين التي بُنيت على مسلّمة ثابتة. ولا يتكّئ كثيراً على الآراء غير العلمية والاستنتاجات المُقحمة في أي علم دون استناد على الأسس العلمية التي وضعها أهل ذلك العلم، ولديه خطوة أخيرة مهمّة عند الوصول إلى أي حلّ: وهي التأكد من صحته قبل اعتماده.

هذه المهارة تنشأ وتنمو من خلال حلّ المسائل الرياضيّة مثلاً، فهي تتطلّب غالباً البدء بسلسلة من الخطوات وإقفالها بحلّ مكتمل. فالتعوّد على كتابة الصفحات وإجراء الخطوات المطوّلة بشكل تدريجي من أجل الوصول إلى رقمٍ نهائي صحيح يقتضي الوثوق في صحّة كل خطوة، ويجعل الذهنَ متحفّزاً دائماً لوضع النقطة عند آخر السطر وإلا فالحلّ ناقص.

 

3) اكتمال الأفكار:

اجتزاءُ الأفكار من سياقاتها وبَترُها من جذورها – إضافةً إلى ما فيه من ظُلمٍ وإجحاف – يجعلُها عُرضةً للتشوّه،أشبه ما يكون بنظم لؤلؤةٍ في عِقدٍ من الخرز!. ومن مهارات التفكير الهندسي بناؤه للأفكار في سياقاتها بشكلٍ منظّم. فاستدعاء أي فكرة من الذهن لابد من أن يكون مقروناً بالظروف التي تشكّلت فيها هذه الفكرة وعواملِ استدعائها. فيسهل بذلك الوصول إلى النتيجة من خلال تتبّع الأسباب أو الوصول إلى الأسباب من خلال ملاحظة النتيجة، لأن السياق مكتمل في الذهن بشكل منظّم.

 فمثلاً الذي يواجه أي مشكلة، إذا عرف أسباب هذه المشكلة وعواملها الظّرْفيّة ومقدارها سَهُل عليه إيجاد الحلّ لها، وكذلك عَرضُها وإقناعُ الناس بها وبجدوى الحلول التي وصل إليها. أما التّنافر بين أطراف الفكرة والاكتفاء منها بجزءٍ مبتور في سياقٍ ناقص يجعلها مشوّهةً في الذهن متزلزلةً مع كل عارض فضلاً عن العجز في عَرْضها وإقناع الناس بها. وهذه مهارة مهمّة في تقييم الأفكار والمنتجات والآراء، فإذا أراد رجلٌ شراء مركبة جديدة فإن قراره في اختيار المركبة سيكون أكثر نضجاً إذا كانت لديه معلومات عن سنة صنعها والدولة المصنّعة وقوّة المحرّك وأنظمة الصيانة واختلاف السرعات…. إلخ، على عكس الذي يبني هذا القرار على معلومات ناقصة، وكذلك الحال في الأفكار والآراء.

وقد تتّضح هذه المهارة في التفكير بالمقارنة بين مَن تبنّى فكرةً من تغريدةٍ عابرة على “تويتر” مثلاً و بين مَن قرأ فيها مقالاً علميّاً وبين مَن طالعَ فيها كتاباً مُحقّقاً، قطعاً اكتمال الفكرة يختلف في العقول الثلاثة لأنها بُنيت في سياقات مختلفة.


[1] سورة الزمر – 18

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى