- زينب صلاح
- تحرير: عبير الشهري
في هذا العصر الذي يضج بتعظيمِ كلِّ ما هو مادي، والحطِّ -في مقابل ذلك-من قدر المعاني والشعور، لا يُضمّدُ جراح المؤمن مثل الرجوع إلى كتاب الله سبحانه، والتماس الهدى، والرشد من أنواره.
وعلى وجه الخصوص، أحبُّ أن أتأمل أسلوب القرآن الكريم في معالجة المشاعر المختلفة لنا نحن البشر، وكم من مرةٍ وجدتُ فيها مبتغاي، وعدتُ بما يقوِّي يقيني بأن هذا الكلام لا يمكن أن يكون اختراعا بشريًّا على الإطلاق، وأنه كلام الله حقًّا.
وقد شغلني شعور الخوف زمنًا، ولا أعني الخوف من الله سبحانه وتعالى، وإنما ذلك الشعور البشريُّ الذي يعترينا نحو الخطر، أو نحو ما هو مجهول أو غريب.
وقد كان ذلك داعيًا إلى مزيد من التأمل في قصة موسى -عليه السلام-، فهو ذلك النبي الكليم الوجيه، الذي قصَّ الله علينا من أخباره، وأخبار قومه في القرآن الكريم كما لم يحدث مع غيره من الأنبياء.
ذلك الرسول الذي اصطفاه الله على الناس برسالاته وبكلامه، والذي اصطنعه لنفسه، وصنعه على عينه، أحد أولي العزم، ومَن عانى في دعوة فرعون وفي دعوة قومه أيما معاناة، وأيضًا فأخباره حاضرةٌ في كثير من سور القرآن كالبقرة، والنساء، والأعراف، وفي يونس، وهود، وإبراهيم، والإسراء، وفي طه، والشعراء، والنمل، والقصص، وغيرها من سور القرآن. وكم كان شعور الخوف حاضرًا في كثير أخباره كذلك!
تأمّلت في حياته ونشأته عليه السلام، وفي ذكر هذا الشعور البشري لديه في القرآن بإقرار وعلم وتقدير.
لقد كان قوم موسى عليه السلام (بنو إسرائيل) قومًا مستضعفين معذَّبين، يخافون الموت على أنفسهم وذويهم في كل لحظة، فيما قصَّه الله علينا في القرآن، فقال سبحانه: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة: 49]. فكان شعور الخوف حاضرًا في قومه حتى من قبل ولادته، وأيضًا بعد رسالته إذ اتبعه الذين آمنوا من قومه كذلك على خوف، كما قال تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [يونس: 83].
ومنذ ولادته عليه السلام كان شعور الخوف حاضرًا حوله، إذ خافت عليه أمّهُ من القتل، فيما وصفه الله لنا فقال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 7].
وحينما كبر عليه السلام، وقتل رجلًا من آل فرعون بالخطأ، قال الله عنه: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) [القصص: 18]، ولما اضطر إلى الهرب، فخرج من المدينة وصفه الله مجدَّدًا بقوله: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) [القصص: 21].
وحين رأى العصا تهتز كأنها جان، وتتحول إلى ثعبان ولَّى مدبرًا من شدة الخوف، قال تعالى: (وَأَلْقِ عَصَاكَ ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) [النمل: 10].
وما أعجب ما ذكره الإمام الطبري -رحمه الله-في تفسيره من قول ابن زيد في قوله سبحانه “ولم يعقِّب”. يقول -ابن زيد-: “لما ألقى العصا صارت حية، فرعب منها وجزع، فقال الله: ﴿إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ قال: فلم يرعوِ لذلك، قال: فقال الله له: ﴿أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ﴾ قال: فلم يقف أيضا على شيء من هذا حتى قال: ﴿سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى﴾ قال: فالتفت فإذا هي عصا كما كانت، فرجع فأخذها، ثم قوي بعد ذلك حتى صار يرسلها على فرعون ويأخذها.” اهـ
وحين أمره الله تعالى أن يذهب إلى فرعون: (قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34)) [القصص: 33، 34]؛ فخاف القتل وخاف التكذيب.
ولا يتعجب المرء من هذا الطلب الغريب -أعني أن يرسل الله معه أخاه عونًا يصدِّقَه لأنه خائف-بقدر ما يتعجب من جواب هذا الطلب، فقد أخبره الله سبحانه أنه سيشدُّ عضده بأخيه، وسيُرسلُه معه بكلماتٍ تبعث في قلبه اليقين في النصر وفي نفسه الطمأنينة إليه، إذ قال الله: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ)[القصص: 35].
وأرسَل سبحانه إلى هارون عليه السلام وقال الله لهما معًا: (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)) [طه: 43، 44].
فماذا كان جوابهما عليهما السلام؟، (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ) [طه: 45]، فحتى الآن لم يزل هذا الشعور حاضرًا، ولم تكن إجابته زجرًا ولا عقابًا، بل ولا حتى عتابًا، ولكن قال الله سبحانه لهما: (لَا تَخَافَاۤۖ) [طه: 46].
وفي مشهد لاحق، حين ألقى السحرة حبالَهم وعِصِيَّهم، قال الله تعالى عن سيدِنا موسى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ) [طه: 67]، فكان تثبيت الرب سبحانه له مجدَّدًا بقوله: (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ) [طه: 68].
تأملت كم مرةً خاف فيها موسى عليه السلام، فذكَر الله خوفه في القرآن مرارًا، وذكر إجابته بالرفق منه وهو الرفيق سبحانه، مع أننا إذا تأملنا بعض سياقات الآيات المذكورة؛ فسنجد أن حذف هذا الشعور ما كان ليغيِّر من تسلسل أحداث القصة، وما كان ليُنقِص من مقاصد العِبَر الكبرى فيها من نصرة نبي الله، وإيمان السحَرة به وإهلاك الطاغية الظالم وجنده، لكن الله سبحانه وتعالى كان يجيبه حين يخاف -كما أجاب أمَّهُ من قبلُ-بقوله: “لَا تَخَفْ”.
ما أعظمها من كلمة! وما أطيَب أثرها على النفس! يسمعها الابن من أبيه فيطمئن، ويسمعها التلميذ من أستاذه فيسكُن، ويسمعها المرؤوس من رئيسه فيزول ما يؤرِّقه، فكيف بمن قالها له ملك الملوك سبحانه وتعالى!
كنت أقارن كل مواطن الخوف تلك بشجاعته عليه السلام، وبيانه الجليِّ في حجاج فرعون، فقد وقف في وجه ذلك الطاغية المفسد المتكبر، يعرِّفه بالله في رسوخ وانطلاق، قاضيًا على كل احتجاجاته الزائفة، وقاطعًا ألسنة الزور بالآيات البيِّنات، وفاتحًا أعين الدهشة على ما يحمل من النور والهدى، نشهد ذلك مفصَّلًا في سورة طه، كما نشهده في سورة الشعراء. بل إن فرعون لما اتهمه بالسحر وقال: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا) [الإسراء: 101]، ردَّ عليه باستعلاء المؤمن الموقن قائلًا له: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) [الإسراء: 102].
وكذا شجاعته عليه السلام ويقينه لمَّا قال له أصحابه عند البحر (إِنَّا لَمُدْرَكُون)، فردَّ عليهم بثباته العظيم قائلًا: (كَلَّا!).
فوجدتُ أن الله سبحانه قد قال له ولهارون عليهما السلام قبل أن يذهبا إلى فرعون: (لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ) [طه: 46]، وقال عزَّ وجلَّ: (إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ) [الشعراء: 15].
وقد أردف موسى عليه السلام جوابه عند البحر بذاتِ المعنى قائلًا: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
أجَل، كان هذا اليقين العظيم في مواجهة أصعب المواقف، بعد رحلة طويلة مع شعور الخوف.
في تلك المواطن المتعددة، ثمرة من ثمار الشعور بمعية الله سبحانه وتعالى، ورأفته ورفقه بتلك الطبيعة، كما أنه ثمرة من ثمار اللجوء إلى الله وحده بالافتقار والضعف، فموسى عليه السلام شكا إلى الله خوفه لكنه -وحاشاه-لم يدَع هذا الخوف يحجبه عن واجب الدعوة، أو يصرفه إلى المداهنة بالباطل؛ فإن هذا مما لا يُعذَر الإنسان فيه بخوفه، ويترفع عنه أهل التقوى، ناهيك عن رسول من أولي العزم، بل كانت شكواه لله، استعانةً به على أداء الواجب، والاستعصام عن المحرم على أتمّ وجه.
فالمقصود أن من لجأ إلى الله حاملًا فقره بين يديه؛ أغناه الله بين يدي الناس، ومن اعتصم به شاكيًا خوفَه إليه؛ أمَّنه الله في مواجهة ما يخشى.
وليس المؤمنُ متعاليًا على شعور الخوف بحكم الطبيعة البشرية، لكن هذا الخوف يتبدد في الوقت الذي يرتعد فيه خوفا، أو يهرب فيه خوفا، أو يتحيَّر فيه خوفًا إذا جعل فزعه إلى مولاه سبحانه قائلا في احتماء: يارب.. إني أخاف!
إنَّ الخوف سحابٌ أسود يُخيِّم على النفس، ولا يقشعه إلا شهود معية الله سبحانه، فعند الله وحده مرفأ الأمان.
اقرأ ايضاً: عن الخوف