- مصطفى هندي
- اسم الكتاب: إنسانٌ منتهي الصلاحية: تداعيات الروح في زمن الثورة الصناعية الثانية والثالثة L’ Obsolescence de l’homme
- المؤلف: غونتر أندرس Günther Anders
- سنة النشر: 1956/1980، ميونخ.
- عدد الصفحات:
- لغته: صدر الكتاب بالألمانية في جزأين، وتُرجم إلى الفرنسية عام 2002، وإلى الإسبانية عام 2011؛ ومؤخرًا تُرجمت أجزاءٌ منه إلى الإنجليزية ضمن دراسات عن فلسفة غونتر.
عن المؤلف
وُلِدَ غونتر سيجموند ستيرن في بريسلاو Breslau في 12 يوليو 1902؛ وكان فيلسوفًا وصحفيًا وكاتب مقالات وشاعرًا ألمانيًا.
حصل غونتر على الدكتوراه في الفلسفة عام 1923 بإشراف إدموند هوسرل، وفي أواخر العشرينيات درس على مارتن هايدجر في فرايبورغ؛ ثم تزوج من زميلته حنا آرنت. فر من ألمانيا النازية في عام 1933، أولاً إلى فرنسا (حيث انفصل عن أرنت وديًا في عام 1937)، ثم إلى الولايات المتحدة لاحقًا؛ وفي عام 1992، قبل وفاته بفترة وجيزة في فيينا، مُنح غونتر جائزة سيغموند فرويد عن إسهاماته الفكرية.
كان غونتر من أوائل المنتقدين لدور التقنية في الحياة الحديثة، وفي هذا السياق كان من أشد المنتقدين لظاهرة التلفاز على وجه التحديد التي كانت ظاهرة حديثة آنذاك، ونشر مقالته المدوية “The Phantom World of TV” (الوهم في عالم التلفاز)، التي كُتبت في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، (وصارت فيما بعد جزءًا من كتابه الأشهر)، حيث يشرح بالتفصيل كيف تحل التجربة التليفزيونية محل العيش في الحياة الواقعية، مما ينتهي بالناس إلى تجنب التجارب المباشرة مع العالم، تمامًا كما هي الحال الآن حيث حلت الشاشات محل التفاعل وجهًا لوجه. كما يرى أندرس أن للرأسمالية إمكانات كارثية؛ ويقرر بأن أوشفيتز (معسكر الاعتقال النازي) وهيروشيما ما هما إلا رمزان للمأزق الذي يعيشه العالم منذ القرن العشرين؛ كما قدم نقدًا لفلسفة مارتن هايدجر.
اليوم في عصر الإنترنت ورأسمالية البيانات، لا تزال تبصرات أندرس حول الآثار السلبية المحتملة للتكنولوجيات الرأسمالية والرأسمالية نفسها ذات أهمية كبيرة، وتقف بنا على تحليلات عميقة تسمح لنا بالوصول إلى فهم نقدي لهياكل السلطة في عصر البيانات الضخمة ووسائل التواصل الاجتماعي؛ ورغم ذلك فإن أفكاره لم تحظ حتى الآن بتحليل واسع.
عن الكتاب
صدر الكتاب أول مرة بالألمانية في ميونخ عام 1956 بعنوان (Die Antiquiertheit des Menschen) وترجمته الحرفية: تقادم الجنس البشري؛ وهو أبرز وأهم كتب غونتر؛ وفي عامة الدراسات الإنجليزية التي تناولت فلسفته أعرب الباحثون عن استيائهم من عدم وجود ترجمة إنجليزية كاملة للكتاب؛ في حين أن هناك ترجمة فرنسية وأخرى إسبانية.
يقع الكتاب في جزأين، صدر الأول عام 1956، والثاني عام 1980، وتقع طبعته الألمانية في 818 صفحة، والإحالات والاقتباسات في هذه المقالة هي من الترجمة الفرنسية.
فجوة برومثيوس
ظهرت أسطورة برومثيوس اليونانية في “ثيوجونيا” هيزيود، حيث يتحدى بروميثيوس قوة زيوس بخداعه بهدية مزيفة، لا يعكس ظاهرها ما بداخلها. علاوة على ذلك، سرق برومثيوس شعلة النار من جبل أوليمبوس وأعطاها للبشر؛ وردًا على ذلك صب زيوس جام غضبه على بروميثيوس بالعقاب الأبدي. رمزية هذه الأسطورة في فلسفة غونتر تعني أن بروميثيوس أهدى النار للبشر كوسيلة للإنتاج، لأنه اعتقد أنها تحررهم من استجداء الإله؛ لكن غضب زيوس كان أقوى من حيلة بروميثيوس، الذي عاقبه بنقيض فعلته إلى الأبد، لتنتهي محاولة التحرر بالمعاناة والفشل والوقوع في أسر المادة. طبّق غونتر رمزية هذه الأسطورة كمحاكاة للتكنولوجيا الحديثة التي كان الهدف منها في أول الأمر هو تحرير البشرية من التقشف والعوز، لكنها أطلقت العنان لقوى مدمرة جديدة.
انطلاقًا من النظريات النقدية في مدرسة فرانكفورت، أطلق أندرس على نفسه اسم المنظر لنقد التقنية؛ وقرر في بداية كتابه -مستخدمًا العديد من الحجج الفلسفية والواقعية- بأن الفجوة بين القدرة البشرية المعززة بالتقنية على التدمير وقدرتنا على تخيل حجم هذا الدمار قد اتسعت جدا، وأطلق عليها فجوة برومثيوس؛ حيث يرى غونتر أن المجتمع المعاصر قد تحول إلى “نظام تسيره الآلات” (ص2)، وفي هذا العالم، نواجه ما يسميه فجوة “عدم التزامن بين البشر والمنتجات التي عززتها التقنية” (ص16). تضم فجوة بروميثيوس داخلها فجوات بين علاقات الإنتاج والأيديولوجيا، وبين الإنتاج والوعي بما يستتبعه من تداعيات على العالم، وبين ما هو عملي وما هو شعوري، وبالتأكيد بين المعرفة والضمير، والآلة والجسد (ص18). ومن ثم فنحن غير قادرين على تخيل العواقب السلبية الهائلة التي يمكن أن تحدثها استخدامات التقنيات المعاصرة. أما فيما يتعلق بالكوارث التي تسببها التقنيات، فنحن عاجزون عن إظهار ما يكفي من الحزن والندم لأن عدد الوفيات ومدى شراسة الدمار الواقع يتجاوز بكثير حدود ما يمكننا التعبير عنه.
وثن التقنية
على غرار استشارة اليونان لكاهنة دلفي قبل كل حرب؛ يقدم غونتر مثالًا على توثين التقنية (ص56-62) من سيرة دوغلاس ماك آرثر الذي قاد الأمم المتحدة في الحرب الكورية. قام ماك آرثر بتزويد الحاسب ببيانات من أجل معرفة ما إذا كان يجب على الولايات المتحدة التدخل في كوريا أم لا؛ ونظرًا لأن جميع أجهزة الحاسوب المستخدمة لا تعرف إلا لغة الآلة، فقد زُوِّدت الحواسيب “بنوعية من البيانات لا تستعصي على التقدير الكمي”؛ ويعلق غونتر:
“لا يمكن للآلات والحواسيب إصدار أحكام أخلاقية، لأن البشر فقط هم من لديهم حس أخلاقي؛ لقد اختُزلت الأسئلة حول “إبادة الأرواح البشرية أو تدمير البلدان” إلى “أرقام تُقيِّم الربح أو الخسارة”، كما اختُزلت القيم الأخلاقية إلى كميات قابلة للحساب؛ لقد تُرٍك القرار الرئيسي حول الحياة والموت للآلة”.
في الجزء الأول من رأس المال، يصف ماركس كيف ارتبط صعود التقنية الرأسمالية بانعكاس الوسائل والغايات، بحيث أصبح البشر وسيلةً يتم استغلالها بمساعدة من آلات لإنهاء تراكم رأس المال (الفصل 15 من رأس المال)؛ وعلى نفس المنوال يصف غونتر حالةً للعالم لا يقتصر فيها الاغتراب فقط على المصنع أو المكتب، بل يصبح على نطاق عالمي، حيث يتحول العالم البشري بأكمله إلى آلة تستغل (تقريبًا) كاملَ النشاط البشري.
ينتقد غونتر بشدة النظرة التي تنظر إلى كل ما هو حديث من التقنية على أنه نعمة تجلب للمجتمع المزيد من الرخاء؛ بل يرى أنها تعزز عبادة وتوثين الآلة. فضدًا على النظرة التي ترى أن تراكم الآلات يؤدي بالضرورة إلى تعزيز السمات الإيجابية لأي مجتمع، يرى غونتر أنها لا تزيد المجتمع إلا سوءًا (ص90). في عصر الحتمية الرقمية (حيث لا مفر من استعمال التقنية) يتم التعامل مع التقنيات الرقمية -مثل الكمبيوتر، والإنترنت، ومنصات الويب، والبيانات، والهاتف المحمول، وما إلى ذلك- على أنها “فاعل” اجتماعي يُحدد تطور المجتمع من طرف واحد. بالنسبة لغونتر، فإن التقنية والمجتمع تربطهما علاقة جدلية، حيث يشكل المجتمع التقنية ويتشكل بها. التقنية بالنسبة لغونتر ليست شيئًا محايدًا يمكن أن يكون له تأثيرات مختلفة اعتمادًا على سياقات استخدامها، بل إنه يشدد على أن الإنتاج الاجتماعي للتكنولوجيا ينتج عنه سمات متأصلة يمكن أن تكشف عن ديناميكيات وتناقضات معقدة في المجتمع عند استخدام التقنيات وإضفاء الطابع المؤسسي عليها، فمن المحتمل أن نجد نفس التقنيات في مجتمعين مختلفين، إلا أن آثارها متناقضة ولا يمكن التنبؤ بها بشكل كامل.
التلفاز والراديو وصناعة الواقع
خصص غونتر قدرًا كبيرًا من كتابه لتحليل ظاهرة البث الإذاعي (المرئي والمسموع)، وما قدمه في هذا الصدد يصلح أن يُطبق على عصر وسائل التواصل الاجتماعي الذي نعيشه. بدأ غونتر بتسمية العالم الذي تحتل فيه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بـ “العالم كشبح وكمصفوفة” (ص97-122)؛ مشيرًا إلى الصورة المزيفة التي تقدمها هذه الوسائل عن العالم الواقعي حتى تصبح الحقيقة شبحًا، وحتى يتصرف الناس طبقًا لمصفوفة الحقائق التي يقدمها لهم التلفاز.
“أصبح العالم الآن “معرضًا” يستحيل ألا نزوره، لأننا دائمًا ما نجد أنفسنا داخله” (ص161)
يرى غونتر أن التلفاز ينتج کائنًا اجتماعيًا جديدًا هو “السلطعون الحلزوني”؛ حيث يجلس الملايين من هؤلاء منفصلين، ومنغلقين على أنفسهم في أقفاصهم، تمامًا كما يقبع السلطعون داخل قوقعته؛ وهم لا يفعلون ذلك رغبةً في الفرار من العالم، بل من أجل التأكد تمامًا من “ألا يفوتهم -أبدًا- أي جزء ضئيل من الصورة التي تظهر لهم على الشاشة”(ص110)،
“وهكذا، يكون الواقع مقتطعًا من سياقه، ومؤطرًا، ومعدًا كما ينبغي؛ ليوصله التلفاز إلى بيوتنا مثل سلعة، حتى لا نكون بحاجة إلى معايشته أو تجربته بأنفسنا”. (ص150)
من ناحية أخرى، يحلل غونتر الغشاوة التي تلقيها وسائل الإعلام على المشاهِد قائلًا:
“عندما أفتح تلفازي فأرى الرئيس يتبادل الحديث معي، وألاحظ مقدمة البرامج التلفزيونية على الشاشة وهي تُظهِر عاطفة تبدو عفوية لكنها مُعدَّة مسبقًا، وتشارك أفكارًا عميقة معي، كما لو كان هناك شيء ما بيننا= فإن هؤلاء الزوار يتعاملون وكأن بيننا معرفة مسبقة تبني جسورًا للثقة؛ وهكذا فإن التلفاز ينسينا حقيقة أنه يصدر حكمًا كان قد سبق النطق به سلفًا، حتى يقنع المستهلك أنه لا يجري إقناعه بتصديق شيء ما، فهذا الحكم -الذي تحول إلى صورة- يتخلى عن مظهره الحقيقي المصنوع”.(ص171)
أما عن نشرات الأخبار، فيرى غونتر أن الأخبار التي يُفترض بها أن تنقل صورة الواقع كما هي، تركز بشكل أساسي على تهيئة المتلقي للتصرف كما لو كانت حقيقية، وذلك لإدراج صورة معينة يرجع إليها في حساباته وقراراته العملية؛
“إن أساس وجود الخبر ليس مطابقته للواقع، بل قدرته على جعل المتلقِّي يوجه قراراته وفقًا له”.
“يقضي البث الراديوي على الاختلاف بين الواقع والأخبار؛ إن ما يقدمه الراديو هو أحكامٌ مموهة”.
إن السعلة الأساسية التي تبيعها وسائل الإعلام للمشاهد هي “صورة عن العالم”؛ ويرى غونتر أن ما يُعَد للبيع، يتجاوز بكثير ما يُعرض فعليًا، ففي ظل ظروف معينة، لا يكون ما يُبثّ حقيقيًا من الناحية الموضوعية؛ ويرى أن هذا صحيح بالنسبة للعديد من المعروض على التلفاز وما يُبث عبر الرادية؛ لكن:
“بما أن الكذب لابد وأن يتذرع بشيء من الحقيقة -أو على الأقل يجب أن يقدم حقيقة جزئية- فإن عامة صناع التفلزة يفضلون تلك الطريقة، فلا توجد كذبة يراد لها أن تروج تجرؤ على أن تقدم باطلًا محضًا…فحتى لو بث التلفاز كل جزئية بأمانة، فإن المجموع الكلي لما يبثه سوف يتحول إلى عالمٍ مصنوع خصيصًا للاستهلاك، وليس لتقديم صورة صادقة عن الواقع -حتى لو كان ذلك فقط عن طريق عدم عرض ما يكفي من الحقيقة- وبالتالي فإن الصورة الكلية تصبح أقل واقعية من مجموع أجزائها”. (ص210)
في عالم اليوم -عالم وسائل التواصل الاجتماعي– أصبح بالإمكان نشر جميع الآراء، وتقييم أي محتوى والتعليق عليه مباشرة؛ لكن وسط هذا السيل من الآراء -التي منها المدعوم، والمهتم بالترويج لعلامة أو سلعة تجارية أو فكرية- فإنه من الصعب -بل يكاد يستحيل- تمييز وفرز الآراء المتهافتة عن الآراء الجادة، كما أضحى من الصعب التعرف على ما هو حقيقي فعلًا، وما يُراد له أن يكون حقيقيًا. في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي، وصلت فكرة غونتر عن الفجوة بين الفعل والشعور إلى مستوى جديد، حيث يمكننا الوصول إلى كم لا حصر له من المعلومات حول العالم والتواصل مع أشخاص لا حصر لهم، ولكن في نفس الوقت لم يعد بإمكان الفاعل الاجتماعي أن يشعر ويتأمل ويفكر في عاقبة فعله وما يُحاك له ويراد به.