تقارير ودراسات

الصين: كيف صنع العلم قوةً عظمى

  • شلين وو
  • ترجمة: غادة خالد
  • تحرير: أمل عبد الوهَّاب

شهد حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية لعام 2008 في بكين الاختراعات الأربعة العظيمة للصين قديمًا، وهي: البوصلة والطباعة والورق والبارود. ويُدرّس في الفصول الدراسية في جميع أنحاء البلد وفي معظم الأوراق البحثية؛ أن الابتكار الصيني في العلوم والتكنولوجيا غيّر العالم.

قبل أقل من مائة عام، كتب الفيلسوف الصيني فينج يولان مقالًا استفزازيًا بعنوان “لماذا الصين ليس لديها علم”(1) جادل الباحث – الذي تخرج في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك – بأنه منذ العصور القديمة، حالت التقاليد الفلسفية والفهم الفريد للعلاقة الإنسانية بالطبيعة دون تحقق روح البحث العلمي. ومثل كثيرين آخرين في ذلك الوقت ومنذ ذلك الحين، حثّ فينج على أن العلم هو وسيلة النجاة الوحيدة من هوة الضياع التي تتجه إليها الأمة.

إن بذل الجهود لتغيير نقص العلم الواضح في تاريخ الصين الحديث المضطرب هو المفتاح لفهم كيفية وصول تلك الأمة إلى مصاف القوى العظمى الحالية. فإيمان الصين الراسخ بالعلم باعتباره الطريق إلى الثروة والسلطة هو خيط القدر الأحمر الذي يمر فيها خلال الـ 150 عامًا الماضية.[1]

لقد حجبت العلاقة المتشابكة بين البحث العلمي والقومية في الصين كيف نما هذا الاعتقاد من مزيجٍ من التأثير الأجنبي والتكيف الصيني، خصوصًا في الستينيات والسبعينيات،(2،3) حيث حاولت الحكومة الصينية التركيز على العلوم المحلية، ونجحت في مجالات مثل الزراعة والطب. ولكن من المنظور الأبعد، كانت فترات التقدم الأكبر عندما انفتحت الصين على النفوذ الخارجي.

ما قرأناه حتى الآن يعدّ درسًا مفيدًا، إننا على استعداد لنرى تحديات الـ 150 عامًا القادمة، بما في ذلك تغير المناخ ونفاد بعض الموارد واستكشاف الفضاء، حيث تتطلب هذه التحديات مشاركة واسعة مع العالم.

 

توالي الكوارث

خلقت الكوارث الظروف الملائمة لتطور العلوم والتقنية في الصين. ففي العصر الإمبراطوري الأخير، واجهت سلالة تشينغ الحاكمة (1644-1912) سلسلة من الهزائم المهينة من القوات الأجنبية في القرن التاسع عشر بدءًا من حرب الأفيون الأولى عام 1839.[2] وقد أدت هذه الهزائم -بالإضافة إلى أزمة الأفيون التالية- إلى واحدة من أكبر الانتفاضات المحلية على الإطلاق. بالإضافة إلى ذلك، دمر تمرد تايبينغ (1850-1864) أغنى منطقة في وسط البلاد، مما أسفر عن مقتل ما يصل إلى 50 مليون شخص.

في عام 1986 -السنة التي تسبق تدشين مجلة nature- نُشر الكتاب المدرسي الأول للعلوم الغربية باللغة الصينية “مقدمة في الفلسفة الطبيعية (جيو رومان)”. كان الكتاب مخصصًا للطلاب في كلية المترجمين وهي مدرسة افتتحها إصلاحيون سعوا إلى تكييف الإمبراطورية مع عالم متغير من خلال تعليم مسؤولين طموحين اللغات الأجنبية والعلم الذي توصل إليه الغرب. لم يكن هناك أي خلفية علمية للمترجم الأمريكي ويليام مارتن الذي ترجم الكتاب، لكنه أدرك أهميته في تحسين حال بلد يعاني من الكوارث. يحتوي هذا الكتاب على رسوم توضيحية لأنواع المجاهر والقطارات، وكذلك تفسيرات أساسية لمجموعة مميزة من المفاهيم في الكيمياء والكهرباء والفيزياء.

بنى عالما الرياضيات اكسو شو وهوا هنفانغ خلال عام 1863 أول باخرة في الصين، وذلك باستخدام رسوم توضيحية من مجلة إعلامية. وساعدا في تأسيس مكتب ترجمة حيث قدّم العديد من الأعمال العلمية للصين. وفي نهاية القرن الثامن عشر اقتنع العديد من الناس بأن العلم والتقنية هما ما جعل الغرب أغنى وأقوى. غامر الآلاف من الطلاب بالابتعاث خارج البلاد للدراسة، وكانت اليابان وجهة الكثير؛ ولأنهم مؤمنون بأن العلم هو السبيل للتخفيف من محن بلادهم، فقد عادوا إلى أوطانهم متلهفين لتأسيس مجالاتهم وأقسامهم الخاصة.

مع انهيار الأسرة الحاكمة، ازداد نفوذ المبشرين والعديد من ممثلي القوى الغربية في الداخل. وفي صيف عام 1900 الحار والجاف، اندلعت توترات محتدمة على الملأ. حيث شنّ المتمردون حصارًا على الأحياء الدبلوماسية في بكين، موجهين حنقهم على الأجانب؛ وفي أول حدث إخباري دولي في القرن الجديد، أنقذت قوات ثماني دول -بما في ذلك بريطانيا والولايات المتحدة واليابان- الدبلوماسيين المحاصرين.

في نوبة التدمير والنهب التي أعقبت ذلك، استولى الجنود الفرنسيون والألمان على المرصد الموجود في ضواحي المدينة القديمة الذي يحتوي على أدوات فلكية صنعها الكهنة اليسوعيون للمحكمة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ونقل الألمان إلى بلادهم كمية كبيرة من أجهزة الأسطرلاب والسداسي المزين بالتنين والزخارف الملكية الأخرى المتقنة. (الجدير أن هذه المسروقات عُرضت في أرض قصر في بوتسدام خارج برلين حتى عام 1919، عندما نصّت معاهدة فرساي على عودتهم). والأسوأ من ذلك، فرضت الدول الثماني الغازية دفع تعويضات كبيرة على الصين. وبهذا نهبوا دولة تشينغ وعجلوا بزوالها.

ولشدة هيمنتهم، أنشأ الأمريكيون صندوقًا للمنح الدراسية – وهي أموال استخدمها جيل من أفضل الطلاب الصينيين للدراسة في الولايات المتحدة. وأنشأت مجموعة منهم في يناير 1914 جمعية العلوم الصينية في جامعة كورنيل في إيثاكا في مدينة نيويورك.

 

بناء الأمة

كانت المنظمة الرئيسية للعلوم الصينية في النصف الأول من القرن العشرين مكونة من مبتعثين في الخارج. عاد أغلب المؤسسين والطلاب الآخرين إلى الصين وأصبحوا قادة في مجالاتهم، في وقت أدّى فيه عدم الاستقرار السياسي ونقص التمويل المركزي إلى جعل البحث مهمة شاقة. وقد دُربوا في التخصصات التي اعتبرها الكثير أنها ضرورية لبناء دولة حديثة، وشرعوا في العمل في العلوم الزراعية وعلم الوراثة وعلم الأحياء والكيمياء وغيرها.(4)

مثلًا؛ ناشد مجموعة – أغلبها من الجيولوجيين المدربين في الخارج- الحكومة بإصرار لإجراء مسح للموارد الوطنية؛ منهم: الشخصية الفكرية العظيمة دينغ وينجيانغ الذي شارك في تأسيس هيئة المسح الجيولوجي الصينية في بكين عام 1915، فقد شارك في نقاشات نُشرت على نطاقٍ واسع، ودعا إلى زيادة تمويل الدولة للعلوم.(5) وساعد عمله الدؤوب على أن تصبح الجيولوجيا من أكثر العلوم الصينية تماسكًا، ويحظى باحترام دولي في النصف الأول من القرن العشرين.

d41586
ساعد يوان لونغ بينغ في إنتاج أرز هجين الذي ساعد في الثورة الخضراء في الصين | حقوق الصورة: أدريان برادشو / وكالة حماية البيئة / شترستوك

في تلك الأثناء، قدم عالما الفيزياء شو تشونغتشينغ و لي فانغباي – وهما عالمان صينيان تعلما في اليابان- نظرية النسبية لأينشتاين.(6) وعاد زملاؤهم في روكفلر -لي روكي وتان جياتشن- من الولايات المتحدة لرئاسة أقسام البيولوجيا والوراثة. ودعا عالما الأحياء اكسو كيانسو و بينغ زي إلى دراسة تصنيفية للنباتات والحيوانات الصينية.(7،8)

وفي العقود التي تلت ذلك، تزايد قلق هؤلاء العلماء من تأسيس جدول أعمالهم البحثي وفقا لنماذج أجنبية، وسعوا بدلاً من ذلك إلى بناء “علم صيني”.

في هذا الوقت تقريبًا؛ ظهرت في الكتابات العامة عبارة “إنقاذ الصين بالعلم”. وظل الفقر والاضطراب السياسي يطاردان الطلاب حتى في الخارج.

جين شانباو الذي خرج ليدرس فسيولوجيا النبات وعلم الوراثة في جامعة كورنيل، حدث بينه وبين الطلاب الأمريكيين مشادّة حيث سخروا منه ومن معاناة شعبه بإعطائه بعض الطعام الفاسد لإذلاله. استاء جين استياءً شديدًا وسعى إلى تخفيف معاناة الصين، فعاد إلى وطنه قبل أن ينهي دراسته الجامعية، وسعى لتطوير أصناف عالية من القمح، ناشرًا عباراته: “الغذاء هو الضرورة الأولى للناس، والزراعة هي عمود البلاد”.(9)

بلغ الاعتقاد بأن العلم سينقذ الأمة ذروته خلال الغزو الياباني، بدءًا من عام 1937. وأثناء مواجهة إحدى القوى المتفوقة، تراجعت الحكومة القومية في أقصى الغرب إلى مقاطعة سيتشوان الجبلية واتبعهم العديد من العلماء طواعية، وواصل الجيولوجيون عملهم من منزل مزرعة خارج عاصمة الحرب تشونغتشينغ.

الصور التي التقطها عالم الأحياء البريطاني جوزيف نيدهام عندما زارها في عام 1943 تُظهر المرافق المهترئة وروح الوطنية بين العلماء الذين قابلهم. وكان اندهاشه سببًا في بدء دراسته لتاريخ العلوم في الصين. (استمر نيدهام في نشر سلسلة كتب ضخمة بعنوان “العلم والحضارة في الصين” والتي ساعدت في نشر فكرة الاختراعات الأربعة العظيمة داخل البلاد، وكذلك في جميع أنحاء العالم).

باختصار؛ ساد التطلع إلى حل المشكلات الوطنية من خلال العلم حتى قبل عام 1949عندما أعطت الأيديولوجية الماركسية الأولوية للتطبيق العملي على التنظير. أكبر التحديات التي واجهتها البلاد طوال القرن العشرين هي توفير الطعام وتحسين مستويات المعيشة لعدد كبير ومتزايد من السكان.

وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، كرّس معظم العلماء الصينيين البارزين في كل عصر أنفسهم لمواجهة هذه التحديات.

 

العلم للجميع

عام 2019 هو عام الذكرى المئوية، حيث أبرزت حركة الرابع من مايو عام 1919 جيلًا من المفكرين الصينيين كرد فعل على خيانة الحلفاء للصين في معاهدة فرساي. وأُقيمت الاحتجاجات الطلابية في ميدان تيانانمين عام 1989 على أثر هذه الحركة، وأصبحت نقطة تحول في عصر “الإصلاح والانفتاح” في الصين. ويصادف شهر اكتوبر الذكرى السبعين لتأسيس الجمهورية الشعبية.

وفي بعض الروايات القديمة عن هذا العصر المرعب، كان عام 1949 بداية الصين “الجديدة”. ومثل هذه الأحداث المريعة تهدد استمرارية سير العلوم وتغيير النظام؛ فعندما سُحِق الشيوعيون القوميون في الحرب الأهلية التي أعقبت هزيمة اليابان في عام 1945، بقي معظم العلماء للمساعدة في إعادة البناء. وواصل النظام الجديد جهوده لتطوير العلم الذي كان قد بدأ في العهد السابق.

على الرغم من أن رتب الباحثين الصينيين ظلت إلى حد كبير على حالها، لكن في العقد الأول من النظام الشيوعي، تغير خطاب النظام تغيرًا جذريًا. حيث عُرّف العلم الآن على أنه مسعى يخدم عامة الناس ومن أجلهم. بدايةً، استغنوا عن اينشتاين ونسبيته، وزادت الدراسات وحملات الصحة الجماعية؛ وأثناء ذروة التعاون الصيني السوفيتي في الخمسينيات، عمل 10000 مستشار سوفيتي في جميع أنحاء الصين لتقديم المساعدة التقنية والعلمية للتنمية الصناعية للبلاد.

أشرف الحزب الشيوعي على إعادة هيكلة كاملة للجامعات والمؤسسات البحثية في البلاد لاستئصال النفوذ الأمريكي والأوروبي وإحلال الإتحاد السوفيتي. وأُعيد تنظيم المؤسسة البحثية الأولى في الصين (Academia Sinica) والتي أنشأتها الحكومة الجمهورية عام 1928، لتصبح الأكاديمية الصينية للعلوم (CAS). وساعد متخصصون سوفييت في وضع أول جدول أعمال مدته خمس سنوات لهذه الأكاديمية للتركيز على استخراج الموارد والتطبيقات العملية الأخرى.

في الواقع لم تختلف هذه الأجندة جذريًا عن التركيز البحثي في زمن الحروب للعديد من العلماء الصينيين، حيث لم يستسلم المجتمع العلمي الصيني بالكامل للتأثير السوفيتي.(10)

مثلًا، لم تعد بذور المحاصيل الزائفة لليسينكو – التي لا تصلح للزراعة في أماكن أخرى- مُعتمدةً بسبب المقاومة القوية من علماء الأحياء الصينيين البارزين، على الرغم من الضغط السياسي المكثف.

شكلت القيود المادية لممارسة العلوم في بلد فقير روح هذا الجيل من الباحثين الصينيين. فأولئك الذين استمروا في إحراز تقدم كبير قللوا من أهمية تدريبهم وخبراتهم الغربية، وشددوا بدلاً من ذلك على تعاطفهم مع العامة.

 بعد حصول عالم الحشرات بو زيلونج على درجة الدكتوراه من جامعة مينيسوتا في مينيابوليس عام 1949، عاد إلى البر الرئيسي للصين ودعا إلى استخدام الحشرات بدلاً من المبيدات الحشرية الكيميائية باهظة الثمن (وتبين أنها الطريقة الأكثر استدامة بيئيًا).

في سبعينيات القرن الماضي، ابتكر العالم الزراعي يوان لونغ بينغ وآخرون أرزًا هجينًا، مما أدى إلى الثورة الخضراء في الصين، ويقال إن يوان تعلم ذلك من تفاعلاته مع المزارعين في الحقول.(11)

كما أدت الحقبة الماوية إلى تنويع القوى العاملة العلمية. حيث شُجّع النساء والفلاحون والشباب على تحدي التسلسل الهرمي الاجتماعي في قراهم وأماكن عملهم وشُيّد بإسهاماتهم في العلوم. في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فتحت للنساء آفاقًا كثيرة وسمحت لهن بالمشاركة في العلوم بدرجة غير مسبوقة. فمثلًا؛ قامت تو يويو الحائزة على جائزة نوبل في الطب بمعظم أبحاثها حول الصفات المضادة للملاريا من مادة الأرتيميسينين خلال هذه السنوات. (كان التحول مؤقتًا فقط؛ ففي العقود الأربعة الماضية، عادت التحيزات الجنسية مع إصلاحات السوق).

لكن سرعان ما أُصيب العلماء الذين كانوا مترقبين لدعم البحوث بخيبة أمل. حيث أدت الثورة الثقافية التي بدأت في عام 1966 إلى إغلاق الأكاديمية الصينية للعلوم وجميع الجامعات.

أصبح التعليم في الخارج صعبًا، ووجد الباحثون الذين بقوا في الصين بدافع حب الوطن في العقود السابقة أنفسهم أهدافًا لهجمات ضد النخبوية؛ واعتبرت الهوية “الثورية” أكثر أهمية من المعرفة المتخصصة. كانت هندسة السدود وغيرها من المشاريع الكبيرة لبناء الاشتراكية من خلال التغلب على الطبيعة تتعارض أحيانًا مع مشورة الخبراء.(12،13)

استمرت المشاريع المهمة للدفاع الوطني في تلقي الكثير من دعم الدولة وحمايتها من التدخل السياسي، بما في ذلك الأبحاث النووية والصاروخية والأقمار الصناعية والتي حُددت لبرنامج “قنبلتان وقمر صناعي واحد”. بقيادة علماء صينيين تدرب معظمهم في أوروبا والولايات المتحدة= أصبحت الصين قوة نووية في عام 1964، وأطلقت أول قمر صناعي ناجح في عام 1970.

قبل خمسين عامًا، كانت النظرة العامة للعلوم في الصين سوداوية، وتوقفت العديد من المجالات حيث أُغلق الهيكل المؤسسي الذي يدعم تقدم العلم خلال الثورة الثقافية.

أمضى شيوخ العلوم سنوات يعملون في المزارع النائية وفي معسكرات الإصلاح. وذُكر في دفتر يوميات نائب رئيس الأكاديمية الصينية للعلوم زو كيزين، – عالم الأرصاد الجوية الذي تدرب في جامعة هارفارد في كامبريدج، ماساتشوستس-، أن إنتاج فترات الأيام الممتدة في الستينيات من القرن الماضي= قليل ومخيب للآمال. كان أداء العديد من العلماء سيئًا، حتى أن البعض منهم مات. لكن فكرة أن العلم والتكنولوجيا يشكلان حجر الأساس للمجتمع الحديث لم تختفِ تمامًا.

عندما أعادت الولايات المتحدة والصين تأسيس العلاقات في عام 1972، سارع العلماء الأمريكيون إلى زيارتها. لم يدرك معظمهم مدى القمع السياسي الذي واجهه زملاؤهم وكانوا متحمسين لاحتمال استكشاف العلوم الاشتراكية. وقد لاحظوا حالة الركود في البحث النظري في مجالات مثل فيزياء الجسيمات، حيث كانت متأخرة عن الغرب بعقود.(14)

أُعجب الزوار ببعض التقدم الذي أُحرز في ظل الظروف الصعبة. فبالإضافة إلى ثورة الصين الخضراء، حققت تقدمًا كبيرًا في مجال الصحة العامة: حيث ساعدت الحملات الجماهيرية في القضاء على داء البلهارسيا، وهو مرض معدٍ يقتل حوالي 400000 شخص سنويًا. وقضى العديد من العلماء المشاركين سنواتٍ في مواقع العمل الميداني البعيدة دون رؤية عائلاتهم.

بعد وفاة الرئيس ماو في عام 1976، عاد التركيز على العلم والتكنولوجيا مرة أخرى. ففي عام 1978، أطلق دنغ شياو بينغ رسميًا سياسة تُعرف باسم “التحديثات الأربعة”، والتي ركزت مجددًا على الزراعة والصناعة والدفاع الوطني والعلوم والتكنولوجيا. وبحلول ذلك الوقت، أُعيد فتح الجامعات والأكاديمية الصينية للعلوم، وكانت قياداتهم حريصة على الريادة.

في العقود التي تلت ذلك، أصبح الاقتصاد الصيني ظاهريًا يشبه الدول الرأسمالية. لكن منهج عهد ماو لا يزال واضحًا فيها. ففي تلك الفترة أُنشأت بنية تحتية تعليمية ومؤسسية مركزية للعلوم مما جعل من السهل توجيه الاستثمار الاستراتيجي بسرعة. فمثلًا؛ صناعة الروبوتات هي أحد المكونات الرئيسية لخطة الصين للانتقال إلى التصنيع عالي التقنية بحلول عام 2025، ويقع هذا المصنع في شمال شرق البلاد بسبب قربه من مركز أبحاث الروبوتات التابع لأكاديمية الصين للعلوم في شنيانغ. كما بُنيت مجالات قوة أخرى على اهتمامات العصر السابق في التغلب على نقص الموارد والتحديات البيئية مثل علوم وهندسة المواد.

خلال هذه الفترة من الإصلاح والانفتاح، وجد العلماء الذين تدربوا في الخارج في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي ونجوا من اضطرابات العقود السابقة أن شبكاتهم الدولية لها قيمة مرة أخرى. ومن هنا بدأت الموجة الثانية من الطلاب الصينيين في الابتعاث الخارجي – 5.86 مليون بين عامي 1978 و 2018. وقد حاولت الاستثمارات الحكومية الكبيرة في السنوات القليلة الماضية جذب أصحاب المواهب المبتعثين للعودة.

 

الانفتاح على الأفكار

خلال القرن ونصف القرن الماضي، غدا الاعتقاد بأن العلم والتكنولوجيا يمكن أن يحسنا الأمة اعتقادًا راسخًا في الثقافة الصينية، وأصبح ظاهرًا في الشعارات المرسومة على الجدران والملصقات من المدن إلى الريف. لكن لم يُعترف إلى الآن بالصلة بين العلم والانفتاح على التأثيرات والأفكار من الخارج.

التجول في بكين اليوم يعني رؤية آثار تاريخ العلم في كل مكان. حيث يوجد على الجانب الشرقي وعلى الطريق الدائري الثاني الأدوات الفلكية اليسوعية، التي رفعت المد والجزر الجيوسياسي المضطرب في القرن العشرين. أما على الجانب الآخر من المدينة  توجد لافتة صغيرة  في ركن هادئ من حديقة حيوانات بكين تشير إلى المكان الذي افتتحت فيه وزارة الزراعة والصناعة والتجارة أول محطة للتجارب الزراعية في 70 هكتار من الأرض في الأيام الأخيرة من عهد أسرة تشينغ عام 1906.

أما في الركن الشمالي الغربي من المدينة، أصبحت كلية المترجمين الفوريين هي جامعة النخبة في بكين. وفي أسفل الطريق تقع كلية أخرى لها علاقات تاريخية مع الولايات المتحدة وهي جامعة تسينغهوا، جامعة العلوم والتكنولوجيا الرائدة في الصين. وفي أحياء الصين، الملصقات واللوحات تملأ الشوارع وتعزز الاحتفال بالتطور العلمي.

في المكتبات الصينية يُعد الخيال العلمي هو النوع الأكثر شيوعًا. ومع المختبرات الممولة تمويلًا كافيًا والمحطات الميدانية الحديثة، تندفع الصين إلى الأمام بإيمان راسخ بمكانتها كقوة علمية عظمى.

وهناك قصة أخرى مع هذه الأحداث، قصة الارتباطات مع العالم الخارجي التي غيرت البلاد. في قمم تلك القصة ووديانها، هناك رسالة وهي: المستقبل يتطلب سياسة التعاون الدولية التي دفعت صعود الصين في الـ 150 عامًا الماضية.

اقرأ ايضًا: هل هيمنت الصين على الغرب من قبل؟


  • شلين وو أستاذ مشارك في التاريخ بجامعة تينيسي في الولايات المتحدة الأمريكية.

[1] – ويسمى أيضًا بخيط الزواج الأحمر؛ وهو معتقد من شرق آسيا، مصدره أسطورة صينية، ووفقاً لهذه الأسطورة، تقوم الآلهة بربط خيط غير مرئي حول رقبة من يقدّر لهم أن يلتقوا في ظروف معينة أو مساعدة بعضهم البعض بطريقة معينة كعلامة على حصول المدد الإلهي. -الإشراف.

[2] – معروفة أيضًا باسم الحرب الأنجلوصينية، كانت سلسلة من الاشتباكات العسكرية حدثت بين بريطانيا العظمى وسلالة تشينغ الصينية الحاكمة. اتخذ المسؤولون الصينيون إجراءات صارمة تجاه تجارة الأفيون، وهددوا من يخالفها بعقوبة الإعدام، مما تسبب في خسائر فادحة للحكومة البريطانية حيث كان البريطانيون أبرز موردي الأفيون للصين وبما أنهم كانوا أقوى بكثير من الناحية العسكرية فقد ألحقوا الهزيمة بالصينيين، وفرضوا عقوبات منحت الدول الكبرى الغربية امتيازات تجارية خاصة في الصين. -الإشراف.


الحواشي:

1.Feng, Y.-l. Int. J. Ethics 32, 237–263 (1922).

2.Meng, Y. East Asian Sci. Technol. Med. 16, 13–52 (1999).

3.Huters, T. Bringing the World Home: Appropriating the West in Late Qing and Early Republican China (Univ. Hawaii Press, 2005).

4.Wang, Z. Osiris 17, 291–322 (2002).

5.Kwok, D. W. Y. Scientism in Chinese Thought 1900–1950 (Yale Univ. Press, 1965).

6.Hu, D. China and Albert Einstein: The Reception of the Physicist and his Theory in China 1917–1979 (Harvard Univ. Press, 2005).

7.Schneider, L. in Biology and Revolution in Twentieth-Century China 72 (Rowman & Littlefield, 2003).

8.Jiang, L. Hist. Stud. Nat. Sci. 46, 154–206 (2016).

9.Cited in Geng, X. in Serving China Through Agricultural Science: American-Trained Chinese Scholars and ‘Scientific Nationalism’ in Decentralized China (1911–1945) 220 (Univ. Minnesota dissertation, 2015).

10.Wu, S. & Fan, F.-t. ‘Modern China’ The Cambridge History of Science Vol. 8 (eds Slotten, H. R., Numbers, R. L. & Livingstone, D. N.) (Cambridge Univ. Press, in the press).

11.Schmalzer, S. in Red Revolution, Green Revolution: Scientific Farming in Socialist China 92–93 (Univ. Chicago Press, 2016).

12.Fan, F.-t. Sci. Context 25, 127–154 (2012).

13.Shapiro, J. Mao’s War Against Nature: Politics and Environment in Revolutionary China (Cambridge Univ. Press, 2001).

14.Wang, Z. Hist. Stud. Phys. Biol. Sci. 30, 249–277 (1999).

المصدر
nature

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى