- أبوطالب بن محمد الشقيفي
- اسم الكتاب: قصة حياة
- اسم المؤلف: إبراهيم عبد القادر المازني
- دار النشر: دار الشروق
- سنة النشر: 2009
- عدد الصفحات: 139
“ويلقاني الشبان، ويسألونني، ويرهفون السمع لما أقول، وفي ظنهم أني أحكم منهم وأعلم، وإني لكذاك، ولكنها حكمة خير منها الطيش، وعلم أفضل منه الجهل!” ص112.
لعل أقصر تعريف للسيرة الذاتية هو الذي قاله توماس كارليل: “حياة إنسان”. وحياة الإنسان ليست هي الأحداث التي عاشها -كما يقول غارسيا ماركيز-، بل هي فقط ما يتذكره منها. وكتاب قصة حياة للأديب إبراهيم المازني سيرة ذاتية يصدق عليها أنها حياة إنسان. وقد اخترت سيرة المازني لأكتب عنها لأنها تصلح أن تكون قصة حياة لكثير من الناس؛ ولهذا السبب نفسه جعل المازني اسمها (قصة حياة) وليس قصة حياتي!
وقد كان من أسباب كتابة المازني لسيرته هذه اعتقادُهُ التامّ أن المرء، إذا لم يُفد الأجيال اللاحقة، فما الفائدة من حياته؟ ويرى أن الضّنّ بالمعرفة لؤم وخسة طباع. إضافة إلى اعتقاده أن الناس أشباهٌ متماثلون وإن تفاوتت بهم الأموال.
ومما يميّز “قصة حياة” أن المازني لم يَحكِ قصة حياته من جانب واحد كما فعل زكي نجيب محمود في “قصة عقل” حين تحدث عن سيرته العقلية، أو في كتابه الآخر “قصة نفس” حين تحدث عن جزئية معينة أيضا، ولا هو فعل كما فعل جبرا إبراهيم في “البئر الأولى” وفي “شارع الأميرات” حين تحدث في كل منهما عن مرحلة معينة من حياته، بل كان المازني يتحدث عن حياته كاملة، بكل أزمانها وأماكنها، بأسلوبه الرشيق ولغته الثرية، وحكى كثيرا من المشاهد في طفولته وشبابه وكهولته بنسب متعادلة في الطول إلى حد كبير.
طفلٌ عاش طفولته كبيرا لا يحق له اللعب بالكرة، وكانت أمه تقول له: عليك أن تثب وثبا من الطفولة إلى الكهولة دفعة واحدة! وكان إذا ضربه غلام يبكي فتقول له أمه: “رجلنا يبكي؟!”
وهكذا عاش إبراهيم المازني حياة الفقر، واضطره هذا الفقر إلى أن يعيش كالكبار منذ الطفولة، فقد عانى كثيرا ولم تبخسه الدنيا معاناة واحدة؛ حيث حدث أن مات أبوه وترك للأسرة مالا كبيرا، ولكن أخاه غير الشقيق بدد هذا المال وأتلفه، فجرّ بذلك المحنة على العائلة كلها. ولم يكن المازني ليخاف من الناس -كما يقول عن نفسه- لو لم يفعل أخوه ما فعل، فقد كان يقول إذا كانت هذه المأساة كلها من صنع أخي فكيف بالغريب؟!
ومع كل هذا كان يرى أن ما جناه أخوه قمن بالغفران، وحقيق بالتجاوز عنه، ويرى أن المسكين ما عدا أن طاش طيشة من الجائز أن يطيشها كل من كان حبلُه على غاربه!
كان المازني في طفولته يرى أباه يدخن، فهمّ مرة من المرات أن يفعل مثله، فأخذ ورقة ولفها على هيئة السيجارة وأشعل النار فيها، ثم اتفق أنه وضعها على الوسادة فسرت النار إلى حشوها فإلى البساط، ثم احترقت الغرفة وانتقلت النار إلى كامل البيت. وبسبب بطء وسائل الاتصال حينها، اندلعت النار في الحارة كلها! يقول المازني معلقا على هذه الحادثة: “يعملها الصغار ويقع فيها الكبار!”.
هذه بعض أبرز أحداث “قصة حياة”، ولكن أبرزها على الإطلاق، في نظري، قصة احتراق “جليلة” ابنة الخادمة، حين أكلتها النار والمازني الطفل ينظر إليها مسحورا، بعد أن أرادت جليلة أن تشعل المدفأة فاتصلت النار بها بسبب الوقود الذي سال على ثيابها وهي لا تدري. وبقيت هذه الحادثة في ذهن المازني لم يبهت أثرها إلى كتابته هذه السيرة بعد أربعين عاما!
وكثيرا ما كان المازني يربط ببراعة شديدة بين أحداث الطفولة وأحداث الشباب والكهولة، ويُرجع تصرفاته في الكهولة إلى أسبابها البعيدة في الطفولة، وهذا ما يجعلك تشعر عند قراءة سيرته أنها كتلة واحدة متماسكة بقوة وذكاء. ولكي أستدل على هذا، أذكر لك أن المازني أرجع سبب خوفه من النار إلى قصة احتراق جليلة، فقد كان يخاف النار بكل أشكالها. بل جعلته هذه الحادثة يصيح بأهل بيته في كل شتاء عندما يريدون إشعال المدفأة: “”لا لا لا”! وحين يلحون عليه ويقولون له إن البرد قارس، يقول لهم متفلسفا: إنكم بله، وإنكم تُضْعِفون أجسامكم بتعويلكم في المقاومة على الثياب والنار، وأن القدرة على المقاومة تزيد إذا خففتم ولم تسرفوا في التوقّي!
ومن أكثر الأحداث ألما في سيرة المازني وفاة زوجته أثناء ولادتها، وهي (عملية قتل) تمت على يد الطبيب كما يصفها المازني، وعلل ذلك بأن الطبيب وقت العملية كانت تفوح منه رائحة الخمر!
أصاب الطبيبُ زوجةَ المازني بنزيف مهول كان السببَ في وفاتها، وتوفيت ويدها في يد زوجها وهي توصيه بولدهما. كاد عقل المازني حينها يطير، وهمّ بأن يشكو الطبيب ولكن، كما يقول، ما الفائدة؟! وكيف أثبتُ تقصيره أو خطأه أو سكره؟! وشق الأمر عليه حتى تغير رأيه في الناس والحياة الدنيا. ولم ينجه من الجنون إلا اشتغاله بابن الرومي وتصحيح الأخطاء في ديوانه!
ذكر المازني قبل ذلك قصصا من مرحلة عمله مدرسا في المدرسة، فيها نظرات في العلم والتعليم، وفيها مقارنات بين التعليم في السابق والتعليم بعد ذلك. ولم ينس المازني ذكر بعض الأحداث السياسية التي مرت بها مصر. ولا يخلو الكتاب من تأريخ غير معتمد للحياة المصرية خلال حياة المؤلف، يستطيع أن يجمع بعض جوانبه من أراد ذلك. وهي-على قلتها- واضحة الصورة لبلاغة المازني وحسن تصويره.
قرأت هذا الكتاب في جلسة واحدة مدتها أربع ساعات لم يقطعني عنها قاطع، وكنت في كل ربع ساعة إما دامع العينين لموقف مؤلم، أو مبتسما أحبس ضحكة مدوية لعبارة طريفة، أو مرتخيَ الملامح أفكر بعمق في مسألة فلسفية عرض لها المازني، أو أخفق إعجابا من مغامراته الغرامية أثناء شبابه، ولا أذكر أبدا أني قضيت دقيقة واحدة متململا من كلامٍ تقليدي أو نصوص خالية من المعاني والصور.
ورأيي في الكتاب -بلا مبالغة- أنه جدير بالاهتمام والترجمة، لأنه قصة حياة الإنسان!