- محمد الشامي
- تدقيق: لبنى السيف
- اسم الكتاب: الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
- اسم المؤلف: محمد عبدالله دراز
- دار النشر: دار ابن النديم للنشر/ مركز تفكُر للبحوث والدراسات
- سنة النشر: 2019
- عددد الصفحات: 231
البحث العام في شأن الأديان يمكن إجماله في مسلكين، الأول ما يُعرف بتاريخ الأديان، أو تواريخ الأديان، هذا المسلك لا يبحث عن المشترك الذي بين الديانات في المقام الأول وإنما يبحث عن المختلف الذي تتباين وتتمايز به ملامحها الأساسية. وهذا الاتجاه في التأليف والبحث قديم، وقد أسهم التراث الإسلامي في تأسيسه كدراسة وصفية موضوعية، فكتب فيه المسعودي (346هـ) وابن حزم (456هـ) والشهرستاني (584هـ) والفخر الرازي (606هـ)، حيث عُرف غالبا بعلم “المِلل والنِحَل” ولا يزال هذا الاتجاه البحثي يتقدم، بل توسعت فيه الدراسات الحديثة بما تيسر لها من إمكانات.
أما المسلك الثاني فهو اتجاه حديث نسبيًا، وهو البحث في ماهية الدين ونشأة العقائد، فهو يؤسس من جهة ما لفهم المشترك بين الأديان بعد أن أدركنا الاختلافات التي كونت هذه الجغرافيا الدينية شديدة التباين، فهو بحث مدفوع بالتطلع إلى أصول ظاهرة التدين، ويتداخل أيضًا مع علم الاجتماع فيما يعرف بسوسيولوجيا الدين. هذا الاتجاه لم يظهر إلا متأخرًا عن الأول؛ فمع أواخر القرن الثامن عشر ازدادت حركة البعوث والرحلات والكشوف والتي غالبًا ما رافقت الحملات الاستعمارية، فوضعت هذه الحقبة الكولونيالية/الاستعمارية “الإنسان” أمام تنوع ضخم لم يعهده من قبل بالنسبة لقضية مثل الدين، وهذا التنوع لا بد أنه قوبل بدهشة، وهذه الدهشة هي أساس أي نظر فلسفي، إذن فقد كانت تلك الشرارة الأولى التي توقد بها “ضرب من الدراسات النظرية والاستنباطات الكلية التي تهدف إلى إشباع نهمة العقل في التطلع إلى أصول الأشياء ومبادئها العامة، حين تتشعب عليه جزئياتها وتفاصيلها” بعبارة المؤلف (ص31).
ولعل هذا يقرب لنا ماذا نعني بتفسير لماهية الدين؟ نتحدث عن أسلوب تفسيري يتجاوز مجال المقدس الخاص ليحلل الظاهرة في عموميتها.
هذا الكتاب كما يدل عنوانه ينتمي إلى الاتجاه الثاني، فيخبر الدكتور دراز بقصته فيقول: أنه عندما عهد إليه تدريس مادة تاريخ الأديان في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) رأى قبل الدخول إلى الدراسات التفصيلية لمختلف الأديان – والمراجع متوفرة عليها – أن يقدم بحوثًا ممهدة يتناول فيها ماهية الدين ونشأته ووظيفته .. إلخ. وقد نشر مجموع هذه البحوث لأول مرة عام 1952م، مما يقول أنه لم يجمعه سفر قبل هذا الكتاب، وإنما عرض له فلاسفة أوروبا وأدباؤها بوجهات نظرهم وتناولوه أشتاتًا في موضوعات متفرقة.
(1) بعد المقدمة التي تناولت بإيجاز قضية الدين وخصائصه حسب العصور التاريخية الكبرى:
خصص الكاتب البحث الأول لمشكلة التعريف، حيث بدأ باستقراء معطيات معاجم اللغة حول كلمة “دين” وما دونه اللغويون من أوجه استعمال المادة، وهو قبل ذلك يذكرنا بضرورة فهم طبيعة المصدر، فالمعاجم “إنما وضعت لضبط الألفاظ لا لتحديد المعاني” غير أن هذا الضبط لم يكن ليتأتى بسهولة، فقد نظم الكاتب عقد هذه المعطيات ليتوصل منها إلى ثلاثة معانٍ رئيسية تظهر بها الدلالة اللغوية. الأول: هو إلزام الانقياد، والثاني: لزوم الانقياد، والثالث: المبدأ الذي يلتزم الانقياد له.
ثم أورد الكاتب مجموعة من التعريفات لفلاسفة وعلماء اجتماع وأنثروبولوجيين غربيين من أبرزهم إمانويل كانط (1804م) وفريدريك شلايرماخر(1834م) وتايلور(1917) وماكس مولر (1900) وإميل دوركايم(1917) وغيرهم. وكانت ملاحظة الكاتب الرئيسة على بعض التعريفات أنها انطلقت من المثال لا من الواقع، جاء البعض منها مثاليًا إلى حد كبير بمعنى كونه معبرًا عن صورة فلسفية راقية لا يكاد يفلت من محترزاته إلا الأديان السماوية، غير أنها تضمنت طرفًا مقابلًا -انتقده الكاتب أيضا- يستبعد حتى مفهوم الألوهية من تعريف الدين، كما أخذ على البعض اختزال مفهوم القداسة الديني إلى صورته السلبية وهي فكرة المحرمات، مذكرًا أن وجود المحرمات لم يرتبط بالقداسة فقط، بل كثيرًا ما ارتبط بمقصد منع الضرر.
والحاصل أن الكاتب اشترط قيدًا واحدًا مركزيًا في التعريف هو مبدأ الألوهية، وبناءً على ذلك يكتب مبينًا:
أ- صفات الشيء الذي يقدسه المتدين، ب- طبيعة هذا التقديس والخضوع.
يقول “هذا التقديس الديني ليس تقديسًا لذات أيًا كانت، وإنما هو تقديس لذات لها صفات خاصة وأهم مميزاتها أنها (حقيقة خارجية ولكنها حقيقة ميتافيزيقية) ليست مما يقع عليه حس المتدين ولا مما يدخل في مشاهداته وإنما هي شيء غيبي لا يدركه إلا بعقله ووجدانه” ، “ثم إن هذا الغيب ليس من جنس هذه الطبيعة المادية المنفعلة وله أسلوب في تصرفاته (إرادة) مباين للطرق التي توثر بها المادة فيما حولها” … “وأخيرًا فإن هذه القوة العاقلة المدبرة في نظر المتدينين ليست قوة منطوية على نفسها منعزلة عنه وعن العالم بل يرى أن لها اتصالًا معنويًا به وبالناس” (ص48) وهذا هو القدر الذي يمكن أن ينهض بتصور لذات يتوجه إليها بـ”التأليه”
ومن حق القارئ أن يسأل: ألم يقع الكاتب في ما رفضه قبل قليل من تقديم تعريف مثالي غير واقعي؟ في رأيي أن الكاتب تنبه لإمكان ورود هذا الاعتراض فرده من أوجه:
ففيما يتعلق بالطبيعة الميتافيزيقة للمعبود احتج بأن: “كلمات الباحثين في نفسيات المتدينين قد تطابقت على أنه ليس هناك دين أيًا كانت منزلته من الضلال والخرافة وقف عند ظاهر الحس واتخذ المادة المشاهدة معبودًا لذاتها… وكل أمرهم هو أنهم يزعمون هذه الأشياء مهبطًا لقوة غيبية أو رمزًا لسر غامض” (ص49). فلا غرابة إذن عندما نرى تأليه الطبيعيات لدى الأمم الغابرة، ذلك أن النظر إليها لم يكن محكومًا بالقانون التجريبي وإنما كان محكومًا بالدهشة المجردة حينا والخوف المجرد حينا، فكانت بذلك رموزًا على عالم غيبي إذ كانت أمامهم في تصرفاتها أقرب إلى عالم الغيب منها إلى عالم الشهادة .
وفيما يتعلق بعنصر الاتصال والتدخل الدائم من القوة الخالقة فلا مجال للاعتراض عليه لأنه هو الفارق الرئيسي في سياقنا هذا بين ما هو ديني وما هو لا ديني؛ فالمذهب الربوبي يقرّ بوجود خالق، ولكنه لا عناية له بالعالم، وليس له به صلة متجددة، إذن فلا يوجد هنا ما يوجب الانقياد له، “أما المتدين فإنه يؤمن بهذه الصلة إلى حد أنه يجعلها جزءًا من كيانه النفسي” (ص51)
وفي رأيي أن كل هذا لم يخرج عن مقتضى البيان اللغوي، فكل هذا بيان لفكرة الانقياد، فالعالم المادي لا يُنسب انقياد له، فقوى الطبيعة وضروراتها عمياء منزوعة الإرادة، يتحكم فيها الإنسان بقدر ما أحكم من فهم قوانينها ومساراتها والتنبؤ بها، ثم هناك ما عبر عنه الكاتب بالمذاهب الروحية وهي كذلك اعتقاد في قوى محكومة بنوع من الاقتران السببي وبتعويذات وطلسمات، فهي كذلك لا ينقاد لها الإنسان على الحقيقة، بخلاف الإيمان فالانقياد فيه لقوة قاهرة متصرفة على غير قانون ملزم، ومن غير إحاطة الإنسان بها.
ونخلص من هذا البحث الأول إلى تعريف الكاتب لماهية الدين: “الاعتقاد بوجود ذات أو ذوات غيبية عُلوية لها شعور واختيار وتصرف وتدبير للشؤون التي تعني الإنسان، اعتقاد من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة وخضوع وتمجيد” هذا من حيث هو حالة نفسية، أما من حيث هو حقيقة خارجية فهو: “جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها”(ص57)
(2) ويأتي البحث الثاني في علاقات الدين بعدة مجالات مركزية: الأخلاق، والفلسفة، والعلوم، ولا يخرج هذا البحث عن أن يكون مكملًا للبحث الأول في تحقيق الغرض منه، فإن كان الحاصل من الأول هو التعريف المباشر، فالتعريف هنا حاصل ببيان علاقات قضيتنا هذه بغيرها من القضايا التي تقابلها من جهة وتوافقها من أخرى.
أولاً: الدين والأخلاق: يقرر المؤلف أن اتصال الدين بالأخلاق متوقف على قوة الدين واكتماله، ويتضمن ذلك مرونة النظم الفكرية والتشريعية التي تستمد من الدين وقدرتها على مواكبة الأسئلة الأخلاقية المستجدة، فحينئذ لا يكتفي الدين بتحقيق معرفة الخالق، بل يتعدى إلى الجمع بين الفضيلتين النظرية والعملية، يقول : “لما كانت الفكرة الدينية الناضجة هي التي لا تجعل من الألوهية مبدأ تدبير فعال فحسب، بل مصدر حكم وتشريع في الوقت نفسه كان القانون الديني الكامل هو الذي لا يقف عند وصف الحقائق العليا النظرية وإغراء النفس بحبها وتقديسها، بل يمتد إلى وجوه النشاط المختلفة في الحياة العملية… وهكذا يصل القانون الديني إلى بسط جناحيه على علم الأخلاق كله “(ص63)
هذا في السياق العام، أما في السياق الفردي فالإدراك الأخلاقي الفطري يكون سابقًا على الإدراك الديني كما في حالة النشأة بالنسبة للطفل، ومن يقرر وجود هذه الملكة الأخلاقية سيخلص إلى أن مصدر القوة لمنظومة الأخلاق الدينية أنها ترجع إلى ذلك الضمير الأخلاقي الفطري لدى الإنسان قبل تأثره بالتحيزات والعوامل الخارجية، كموافقة طبيعية بين الخلق الإلهي والأمر الإلهي.
وعلى كل فما أحسن تشبيه الكاتب حين قال: “شجرتان متجاورتان تمتد فروعهما، وتتعانق أغصانهما حتى تظلل إحداهما الأخرى“(ص64) وربما لا تتعانق الأغصان، فهناك دائما فجوة بين الواقع والمثال تظهر بسبب صور من الانحراف في النُظم الأخلاقية أو في التأويل الديني.
ثانيًا: الدين والفلسفة: الاشتراك في الموضوع لا يعني الاشتراك في النتائج، على هذا النحو عبر الدكتور دراز عن هذه العلاقة المتقلبة، فنظرة موجزة في قضايا واشتغالات الفلسفة العامة يتضح من خلالها أنها كما يقول الكاتب أقرب ضروب المعرفة الإنسانية إلى الدين، ولكننا رغم ذلك نجد اختلافًا كبيرًا في النتائج وفي المسار لكل منهما، السبب الرئيس هو اختلاف المرجعية، فتصورات الفلسفة هي نتاج فكر إنساني، بينما التصورات الدينية هي نتاج مرجعية الوحي، ذلك على افتراض الأصل وهو صحة الاتصال بهذه المرجعية.
غير أن الفلسفة لا تتضمن عنصر الإلزام العملي الذي في الدين، وهذا ما يركز عليه الكاتب فيقول هذا فرق دقيق، فلا أحد يعتنق مذهبًا فلسفيًا على نحو اعتناقه للدين، ولا الفيلسوف أولويته أخذ الناس بمقتضي أفكاره في الإطار العملي، فالفلسفة صناعة عقلية لا يهمها موقفنا تجاه الحق أو الخير بعد أن عرفتهما لنا، أو “حاولت ذلك” والفكر الإنساني مهما ظهر استناده إلى الطرق البرهانية في مناقشة القضايا، لا يعلو إلى المستوى اليقيني في خطاب الوحي.
فالممارسة الفلسفية بوصفها ممارسة عقلية أمكن أن تكون تابعة للدين، وأما الدين بوصفه الجامع (للعقلي والروحي) لم يكن يوما من مقدور الفلسفة أن تنتجه، والحالات التي ادُّعي أنها كذلك زائفة لا تتصل بروح الإدراك الحقيقي لجوهر الدين، وقد نتسائل: في الحالة الأولى، وهي تبعية الفلسفة للدين هل تكون تبعية حقيقية؟ أم أن النصوص الدينية تكون مجرد غطاء للفلسفة؟ على أن الواقع لا ينتصر لأحد المسارين على طول الطريق.
ولنعد فنختم هذا المطلب بنص للمؤلف:
“الفلسفة لا تعيش إلا في جو الحرية، والدين لا يقوم إلا على السلطان والنفوذ، هذا قول سديد في الجملة لا على الإطلاق … ذلك أنه إذا كان المقصود قيام الدين دائمًا على سلطان الدولة ونفوذها فهي دعوى باطلة إذ أننا نعرف ديانات كثيرة عاشت ونمت في ظل الرفق والتسامح، بعيدًا عن كل حكم وسيطرة، والبوذية أوضح مثال على ذلك، بل المسيحية والإسلام، في أول عهدهما على الأقل… وإن كان المقصود اعتماد الدين على السطان الأدبي للمجتمع بمعنى أن الحياة الاجتماعية من شأنها أن تطبع الأفراد بطابع واحد، وأن تجعل منهم وحدة متجانسة التفكير، متشاكلة العوائد والعقائد، بحيث يعد الشاذ عنها مذمومًا منبوذًا: فهذا إن صح إلى حد ما في الجماعات البدائية لا يسري حكمه على سائر المجتمعات، فنحن نرى الأمم والشعوب في كل عصر تضم تحت أجنحتها العقائد المختلفة… أما إن كان المقصود سلطان العقيدة على نفوس معتقديها أنفسهم، فلا ريب أن هذه ميزة تستأثر بها الديانات؛ وليس للفلسفة أن تطمح إلى نيلها وإلا لجاوزت طورها وتناقضت في نفسها لأن حقيقة الفلسفة هي (محبة الحكمة) ووظيفتها البحث عن الحقيقة بقدر الطاقة البشرية … والفيلسوف أول من يعرف قصور العقل البشري”(ص76-77).
ولهذه الفكرة الأخيرة بالتحديد نجد مساحة ما يقرره النص لا تضيق على مساحة الاستنباط، وإلا لانغلق الباب أمام الفكر، ولتوقف النمو العقلي للأمة المتدينة.
فخلاصة القضية أن الدين يستهدف مفهوم الإيمان الذي لا يتساوى والمعرفة العقلية المحضة التي تستهدفها الفلسفة، على أنه لا يؤسس لقطيعة تجاهها، بل العكس تمامًا، فلا يُلتفت إلى الزعم القائل بأن الدين يخاطب القلوب غير مبال بمبادئ المعقولات، وهنا نجد الكاتب يتهكم بالمقولة الشهرة للقديس أوجستين: “أؤمن بهذا لأنه محال” بما معناه أنها لا تلزم أحدًا غير قائلها.
ثالثا: الدين والعلوم : علاقة العلوم الطبيعية/التجريبية بالدين ليست بالقوة التي عليها علاقة الفلسفة به، فليس فيها من وحدة الموضوع ما في سابقتها، بيد أنها مكملة لوظيفة الدين ويجب بينهما التكامل الذي به تتحقق النهضة العلمية والاجتماعية الحقيقية، الأمر بهذا الوضوح؛ وقد جعل الكاتب العداء المشاهد بين هاتين الحقيقتين الحقيقة العلمية والحقيقة الدينية في صورتين:
الأولى : التعارض الكلي، حيث لا يعتبر أحد الطرفين بالآخر لمجرد أنه لا يستمد من نفس مصادره أو يعالج الأمور بشكل مختلف، فهذا تعارض لا يقيمه إلا الجهلاء وأنصاف المتعلمين، ولا وجود له خارج عقول هؤلاء.
الثانية: التعارض في الأحكام، وهو أن تتعارض مقررات الدين ومعطيات العلم “عندما تتناول الأديان إلى جانب عنصرها الديني شيئا من موضوعات العلوم” وهذا يحصل، وتحليله معيار لمقدار ما في كل دين من صحة أو فساد على حد قول الكاتب، وبالطبع، فلإثبات التعارض شروط، فلا ننسى الطبيعة التحديثية المتغيرة لمعطيات العلم التجريبي، ولا ننسى موقع النص الديني من حيث الثبوت ثم من حيث احتمال أوجه التأويل إلى غير ذلك مما يقع بحثه قبل التسرع إلى الحكم بالتعارض.
(3) ويأتي البحث الثالث في “نزعة التدين ومدى أصالتها في الفطَر“ حيث يبدأ بتفنيد النظريات القائلة بعَرَضية الأديان والقوانين وعدم أصالتها في المجتمع الإنساني؛ لينتقل من هذه القضية إلى سؤال مصير الديانات في المستقبل، فهو في دفاعه عن أصالة نزعة التدين يبسط جناحيه على الماضي والمستقبل فيؤكد أن الزمن في صيرورته لا يغير شيئًا من ثبات هذه النزعة؛ وأضيفُ أن اهتزاز نموذج معرفي ما وعدم صموده أمام التحديات الفكرية المتجددة التي يفرضها الزمن، ثم كون هذا النموذج ينتسب لعقيدة دينية، أو تمثله مؤسسة دينية، ولو لزمن طويل: هو أمر لا ريب يشكل صدمة ثقافية كبرى، ولكن لا يعني هذا أن فشل هذا النموذج في البقاء هو تقويض لفكرة التدين، فلا يوجد ما يمنح هذا النموذج الحق لاحتكار هذه النزعة، إلا إذا كنت أعتقد أن هذا النموذج هو أعلى ما يمكن أن يصل إليه نتاج الأديان، وهذا اعتقاد ناشئ من التمركز حول الذات وازدراء ما عند الآخرين! أقول هذا وقد عالج الكاتب نظرية أوجست كونت التي تجعل العقل الإنساني ثلاثة أطوار: عقلية دينية ، ثم تجريدية، ثم واقعية: لا تبحث في الأسباب والغايات والعلل الميتافيزيقية، ولا شك أن العقل الإنساني هنا هو العقل الغربي وما سواه مجرد مجتمعات خارج الزمن، ولا تستحق وصف المعاصَرة إلا بقدر شبهها بهذا النموذج الغربي، المهم أن الدكتور دراز يقرر في شأن هذه الحالات الثلاثة عند (كونت) أنها تصور “نزعات وتيارات متعاصرة في كل الشعوب وليست كلها دائمًا على درجة واحدة من الازدهار والخمول في شعب ما”(ص93) ولك أن تقارن بين ما يقتضيه هذا الوصف، وما تقتضيه فكرة الأدوار التاريخية التي تختزل تاريخ الفكر كله في مسار واحد.
ولا يتوقف الكاتب عند هذا بل ينظر للقضية من جهة أخرى فيقول: “بل إن هذه النزعات الثلاث متعاصرة متجاورة في نفس كل فرد، وإن لها وظائف يكمل بعضها بعضًا في إقامة الحياة الإنسانية على وجهها “(ص93) وهذا نظر فريد، لا ينازع فيه حتى أولئك الذين لا يعتدون بالحقيقة الدينية المصدر ويعتبرونها وهمًا، فهذا الوهم عندهم أكثر جدوى من حقائق كثيرة ضارة، والواقع يقول أن التخلي عنه تماما غير متقبل حتى لو لم يعد يشكل بالنسبة إليهم مرجعية معرفية، وها هو جوستاف لوبون حيث يقدم فلسفة التاريخ بنظرة علموية صارمة ينصحنا بأن “علينا ألا ننسى دور الأوهام البالغ في تقدم الأمم” وأنه أمدها بالأمل والمواساة كما أمدها بالقوة البالغة.
وبالعودة إلى مسار البحث نجد الكاتب يوجه نقدًا حاصله عدم كفاية الأجوبة التي يقدمها المنهج الطبيعي/التجريبي، مؤسسًا بذلك لفهم الحاجة المتجددة للأجوبة الدينية التي تغطي مجالًا ليس من طبيعة المنهج التجريبي الفصل فيه، وأن هذا المجال لا يزال نزوع الإنسان إلى إيجاد الأجوبة فيه قائمًا على خلاف ما يتم ادعاؤه:
” على أن العلوم في هذا الاتجاه الذي وصفناه إنما تعمد إلى أحد طرفي المحور مستدبرة طرفه الآخر، وإنما تحاول إرضاء نصف حاجة العقل مهملة نصفها الثاني، ذلك أن النفس الإنسانية ليس يشفيها في تفهمها للأشياء أن تصعد إلى أسبابها ومقدماتها، بل لابد لها … تستفسر عن مقاصدها وأهدافها… ولا أن تعرف كيف كان؟ دون أن تعرف لمَ كان؟ “
ثم يشير الكاتب إلى أن الشوق والتشوف الإنساني إلى أشياء من جنس الأزلي، والأبدي، واللانهائي، والكلي ونحو ذلك: له دلالتين، الأولى دلالته على مطلوبه، -دلالة الخاتم على طابعه بعبارة ديكارت- والثانية دلالته على العنصر المتجاوز للمادة في الإنسان، حتى وإن تنكر الإنسان لهذا العنصر وغفل عنه في الظاهر.
(4) وأما البحث الرابع: فقد خصص لموضوع نشأة العقائد الدينية، وهو بمثابة مقارنة مختصرة لأبرز المذاهب في تفسير هذه النشأة، ويعود بنا هذا البحث للباعث الحقيقي الذي أتى بهذا الكتاب، فالمسألة لم تكن مجرد جمع وتصنيف لما رأى المؤلف عدم العناية بهذا الموضوع، والحاجة إليه في المكتبة العربية، وإنما الحقيقة أنه امتلك حسًا نقديًا أمام هذا الشتات من الأفكار فكان من الواجب أن يقدم رؤيته المستقلة.
وهو قبل هذه المقارنة يتكلم عن العوامل التي شأنها إيقاظ الفكرة الدينية في النفوس، فيردها إلى عنصرين: السببية، والغائية، فقانون السببية يقضي بأنه لا شيء من الممكنات يحدث بنفسه دون سبب، ولا يستقل بإحداث غيره من العدم حيث أن “فاقد الشيء لا يعطيه” كما يقال، فلا مفر من انتهاء الموجودات إلى سببب ضروري للوجود يكون سببًا للأسباب “واجب الوجود” فمؤدى هذا القانون كما يتضح هو عقيدة الألوهية أو التوحيد.
وأما قانون الغائية فيقضي بأنه لا يستقيم أن يوجد نظام مركب محكم عبثًا بغير قصد، حيث أن حدوثه من غير قصد مستحيل أصلًا، وكل قصد يهدف إلى غاية، وهذه الغاية إذا لم تحقق المطلب الكامل الذي لا مطمع وراءه فالنفس تتشوّف من ورائها إلى غاية أخرى حتى تنتهي إلى غاية كلية كبرى، فمؤدى هذا النظر هو عقيدة البعث والخلود كما ترى، وبالطبع فدلالة هذين القانونين إنما تعرض لهما الكاتب بقدر المطلوب بغض النظر عما يمكن أن يأتي عليهما من إشكالات وما ترد به هذه الإشكالات، ويكفينا من القضية أصولها لتتضح الرؤية .
غير أنه ينبهنا إلى أن كلمة نشأة الدين في معظم الدراسات التي تناولَتها لا تعني بحث الأسباب التي من شأنها إيقاظ الفكرة الدينية على هذا النحو، وإنما كانت بمعنى آخر وهو بحث الصور الأولى لظهور الدين بالتزامن مع ظهور الإنسان نفسه؛ ولا شك هذا كان مدفوعًا بنزعة تطورية عامة في فهم الأشياء، وبالتالي فالمنهج المتبع سيكون دراسة للدين في آثار الأمم البائدة، أو في المجتمعات المعاصرة غير المتحضرة.
وكانت النتائج جد متناقضة، فنجد أنصار “التطور التقدمي” يقررون أن الأديان ابتدأت من الوثنية ثم ارتقت بالتدريج عبر الأزمنة لتصل إلى عقيدة التوحيد، وحاول تطبيقها على تاريخ الأديان: سبنسر، وتايلور، ودوركايم.. وغيرهم، على اختلاف مسالكهم، في المقابل يرى آخرون فطرية التوحيد وأصالته، وأن الوثنيات مجرد أعراض طارئة على الأصل، وأمراض أصابت التصور الديني.
والكاتب ينتقد كلا الاتجاهين في أسلوب البحث نفسه؛ فنحن لا نمتلك أي ضمان بأن هذه المجتمعات تستطيع أن تقدم لنا فهمًا مطابقًا لما كانت عليه ديانة الإنسان الأول، ولا شك أن البحوث الأنثروبولوجية قد تحدت الكثير من أحكامنا المسبقة حول هذه المجتمعات من الأساس، بل حول فكرة “بدائيتها ” وما كان مسلّمًا من قبل في هذا السياق صار الآن محل نظر، وعلى كل، حتى بالعودة للمجال التاريخي نجد أن التاريخ الإنساني لا يسير في خط مستقيم بأي مقياس، بل يمر بفترات صعود وهبوط متتابعة، فعلى أي أساس نفترض خلاف ذلك في قضية الدين؟ وقد أورد الدكتور دراز نصا لـ(هوفدنج) في كتابه عن فلسفة الدين حيث يورد هذه الفكرة النقدية قائلًا: ” إنه يبعد كل البعد أن ينجح تاريخ الأديان في حل مشكلة بزوغ الدين في النوع الإنساني… فإن التاريخ لا يصور لنا هذه البداية الأولى في موضع ما، وكل ما نجده هو سلسلة من صور مختلفة لديانات متقدمة قليلًا أو كثيرًا”
أما من حيث النتيجة فينتصر المؤلف لأولية العقيدة التوحيدية وأن المسار ابتدأ من الوحدة إلى الكثرة، وهو في ذلك ينطلق من نصوص الكتب السماوية نفسها فيجعل المسألة خارجة عن مقدور الآلة الاستقرائية بناءً على ما سبق، وجاعلًا إياها تابعة لقضايا التصديق الإيماني.
ومن بين الاتجاهات التي عرضها المؤلف :
المذهب الطبيعي في نشأة الأديان: وفيه رأيان، كلاهما يقترح أن النظر في مشاهد ومظاهر الطبيعة هو المنشأ والعامل الرئيس في ظهور الدين؛ ويفترقان في أن الأول يعتبر هذا العامل هو ” الطبيعة العادية ” فالطبيعة أشبه شيء بالمعجزة إذا تأملناها، والنظام الطبيعي يمكنه أن يولد لدى الإنسان دهشة تفوق تلك التي تتولد عن المعجزات الخارقة لهذا النظام، أما الاتجاه الثاني فليس بهذا القدر من الإيجابية، حيث يرى أن القوى الطبيعية كانت سببًا للتدين لا باعتبار أنها أثارت الإعجاب، وإنما باعتبار أنها أثارت الخوف، فالعامل الحقيقي هنا ليس الظواهر العادية، وإنما الظواهر التي نسميها الكوارث الطبيعية، أو ما في دلالتها كالخسوف مثلًا.
معلوم أن التاريخ القديم عرفت فيه أسماء الآلهة كقوى طبيعية، إذا أردنا تحليلًا للأمر بالنظر في اللغة فسنجد أننا ننسب الأفعال إلى الظواهر مباشرةً، فالنهر يجري، والسماء تمطر، والشمس تطلع، لا شك أن هذه مجموعة من المجازات، ولكن هل فهم الإنسان الأول الأمر على هذا النحو؟ يقول ماكس ميلر بأن هذه التعبيرات المجازية قد أُخذت على حقيقتها، أي: على أساس كون هذه الظواهر الطبيعية كائنات حية مفكرة ذات إرادة ما، والنتيجة واضحة.
غير أن ماكس ميلر هنا يستخف بالفكرة الدينية ليساويها بالأسطورة الشعبية، عندما يعترف هو نفسه بأن العقلية التي تجعل العنصر الطبيعي حيوانًا مفكرًا عقلية مريضة، وهنا بالتحديد يخطو الكاتب خطوة إلى الأمام قائلًا: “ونزيد نحن أنها في الوقت نفسه ليست عقلية دينية كما يعلم مما أسلفناه في تحديد معنى الدين وأنه اعتقاد في روح مستقلة تسيطر على الطبيعة لا في نفس محصورة في الطبيعة مسايرة لها، فالصواب في تفسير هذه النقلة الفكرية، من المادة إلى الروح أنه انتقال من الكائن إلى المكون وهو انتقال معنوي طبيعي من غير حاجة إلى توسط اللغات؛ فكما أن الناظر في جمال أثر فني لا يمنع نفسه من التفكير في ذوق الفنان، والناظر في دقة الآلة المركبة ينتقل فكره توًا إلى مهارة المهندس، كذلك التأمل في عظمة البدائع الكونية… “(ص123) يستمر الكاتب مع هذا النموذج المعدل من المذهب الطبيعي ليفسر بقية أجزاء الدين بحسب المفهوم الذي استقر عليه مسبقًا؛ ولكن كيف نتفق مع هذا التفسير رغم ما سبق من أن الديانات القديمة مثلت القوى فيها الآلهة وهو مقرر في التاريخ؟ يجيب الكاتب بأن هذه الماديات والحسيات علوية كانت أو سفلية لم تكن يومًا هي المقصودة بالعبادة الحقيقية؛ وإنما كان تقديسها بطريق التبعية، فلا تخلو أن تعد مهبطًا لقوى غيبية أو رمزًا لها أو تصويرًا لأفعالها؛ ويضرب الكاتب لذلك مثالًا وهو وقوف العاشق بالأطلال ورسوم ديار الأحبة، والشاعر يقول: “وما حب الديار شغفن قلبي، ولكن حب من سكن الديار” ولا شك في أن هذا المعنى كثيرًا ما غاب عن الأذهان، ووُضع الرمز موضع المقصود بالرمز؛ بيد أن هذا الانحراف ليس هو محل البحث الآن، والكاتب قد رد على اعتراضات أخرى أيضًا ليضع بين أيدينا الصورة القويمة لفهم المذهب الطبيعي في السياق الأعم الذي يتضح شيئًا فشيئًا.
المذاهب النفسية: ومن أهمها نظرية (هنري برجسون) حيث ذهب إلى أن العوامل التي ترجع إليها نشأة الدين عوامل نفسية محضة تعدد صورها/مستوياتها؛ فعلى مستوى المجتمع لابد من قوة وازعة لتجعل الفرد قادرًا على أن يضع نفسه في نظام المصلحة العامة، ويقدم التضحيات في هذا السبيل “إذ كانت الغريزة الاجتماعية عنده أضعف من أن تحمله على نسيان نفسه في خدمة المجموع” فهذه القوة الحافظة للتوازن صارت هي الدين؛ حيث يفهم الإله بمعنى أنه حارس معنوي، آمر وناهٍ، بغرض الزجر عن المحظورات الاجتماعية؛ فالدين في جملته ما هو إلا وهم تطلبه وتفرضه الضرورة الاجتماعية للبشر، والرابط هنا هو العامل النفسي القادر على تخليق هذا الوهم فالعيش بمقتضاه؛ هذا ما يقدمه تفسير برجسون في قسمه الأول.
وأما القسم الثاني فيتعلق بالحياة الفردية، فالإنسان يواجه فراغًا نفسيًا عميقًا عندما يقارن بين ما يبذله من جهد وطلب، وبين مقابل مجهول، يؤول تارة بالنفع وتارة بالضرر، فتأتي الفكرة الدينية لتثمّن هذا السعي والطلب، وترجح جانب العمل لدى الإنسان، إذ تجعل في اعتقاده ما يعتمد عليه ويثق به أبدًا.
يقول المؤلف: “الذي نلاحظه على هذه النظرية هو أنها جعلت فكرة الألوهية في مظهريها عند العامة فكرة رمزية لا تعدو أن تكون ضربًا من ذلك الأسلوب القصصي الذي يخوف به الأطفال أو يداعبون به، وهذا وصف لا يستساغ في القسم الأول منها إلا لو صح أن كل ما يجري في المجتمع من سنن وعوائد، سواء ما كان منها ذا طابع ديني أو اقتصادي أو غيرهما كان في جملته مبعثًا لعقيدة إلهية في عقول العامة، فهنالك فقط يسوغ القول أن فكرة الإله عندهم لا تدل على حقيقتها، وإنها محض رمز لما في نفوسهم من سلطان رهيب للمجتمع؛ ولا شك أن الذي يعيش أسيرًا لعوائد قومه ولو تحكمية، ولتصرفاتهم ولو همجية، ولقوانينهم ولو جائرة، لو بلغ به استسلامه إلى حد الظن بأن تلك القوانين البشرية أوضاع إلهية يقوم على حمايتها جنود من السماء حين تغيب عنها جنود الدولة لكان أقل ما يقال فيه إنه سخيف واهم… أما إذا أخذنا قانون الأخلاق في جوهره الصحيح، واعتبرنا ما له من سلطان مركوز في طباع الناس على اختلافهم موحيًا للعقيدة الإلهية ودليلًا على صنعة الفاطر الأول… فتلك فكرة سليمة ومنطق مستقيم، وسنرى الفيلسوف إيمانويل كانط يجعل قانون الأخلاق هو المقدمة الأولى في الاستدلال على وجود الله “(ص148-149) .
ومن بين النظريات التي تناولها الكاتب في هذا السياق نظرية ديكارت، وجدير بالذكر أن ديكارت نفسه لم يقدم هذه النظرية بقصد تفسير نشأة العقيدة الدينية، وإنما كانت نوعًا من الحجج في قضية إثبات وجود الله، فيقرر ديكارت في كتابه التأملات الميتافيزيقية: أن عقيدة وجود الله تعتمد على تجربة نفسية؛ تتمثل في تشوف النفس الإنسانية إلى الكمال، إذن فهي إذ تستشعر النقص والجهل تتصور بالضرورة في المقابل نموذجا للكمال هو الذي تستمد من تصوره رغبتها في التحقق بمختلف الكمالات أو السعي نحوها -بعبارة أدق-. ” كيف أعرف أنني ناقص لو لم تكن عندي فكرة كائن أكمل مني أجعله مقياسًا أعرف به مواضع نقصي ؟ ” وممن اعترضوا على هذه الحجة إيمانويل كانط حيث يرد بأنه لا تلازم بين تصوراتنا الذهنية وإن كانت صحيحة عقليًا، وبين تحقق هذه التصورات في الخارج ووجودها الحقيقي، وعلى صحة هذا التقرير فهو إنما يتوجه إلى الممكنات ولا يتوجه إلى “الماهيات الواجبة الوجود التي يعد إبطالها إبطال لكل معلوم”(ص152) .
المذهب الاجتماعي : ويمثله العلامة ( إميل دوركايم ) فيخالف المذاهب السابقة وينطلق في تفسيره للتدين من الإطار الاجتماعي، أي من مجال تخصصه؛ وأساس منهجه هو أنه يدعي دراسة الظاهرة الدينية في أقدم عصورها، والكاتب يتوجه تمامًا إلى هذا الأساس ليسائله، وينقد فاعليته في هذا السياق، منتهيًا إلى أن: ” اتخاذ نتيجة البحث قاعدة عامة تعرف منها حقيقة الدين من حيث هو، يعد عملًا مجافيًا لقانون المنطق السليم. أفيحق لنا أن نحدد حقيقة الإنسان من النظر في أول أطوار الجنين…؟ إن تحديد الدين بذلك المعنى الغامض الذي يتلجلج في صدر الإنسان في طور طفولته وهو بعد لا يستبين حقيقة شعوره… فسادٌ في المنهج لا يقل عن تعريف الإنسان بالجنين “(ص161) ثم ينقل عبارة هوفدنج إذ يقول بأن الطبيعة الحقيقية لكائن ما إنما تتكون من قانون تطوره منذ نشأته الأولى إلى صورته النهائية . ما يهمنا هنا هو موضع التفسير السوسيولوجي من الصورة الكاملة التي نسعى نحوها، والمؤلف إذ يستحضر ذلك يسجل “اعترافًا قيمًا لأحد أعضاء المدرسة الاجتماعية نفسها حيث يقول… ما نصه : “إنه لا يكفي أن يقال إن الظواهر الدينية تحدث في جماعة وتختلف باختلاف الجماعات لإثبات أنها ظواهر اجتماعية حقيقية… فالظواهر الاجتماعية الحقيقة ذات وجود خارجي مستقل عن أفراد الجماعة؛ ونشاط الأفراد فيها إنما يحدده أو يعدله مجرد تجاورهم وتعاونهم، من غير أن يكون لهم شعور بها.. فهل الظواهر الدينية ظواهر اجتماعية بهذا المعنى؟ لا شك أن جانبًا كبيرًا منها يبدو لنا كذلك وهو جانب الأنظمة والشعائر العملية… ولكن هل هذه الحالات الجماعية التلقائية هي الحالات الجوهرية في الدين؟” ص(165-166).
المذهب التعليمي: بينما تشترك جميع المذاهب السابقة في أن الإنسان كان هو نقطة بداية البحث لديها، على الطرف الآخر ينظر هذا المذهب إلى الأديان من جهة أنها التي نزلت وسارت إلى الإنسان، وكانت هذه هي النظرية السائدة طوال العصر الوسيط في الفكر الأوروبي واستمر وجودها إلى القرن التاسع عشر، ولا تزال هي معتمد علماء الثيولوجيا/الإلهيات، كما تقرر الكتب السماوية الجانب الإيجابي منها.
وقد عرض المؤلف لمذاهب أخرى في نشأة الأديان كتفسير كانط الأخلاقي، وكذلك ما يعرف بالمذاهب الروحية.
وخاتمة هذا البحث، نظرة جامعة يتناول فيها المؤلف الجوانب الإيجابية (بمعنى جانب الإثبات في كل واحدة، بحيث لا يكون القول بها تصورًا أحاديًا للقضية يحمل على إنكار كافة المسالك المغايرة) في النظريات السابقة -مع استبعاد البعض بطبيعة الحال- فيرجع بهذه الأصول إلى النصوص القرآنية التي تؤسس للفهم المتكامل لآيات الألوهية وبواعث التدين، فالناس مداخلهم ومداركهم للإيمان وللتصديق بالحقائق مختلفة متنوعة، ثم المدخل الفردي غير المدخل الاجتماعي، والمدخل الطبيعي غير المدخل النفسي وهكذا.. وبناءً على هذا الاختلاف في المدارك وتفاوت الناس في التحقق بمعنى دون آخر من المعاني المؤدية إلى حقيقة الألوهية (جوهر قضية التدين) كانت آيات هذه الحقيقة متنوعة بتنوع المدارك.
وقد تكررت في الكتاب العزيز ثنائية النفس والآفاق أو النفس والعالم الأرضي عندما يرد ذكر الآيات والأدلة “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ” ( فصلت 53 ) “وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ ” ( الذاريات 20-21 ).
فعلى سبيل المثال نجد أن القرآن يرشد للمنهج الطبيعي بمعنى النظر في آيات القدرة الإلهية المبثوثة في الآفاق وفي العالم الأرضي، ونجد الخطاب القرآني يتناول هذا المنهج بشقيه، فمن هذه الآيات ما يبعث الرغبة ومنها ما يبعث الرهبة، وكذلك نجد في بعض الآيات منهجًا نفسيًا يؤكد على عجز وقصور الطاقة البشرية كونها باعثًا على الإيمان ومؤكدًا الحاجة إليه، بينما نجد الأثر الاجتماعي في شأن الظاهرة الدينية موجودًا في القرآن، لكنه في موقع الرفض ومعرض الذم، فالقرآن ينعي على العامة التمسك والتقليد الأعمى لتراث الآباء دون إعمال عقل أو توجيه فكر، وأنه قد أرشدهم إلى التفكير الفردي المتأني المتحرر من كل ما عدا قيود البداهة والمنطق، أي إلى عملية التفكر.
وأيضا نجد المذهب التعليمي “ساريًا في القرآن كله… فالقرآن يقرر أن الرحمة الإلهية لم تكتف بدلائل العقل حتى أيدتها شواهد النقل؛ وأنها قطعت حجة كل غافل … هكذا يلتقي في محيط القرآن ما رأيناه قد تشعب عند العلماء من مسالك الاعتبار ومذاهب البحث والنظر”(ص176).