- جون مورغان
- ترجمة: عبد الرحمن فتحي
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: البراء بن محمد
تزايدت في الآونة الأخيرة ادعاءات الإعلام اليميني أن الأكاديميين يقومون بغرس أفكارهم ودعاياهم الليبرالية في أذهان طلابهم. يبحث جون مورغان سبب ظهور هذا الاتهام، وما إذا كان له أي سند من الصحة.
لقد غدا حساب تويتر @TEN_GOP “صوتا له وزنه في اليمين المتطرف الأمريكي”، حيث تمكن من حصد ما يزيد عن 130 ألف متابع مستفيدا من دعمه المحموم لدونالد ترامب وعن طريق هجماته المتتالية على الأهداف الليبرالية، فقد قام نجل ترامب وآن كولتر بإعادة نشر تغريداته(ريتويت)، بينما قامت وسائل الإعلام بما فيها واشنطن بوست وهوفينجتون بوست بتضمين تغريداتهم في الأخبار باعتبارها ممثلة للرأي العام.
وكان أحد مردودات الحساب -والذي أشار إلى تعامله مع الحزب الجمهوري في ولاية تينيسي- يتضمن تغريدات حول حرية التعبير والنزاعات حول “التحيز الليبرالي” في الكليات والجامعات الأميركية.
تضمنت التغريدات هذه الرسائل:
-“انشروا هذا كالنار في الهشيم! ، كلية رولينز تطرد طالبا بسبب مهاجمته لأستاذ مسلم متطرف!” -“يقول أستاذ في جامعة دريكسيل في عيد الكريسماس، ما أريد أكثر من إبادة جماعية للبيض، أين الغضب الليبرالي إزاء عنصريتي هذه؟”حرية التعبير ميتة في #بيركيلي” ؛ “جاءتني فكرة: لم لا نأخذ تمويل مدينة بيركلي (الفيدرالي) الذي بلغ 350 مليون دولار، ونستخدمه في بناء الجدار الحدودي (أي تكريس هذا الجزء لبيركلي)”؛ “للتحقيقات حول التحيز الليبرالي في الجامعات، نوصي بمتابعة مراسل بريتبارت @RealKyleMorris”“. اهـ بتصرف
ولكن من اعتقد أن حساب @TEN_GOP مقره ولاية تينيسي كان على بعد أميال من التوقع الصحيح، بل على بعد خمسة آلاف ميل في الواقع. ففي العام الماضي، أوضحت قائمة الاتهامات التي رفعها المستشار الخاص روبرت مولر ضد 13 فرداً روسياً وثلاث شركات روسية أنها كانت في الحقيقة بمثابة الذراع الأيمن لوكالة أبحاث على الانترنت مقرها روسيا-سانت بطرسبرغ، وهي مزرعة الأقزام[1] التي عملت على “التدخل في العمليات السياسية والانتخابات الأميركية”.
ولم يكن هدف الوكالة مجرد الاضطلاع بدورها في الجهود الروسية الرامية إلى تعزيز فرص ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، والذي يتركز عليه تحقيق مولر في مكتب التحقيقات الفيدرالي. فقد سعت كذلك بشكل عام إلى تعميق الجروح السياسية النازفة في جسد أمريكا، وذلك من خلال رسائل من حسابات إعلامية اجتماعية انتقادية زائفة، تروج لمنظوري اليمين واليسار على حد السواء. ووفقاً لمنهجهم العام –وهو نشر تغريدات حول مواضيع مثيرة للجل بدءًا من الإجهاض مرورا بلاعبي الاتحاد الوطني لكرة القدم المحتجين على العنصرية..إلى آخره ـ فإن الصيادين الالكترونيين الروس[2] “يستخدمون الأساتذة الجامعيين وقودًا لإشعال مزيد من الفتنة والتباعد بين اليسار واليمين” على حد تعبير دارين لينفيل، الأستاذ المساعد في قسم الاتصالات بجامعة كليمسون، والذي أعد أرشيفاً قابلاً للبحث بلغت فيه التغريدات المتعلقة بحسابات وكالة الأبحاث الاحتيالية 3 مليون تغريدة!
يوحي لنا سعي الصيادين الروس إلى نشر النزاعات حول “التحيز الليبرالي” -تحديدا في الكليات والجامعات تحديدا- أنهم أداروا المعركة بجدية وحقد كافيين لتمكينهم من استغلاله بالطريقة المثلى في زعزعة الحياة الأمريكية.
لا تتجلى مزاعم معسكر اليمين والشخصيات الإعلامية (أن الجامعات متهمة بـ “الانحياز” الليبرالي أو اليساري في تدريسها أو في آلية البحث العلمي) في المجتمع الأمريكي وحسب؛ بل أصبحت هذه السمة التحيزية في الجامعات جلية تتفشى في المملكة المتحدة وأوروبا القارية وأستراليا، الأمر الذي قد يفرض مخاطرا جسيمة على المكانة العامة والسياسية للجامعات في تلك المناطق.
وبينما يساعد الصيادون الروس وبعض التغطيات الإعلامية المحمومة في الدفع الصاروخي لشأن الانحياز الجامعي إلى أقصى حدوده، فربما كان من الممكن وضع الأمر في نطاقه الطبيعي مجددا بطرح سؤالين رئيسين: ما الذي تنبئنا به الأدلة البحثية عن أثر وجهات نظر الأكاديميين السياسية في وجهات نظر طلابهم السياسية؟ وما الذي يغذي مزاعم “الانحياز” اليساري أو الليبرالي في الجامعات في الظرف السياسي المعاصر؟
تنتشر المزاعم المعروفة في الهجمات التي يشنها اليمين على الجامعات في مختلف أنحاء الغرب. ففي المملكة المتحدة ظهر تقرير معهد آدم سميث اليميني عاملًا محفزًا لدفع إدعاءات قوى التحيز إلى الأمام، مما يوحي بأن “التمثيل المفرط” للآراء اليسارية الليبرالية بين الأكاديمين ربما كان له صدى سلبي حقيقي، بما في ذلك “التحيز الممنهج في المنح الدراسية”. نشرت صحيفة الديلي ميل -في وقت لاحق من نفس العام- نبأًها الصادم بعنوان سيء السمعة وهو “ما الذي تبقى من جامعاتنا”، مما يوضح موقفها من الأمر ويوضح “مدى التحيز ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عدد من الجامعات البريطانية الشهيرة” (كانت تلك محاولة لتشتيت الانتباه بعيدا عن الأفعال الخرقاء التي قام بها أحد أعضاء برلمان المحافظين حيث كتب إلى جميع مؤسسات التعليم في البلاد يطلب فيها منهم إعلان ما يعلمونه للطلاب حيال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكذلك أسماء الأساتذة المشاركين في الأمر).
وفي العام 2018، قال المعلق اليميني توبي يونج في صحيفة The Mail أن الجامعات “أصبحت ثكنات لليسار”، كما اتخذ سام جيما -الذي شغل منصب وزير جامعات المحافظين بين شهري يناير وديسمبر لنفس العام- موقفاً عدوانياً تجاه الجامعات فيما يتصل بميولاتها السياسية الواضحة، واتهمها مراراً وتكراراً بتعزيز “الثقافة السياسية الأحادية”.
وفي هذه الأثناء في استراليا، أمرت الحكومة اليمينية بقيادة الليبراليين بإجراء تحقيق في “القواعد والضوابط التي تحمي حرية التعبير في الجامعات”، بما في ذلك المعايير الخاصة بـ”الحرية الفكرية في التعليم العالي”. وعند بدء تطبيق الأمر في نوفمبر، قال وزير التعليم دان تيهان أن حرية التعبير لابد أن تحظى بالحماية “حتى في الأماكن التي قد يكون فيها ما يُقال عكس التيار السائد أو يمثل تحديا ما”، وأضاف أن “أفضل تعليم جامعي هو التعليم الذي يتعلم فيه الطلاب التفكير بأنفسهم”.
إن تلك النزاعات حول حرية التعبير في الحرم الجامعي، والتي تركز عادة على سلوك الطلاب = هي انعكاسات للنزاعات الأخرى حول التحيز الإيديولوجي المفترض من قِبَل الأكاديميين. ذلك بأن مغزى الهجمات الإعلامية المتكررة على ما يسمونه ب”جيل رقائق الثلج” من الشباب العشرينيينsnowflakes” [3] هو محاصرة أي حوار قائم بمجرد ملاحظة أنه يحمل مُسحة من تحدٍ لوجهات نظرها التقدمية، وهذه الآلية هي التي تغذي المنهج الأمريكي المعروف بـ”الحروب الثقافية” داخل الجامعات. ولقد اشتد هذا النهج في السنوات الأخيرة، والذي تغذى في البداية على تحريضات الناشط المحافظ ديفيد هورويتز ــ الذي لخص حجته في كتابه الصادر عام 2007 بعنوان “لأجل حرية أكاديمية: حرب اليسار ضد الحرية الأكاديمية”.
ومنذ ذلك الحين، لم تسفر السياسة ووسائل الإعلام إلا عن المزيد من الاستقطاب. وفي هذا السياق– يقول ماثيو ووسنر وهو أستاذ مشارك في العلوم السياسية والسياسة العامة بجامعة ولاية بنسلفانيا هاريسبرج: “إذا شاهدت قناة فوكس نيوز (اليمينية) عند وقوع حادث تصرف فيه عضو ليبرالي ضمن هيئة التدريس على نحو غير لائق، فإنك سترى تغطية قناة فوكس نيوز شاملة للحدث بدون أن تسقط منه أية تفصيلة صغيرة”. لذا فأنا أعتقد أن استقطاب وسائل الإعلام يساهم في خلق استقطاب في المفاهيم العامة للتعليم العالي”.
كما ظهرت في الصورة وسائط إعلامية رئيسية جديدة. حيث يهدف موقع Professor Watchlist الإلكتروني إلى تحدي أولئك الذين “يرفعون من مستوى الدعاية اليسارية داخل الفصول الدراسية”، في حين تهدف فرق إصلاح الحرم الجامعي المؤلفة من الطلبة المراسلين إلى “التحقيق في التحيز الليبرالي والإبلاغ عنه في حرم الجامعات في جميع أنحاء الولاية”.
وفي هذا الشهر، أنشأت منظمة تسمى نقطة التحول Turning Point في بريطانيا فرعاً منها في الولايات المتحدة، وهي المجموعة التي يقودها أحد أنصار ترامب البارزين: تشارلي كيرك، والتي تدير موقع Professor Watchlist. فقد قال رئيس جامعة أكسفورد جورج فارمر والعضو سابق في نادي بوللنغدون أن المجموعة سالفة الذكر قد أرست “أسر طلابية” chapters في عدد من الجامعات، بهدف “عكس الاتجاه الفكري الموجّه في العديد من هذه الجامعات، حيث يملأ الأكاديميون اليساريون عقول الشباب بالماركسية الثقافية على نطاق واسع”.
كما نرى نقدًا أكاديميًا فعالًا وأكثر منطقية من العلماء المشاركين في مشروع أكاديمية Heterodox حيث تهدف الحملة إلى إرساء فكرة “تنوع وجهات النظر” بين الأكاديميين.
عبر هذه المجموعة الواسعة من الهجمات والانتقادات، هناك نقطة اعتراض مشتركة مدعومة بالدراسات العلمية.
يقول نيل جروس أستاذ علم الاجتماع في كلية كولبي وماين، والمؤلف المشارك لأكثر الدراسات العلمية اكتمالاً حول الشخصية السياسية في الكلية الأميركية: “لقد كانت الكليات تاريخياً أكثر ليبرالية، وأكثر يساريةَ، مقارنة بالعامة من الناس”، رغم أن هذا يتفاوت “طبقا لمجال الدراسة و نوع مؤسسة التعليم العالي”.
والواقع أن هذه الدراسة “وجهات النظر الاجتماعية والسياسية للأساتذة الأميركيين” التي شارك نيل في جمعها مع سون سيمونز في عام 2007، قد أخذت عينة مكونة من 1400 فرد في مختلف التخصصات العشرين الكبرى من حيث الدرجات التي مُنِحَت على المستوى الوطني، وطُلب من المشاركين في الاستبيان تصنيف أنفسهم حسب معتقداتهم السياسية.فوجد أن “44,1% من المشاركين في الاستبيان صُنفوا باعتبارهم ليبراليين، و46,6% بوصفهم معتدلين، ثم نسبة ال 9.2 بالمائة المتبقية كانت للمحافظين..
ولكن هل يصح ترجمة هذا الميل اليساري من الأكاديميين إلى تحيز في عملية التدريس الجامعي؟
وفقاً لووسنر أستاذ العلوم السياسية في كلية إليزابيثتاون فإن الجامعات لديها مهمة بالغة الأهمية تتمثل في “غرس الأفكار والقيم التي نعتقد أنها مهمة لتكوين مجتمع متحضر”. وعليه، “فإن حقيقة ميل الأوساط الأكاديمية إلى اليسار حتى الآن تثير تساؤلا واضحا حول ما إذا كانت بعض القيم المغروسة أيديولوجية بطبيعتها”.
فقد قام ووسنر بالاشتراك مع زوجته أبريل كيلي-ووسنر بتأليف العديد من الدراسات الرئيسة في وجهات النظر السياسية للأكاديميين وطلابهم. وقد كان الدافع -جزئيًا- وراء برنامجيهما البحثي خلافا دار بينهما في مدى تلقين الأفكار اليسارية في الحرم الجامعي. ويصف ووسنر نفسه بأنه “أحد الجمهوريين القلائل في منظومة التعليم العالي”، ولكنه يضيف أن الأكاديميين الذين قابلهم في أوائل التسعينيات أثناء فترة البكالريوس في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس في أوائل العقد الأخير من التسعينات وفي فترة الدكتوراه في جامعة ولاية أوهايو في النصف الثاني من نفس العقد يصف هؤلاء الذين التقاهم بأنهم “احترموا وجهات نظري بشكل كبير”. ولكنه رغم ذلك “أدرك أن ما يروى له عن أن المحافظين يتم تلقينهم كان القاعدة وهو الشاذ منها”، ومع ذلك تميل كيلي للرأي الآخر وهو أن “الطلاب ليسوا إسفنج يتشرب كل ما يقال له”.
أما كتابهما الصادر في العام 2010 بعنوان “الأكاديمية التي ما زالت منقسمة The Still Divided Academy: وعنوانه الفرعي: كيف تعمل الرؤى المتنافسة للسلطة، والسياسة، والتنوع على تعقيد مهمة التعليم العالي؟
فقد تتبع الزوجان جنباً إلى جنب مع الكاتب المشارك ستانلي روثمان مجموعة مؤلفة من 1500 طالب من فئة التعليم العالي في مختلف أنحاء الولايات المتحدة ، حيث استطلعوا سنوياً عن انتماءاتهم السياسية الحزبية وعن وجهات نظرهم بشأن مجموعة كبيرة من القضايا السياسية الأخرى.
وقد ثبت أن الانتماء الحزبي لديهم ثابت بمرور الأعوام. وكانت هناك بعض الحركات “الغامضة” “subtle”حيال وجهات نظرهم السياسية الأخرى، فكما وضح ويسنر:بينما يكون هؤلاء يساريين في التعامل مع القضايا الاجتماعية، فإنهم في الوقت نفسه يكونون يمينيين فيما يتصل بالقضايا الاقتصادية.
وفي دراسة أخرى أجراها ووسنر وزوجه في عام 2009، نشرتها مجلة “السياسة والعلوم السياسية” Political Science and Politics تحت عنوان “أعتقد أن أستاذى ديمقراطي: إن اعتبرنا أن الطلاب يدركون سياسة الكلية ويتفاعلون معها”، والتي ركزت على الطلاب والأساتذة الذين تلقوا تعليمهم ممن (أماطوا اللثام عن وجهات نظرهم السياسية للباحثين). يقول ووسنر: “أشارت بعض الأدلة إلى أن الطلاب يُوجهون إيديولوجياً، ولكن ليس بالقدر الكبير”. ويضيف أيضا: “إذا كان الأكاديميون يؤثرون على سياسات الطلاب، فإننا توقعنا أن يكون الأساتذة الأكثر ليبرالية هم الذين قد يرتبطون بالحركة الأبعد عن اليسار، ولكن، لم يكن هذا المتحقق فعلا”
“على ما يبدو أن النقد اليميني بأن الجامعات هي معاهد يسارية ، أو أنهم يلقنون الطلاب بشكل جماعي أمر مبالغ فيه حيث تُظهر مجموعة متنوعة من الدراسات أن الطلاب يقبلون بسلوك سياسي معين ويدبرون بتصرف سياسي هو نفسه تقريبا. “.
وتؤكد كيلي أن “أبحاثنا تظهر بشكل متكرر أن الطلاب لا يتقلبون بشكل كبير في انتماءاتهم السياسية على مدار حياتهم المهنية في الكليات”. وفي تسليط الضوء على دراسة أخرى أجروها قالت أن الطلاب “أقل ميلاً إلى الاهتمام والتعلم من الأساتذة الذين يرون أنهم متحيزون ضد وجهات نظرهم الخاصة”. وتضيف أنهم ” أكثر تأثراً بأقرانهم”.
وعليه فالحكم النهائي على الجدل بين الزوجين هو كما أقر ووسنرأن ما رأته كيلي كان “صحيحاً بشكل كبير”. فالطلاب أكثر مقاومة للرسائل السياسية مما كنت أتصور أنهم كانوا عليه.”.
لم يكتف لينفيل من كليمسون بالبحث في تغريدات وكالة أبحاث الإنترنت التي سبق وذكرناها. ولكنه اهتم -كذلك- بنشر العديد من الدراسات حول تصورات الطلاب لـ”الانحياز” الإيديولوجي في الفصول الدراسية بالجامعة. وتشير تلك الدراسات إلى أن الطلاب الملتزمين بشدة بمعتقداتهم، وأولئك الذين يتمتعون بدرجة عالية من “الاستحقاق الأكاديمي أو التوجه الدرجي” من المرجح أنهم ينظرون إلى معلميهم باعتبارهم مظهراً للتحيز الإيديولوجي..
ويقول لينفيل أن وسائل الإعلام الاجتماعية قد جعلت التحيز المتصور ” مشكلة كبيرة”. فإن تويتر وفيس بوك يجعلان من السهل استشفاف أو استنتاج وجهات النظر السياسية لدى الأكاديميين ــ فضلاً عن كونها تجعل التحيز المفترض “مشكلة أكثر صعوبة في التعامل معها” نظراً لمدى سهولة تصعيد الحالات الفردية إلى خلافات واسعة النطاق. ويقول لينفيل: “ثمة أساتذة أغبياء مستعدون دومًا للحديث عن أفكار سخيفة في مكان ما على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي حين أن العديد من تلك االأفكار لا تعدو كونها شكلًا من أشكال التعليم السيء إلا أنها ستعدُ تحيزاً سياسياً”.
اشترك لينفيل مع ويل جرانت وبراندون بوترايت -في عام 2018م- في دراسة التغريدات التي كتبها الطلاب في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا ــ والتي أرسلت في عامي 2015 و2016، وهي الفترة التي تغطي التصويت على خروج المملكة المتحدة، وانتخاب دونالد ترامب والانتخابات الأسترالية ــ “في محاولة لاكتساب رؤية صادقة للكيفية التي يشعر بها الطلاب حول دور الإيديولوجية في الفصول الدراسية”. فخرجا بدراسة تحت عنوان:”ممانعة ما وراء الكواليس: كيف يستخدم الطلاب تويتر في التعامل مع إيديولوجية المعلمين” “Back-stage” dissent: student Twitter use addressing instructor ideology والمنشورة بمجلة التعليم التواصلي Communication Education،يقول لينفيل أن “أغلب التغريدات كانت تدور حول المعلمين الذين يُنظَر إليهم باعتبارهم ليبراليين”،ويضيف أن “ما يقرب من ثلث المعلمين كان ينظر إليهم الطالب باعتبارهم محافظين”.
وهناك عامل آخر مهم يتلخص في أن الطلاب “لم يتحدثوا كثيراً” عن التحيز في واقع الأمر. ولم يحدد البحث سوى 1562 تغريدة تتناول “إيديولوجية المعلمين” على مدى العامين وعبر الدول الثلاث السالفة. وتشير الدراسة إلى أنه “على الرغم من التغطية الإعلامية المحيطة بإيديولوجية الفصل الدراسي، فإن الطلاب أنفسهم قد لا يكونوا منخرطين في الموضوع بالقدر الكافي للكتابة عنه على تويتر”.
لماذا إذن كل هذا السعار حيال التحيز الإيديولوجي المتصور من قطاعات يمينية عديدة؟
يشير جروس من كلية كولبي، ومؤلف كتاب “لماذا هم أساتذة ليبراليون ولماذا يهتم المحافظون بالأمر؟” إلى أن “جزءا من الأمر أن التعليم أصبح بشكل متزايد المحور الرئيسي لعملية الاستقطاب السياسي”.
وينطبق هذا على المملكة المتحدة كما ينطبق على الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، حدث أنه في الانتخابات العامة في عام 2017 ،تقدم حزب عمال جيريمي كوربين على حزب المحافظين بنحو 17 نقطة مئوية بين أولئك الذين يتمتعون بمؤهلات على مستوى الدرجات العلمية وفقاً لتحليل يوجوف. وفي استفتاء الاتحاد الأوروبي في عام 2016، تشير ورقة بحثية من قِبَل جون كورتيس أستاذ السياسة في جامعة ستراثكلايد عن العوامل وراء تصويت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تشير إلى أن “22% فقط من الخريجين صوتوا لصالح ترك الاتحاد الأوروبي، مقارنة بنحو 72% من أولئك الذين لا يتمتعون بأي مؤهلات تعليمية”.
ومن ناحية أخرى، استخدمت ورقة بحثية أعدت لحكومة المملكة المتحدة من قِبَل أكاديميين من الجامعة المفتوحة والمركز الوطني للبحوث الاجتماعية بيانات من الدراسة المسحية للمواقف الاجتماعية البريطانية للمقارنة بين وجهات نظر الخريجين وغير الخريجين حول مجموعة من القضايا الاجتماعية.
وقد بيّنت الورقة المعنونة ب”تأثير التعليم العالي على مواقف الخريجين” أنهم يظهرون “أعلى مستويات المشاركة السياسية والفعالية”، و”أعظم درجة من المعرفة البيئية، والاهتمام والاستعداد لاتخاذ التدابيرالمتاحة من أجل البيئة”، كما وأظهروا “المواقف الأكثر تسامحاً إزاء المهاجرين والمتلقين للفائدة”. وأضافت أن “تزايد أعداد الخريجين المصحوبة بمواقفهم المميزة، قد يدفع إلى المزيد من التغيرات في المجتمع”.
لذا فمن السهل أن نرى لماذا يتحتم على بعض المحافظين ــ أو في حالة التصويت على خروج بريطانيا، الحق الثقافي الأوسع ــأن ينظروا إلى الجامعات بعين الريبة، وخاصة في عصر التوسع المستمر في التعليم العالي. ففي مقاله العمودي حول “المعاهد اليسارية”، على سبيل المثال، يزعم يونج أن “أحد الأسباب التي جعلت توني بلير حريصاً إلى حد كبير على توسيع الجامعات البريطانية هو كونه يأمل في إنتاج جيل جديد من الناخبين بالسليقة لحزب العمال اليساري “”.
وقد كتب الصحافي اليميني تيم مونتغمري -بنحو أقل فجاجة-: “إن نسبا مئوية كبيرة من المعلمين في المدارس، والأكاديميين في الجامعات وغيرهم من المبدعين يميلون بوضوح نحو وجهات النظر اليسارية، لقد خسر اليمين معركة السيطرة على مؤسسات “الجيل الصاعد” التي تشكل تفكير الغد في نواح متعددة. .
كما أن تيم بيل، أستاذ السياسة في جامعة كوين ماري بلندن، والذي يدرس شؤون حزب المحافظين، ينوه لوجود علاقة ارتباط بين الخريجين ووجهات النظر الليبرالية. يقول تيم:”سواء كنت جرامسيًا[4] مثقفا يشغل بالك أمر خسارة الهيمنة الثقافية أو إن كنت ببساطة من منظري المؤامرة اليمينيين، فإنه من الواضح للجميع أنك عندما تبحث تلك الصلة السبيبة بين الأمرين بوصفها نوعًا من الغسيل الدماغي بواسطة الأساتذة للطلاب، فأنت كمن يحاول إقناعنا بأن مجموع إثنين +إثنين = خمسة.
وقد خلصت الدراسات الاستطلاعية التي أجراها المؤرخ الراحل ألبرت هلسي إلى أن الدعم المقدم للمحافظين الأكاديمين خارج جامعة أوكسبريدج انخفض من 38 في المائة في عام 1964 إلى 19 في المائة في عام 1989. كما لاحظ هلسي أمر”تعزيز الشعور المعادي للمحافظين في المهن الأكاديمية البريطانية” خلال نفس الفترة. إلا أن بيل يلاحظ أن “الأغلبية العظمى من أعضاء هيئة التدريس يقومون بتدريس مواد يصعب كثيرا تمويهها، بحيث أن الداعية الأكثر دهاءً في العالم ربما يجد صعوبة في ذلك، ناهيك بالرسائل السياسية الواضحة.
هذه نقطة واضحة، ولكن عادة ما يتجاهلها المنتصرين للمزاعم “التحيزية”. يقول جروس في بحثه مع الأكاديميين، “لقد تحدثت مع أساتذة هندسة وأحياء وجيولوجيا، إنهم جميعا يقولون شيئا من قبيل (الصخور لا تعرف السياسة)”
كانت الدرجات العلمية الثلاث الأكثر شعبية في المملكة المتحدة في الفترة ما بين عامي 2016 و2017 هي الدراسات التجارية والإدارية (بحصيلة 333,425 طالبا)، والمواد المرتبطة بالطب (بحصيلة 290,770 طالبا) والعلوم البيولوجية بحصيلة(226,395 طالب)، وفقاً لبيانات وكالة إحصاءات التعليم العالي. فمن بين 2.38 مليون طالب في القطاع، يتم تسجيل 1.07 مليون طالب في المواد العلمية (بنسبة 45% من الإجمالي),
ومن ناحية أخرى، تنبه شبكة استطلاع الآراء المعروفة ستراثكلايد، والتي تحظى باحترام كبير في المملكة المتحدة، إلى أنه “بينما تُظهر بيانات الاستطلاع الخاصة بالسلوكيات الاجتماعية البريطانية لفترة طويلة ارتباطاً بين الليبرالية الاجتماعية والتعليم الجامعي، فإنه لا يوجد ارتباط حقيقي بين اليسار والخريج”. وتكمل أن: “إن إظهار الارتباط بين التعليم الجامعي والليبرالية الاجتماعية أمر سهل، أما إثبات السبب والنتيجة أمر أكثر صعوبة. هل يختار الليبراليون الاجتماعيون الذهاب إلى الجامعة أم أن الجامعات تجعل الناس ليبراليين اجتماعيين؟”.
ولقد سعت باولا سورريدج، إحدى كبار المحاضرين في كلية علم الاجتماع والسياسة والدراسات الدولية بجامعة بريستول، إلى الإجابة عن هذا السؤال. وهي تشير إلى أن أغلب الناس في أوروبا القارية يؤيدون النظرية السابقة. غير أن حدسها يشير إلى “أمر أبعد من ذلك”.
فقد لاحظت سوريدج أن البيانات الطولية longitudinal data، مثل دراسة مجموعة المواليد في المملكة المتحدة عام 1970، تقدم معلومات واسعة النطاق حول وجهات النظر الاجتماعية التي يمكن قياسها قبل وبعد دخول الأفراد مرحلة للتعليم العالي. حيث تشير الأبحاث على سبيل المثال إلى أن الفجوة بين الدعم والمعارضة لعقوبة الإعدام “تتسع بشكل مؤكد بحلول الأفراد عمر الثلاثين، سواء قد التحقوا بالتعليم العالي أم لا”.
ولكن فيما يتصل بادعاءات التحيز الإيديولوجي في التدريس الجامعي، فإن سوريدج تقدم النقطة واضحة وجوهرية وهي أنه “سوف يكون لزاماً عليك أن تعرف -تحديدًا- ما يحدث في الفصول الدراسية” لكي تحصل على أدلة حول هذا الموضوع. وهذا أمر مستحيل في الجامعات إلى حد كبير. والواقع أن ورقتها الصادرة عام 2016 بعنوان “التعليم والليبرالية: تتبع جذور الارتباط”“Education and Liberalism: Pursuing the Link”, ، والتي استندت إلى بيانات دراسة مجموعة المواليد، تخلص إلى أن “الآلية الأكثر ترجيحاً التي تربط التعليم بالقيم الليبرالية [الاجتماعية] هي التنشئة الاجتماعية socialisation ” ــ حيث يقضي الأفراد أوقاتهم ضمن مجموعة تكون تلك القيم شائعة فيها.
كما قالت: “لا أعتقد أن هذا شيء يسهل نقله بشكل مباشر” أعتقد أن الأمر أكثر تعقيداً من توقعاتنا عن المجموعات والأوساط الاجتماعية”.
وقد وُجِدت -من خلال الورقة التي نُشِرَت في مجلة أكسفورد للتعليم- اختلافات بين عينات الدراسة: “أولئك [الخريجين] الحاصلين على درجات علمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية هم الأكثر ليبرالية بين كل المجموعات التعليمية الأخرى، في حين أن الآخرين الحاصلين على درجات علمية في الدراسات التجارية هم الأقل ليبرالية من بين الحاصلين على درجات علمية”.
ويقول جلين ديفيس، نائب المستشار السابق لجامعة ملبورن والناقد الصريح للتحقيق الحر الذي أجرته الحكومة الأسترالية أنه من المهم التحقيق في “الحافز والتوقيت” الخاص بمزاعم التحيز السياسي في الحرم الجامعي. حيث أن “المؤسسات الفكرية اليمينية هي وحدها من أثار القضية، ويمكننا القول بإنصاف أن الحكومة الاسترالية قد استجابت بالفعل لتلك الادعاءات”
ويكمل ديفيس الذي أصبح الآن أستاذاً لامعا للسياسة العامة في كلية كروفورد التابعة لجامعة أستراليا الوطنية: ولكن “الحروب الثقافية” التي تخوضها أستراليا حول الجامعات تبدو “مستوردة من مكان ما وليست محلية الصنع…إنني أتساءل ما إذا كان هناك أي شيء مشترك حيال ملكية وسائل الإعلام في الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا له يد في الأمر؟”.
ويبدو أن ديفيز يلمح إلى روبرت مردوخ، الذي كانت محطة فوكس نيوز التلفزيونية التابعة له في الصحف الأميركية والبريطانية والاسترالية من أشد المروجين لسرد التحيز الإيديولوجي في الجامعات. ولكن الاستقطاب المكثف بين كافة وسائل الإعلام وفقاً لجماهيرها السياسية المختلفة لعب دوراً رئيسياً في تعزيز هذه الفكرة..
يجادل جروس بأنه من الطبيعي من بعض النواحي أن تتوجه أنظار المحافظين إلى التعليم العالي بصفته المكان الذي تضيع فيه كل تلك الأصوات المحتملة، فإن ما يحدث في الواقع هو “تحول شامل في الشأن السياسي، حيث أن من ينوون الذهاب إلى الكلية منذ سن مبكرة، يتم إيقافهم بشكل متزايد من قبل أحزاب المحافظين على جانبي المحيطي الأطلنطي”
وبتقريب الصورة على المملكة المتحدة، يقول الأستاذ كيرتيس أن “العلاقة بين العمر والليبرالية الاجتماعية ليس أمر تابعا بالضرورة للاختلاف في الخلفية العلمية: فإن الشباب الصغار يميلون إلى أن يكونوا أكثر ليبرالية، أي أكثر تحررا بغض النظر عن التعليم نفسه”
ولعل مزاعم التحيز الإيديولوجي في التعليم العالي تدور حول مخاوف التيار المحافظ الحديث أكثر من كونها مزاعم عن الجامعات ذاتها بشأن فقدان اليسار للهيمنة الثقافية كما يتصور البعض، أو حول مخاوف اليمين إزاء الليبرالية الاجتماعية. ولكن بصرف النظر عن مدى موثوقية قاعدة الأدلة أو السياسات التي تستند إليها مصادر كل طرف، فإن مثل هذه المزاعم قد تستمر في إلحاق الضرر بالجامعات، فإذا كانت شكوك المحافظين في الجامعات تسعى إلى انهيار الإتفاق الجماعي على تمويل التعليم العالي-والذي تجلى بوضوح في العديد من الولايات الأميركية- حينها ستكون العواقب وخيمة بلا شك. وفي عصر يتوسع فيه نفوذ الأحزاب اليمينية الشعبوية المعادية للفكر بشكل صريح في كثير من الأحيان، والتي تتمتع بقواعد انتخابية مؤلفة من الأفراد غير الخريجين، فإنه قد يتبع ذلك انتشار للحروب الثقافية حول الجامعات ولربما تتشتد إلى ما هو أبعد من الخط الأمامي للخلافات في الولايات المتحدة.
وفي العديد من البلدان، أصبح الانقسام بين الخريجين وغير الخريجين يُنظَر إليه باعتباره ساحة المعركة الرئيسية للسياسة الحديثة، وهو ما من المحتمل أن يؤدي إلى المزيد من عزل الجامعات عن قطاعات من الرأي العام اليميني. لذا فمن الأهمية بمكان أكثر من أي وقت مضى أن يتم إجراء المزيد من البحوث حول الكيفية التي تؤثر بها تجربة التعليم العالي على وجهات النظر السياسية والاجتماعية للطلاب والخريجين
وإلا فإن الأمر قد يتخطى وجود صيادين إلكترونيين من روسيا يستخدمون الجامعات كذريعة لتوسيع الخلاف بين الأطراف أو حتى التروج لأجندتهم السياسية.
الهوامش:
[1]– أشيع مؤخرا أن وكالات الأبحاث الروسية استخدمت جيشا من الصيادين الإلكترونيين trolls – لزرع معلومات مضللة في أمريكا وأنها تدخلت في انتخابات 2016 لتساهم في فوز ترامب انتخابيا، وعرفت بمزرعة الأقزام-مصنع الأقزام أي المجموعة المؤسسية عبر الانترنت والمتموقعة في روسيا، والتي تهدف إلى التدخل في الرأي السياسي وصنع القرار.-المترجم
[2]– ما يقوم به الصياد/المتصيد الاحتيالي هو ما يعرف ب التصيد الاحتيالي الالكتروني وهو محاولة للحصول على معلومات حساسة مثل أسماء بالمستخدمين وكلمات المرور وتفاصيل بطاقة الائتمان وسميت بالصيد لأن الأمر مرتبط بوضع الطعم في محاولة الإيقاع بالضحية، ويكون غالبًا لأهداف غير مشروعة –المترجم
[3]– كلمة تم ضمها لقاموس كولنز في العام 2016. والتي تشير إلى جيل “الشباب البالغين من العشرينات، والذين ينظر إليهم على أنهم أقل مرونة وأكثر عرضة لارتكاب الجريمة من الأجيال السابقة”. –المترجم
[4]– منحوتة من اسم الفيلسوف جرامسيان والذي اشتهر بنظريته عن الهيمنة الثقافية ، التي تصف كيف تستخدم الدولة والطبقة الرأسمالية الحاكمة – البرجوازية – المؤسسات الثقافية للحفاظ على السلطة في المجتمعات الرأسمالية –المترجم