- باول بلوم
- ترجمة: يزن الخضور
- تحرير: سمية ضمرة
عندما أُسأل عن ما أعمل عليه، غالبًا ما أقول إنني أكتب كتابًا عن التعاطف. فيبتسم السائل ويومئ برأسه، لكنني عندما أضيف: “أنا ضد التعاطف!”، أتلقى ضحكة صفراء تنم عن عدم ارتياح.
لقد فاجأني رد الفعل هذا في البداية، لكنني أدركت أن اتخاذ موقف ضدَّ التعاطف يشبه الإعلان عن كرهك للقطط – إنه تصريح غريب جدًا ولا يمكن أن يكون سوى مزحة- وهكذا تعلمت أن أوضِّح موقفي وأشرح أنني لست ضد الأخلاق، والرحمة، واللطف، والحب، وأن أحسن إلى جاري، وفعل الصواب، وجعل العالم مكانًا أفضل. إن ادعائي هو عكس ذلك في الواقع: إذا كنت تريد أن تكون صالحًا وتفعل الخير، فإن التعاطف ليس بأفضل الطرق.
تستخدم كلمة تعاطف بطرق عدة، لكنني هنا اتبنى المعنى الأكثر شهرة الذي يتوافق مع ما سمّاه بعض فلاسفة القرن الثامن عشر مثل آدم سميث “الشفقة”، ويعني:”عملية تجربة الحياة كما يجرِّبُها الآخرون أو على الأقل ما تعتقد أنهم يجرِّبونه”، أن تتعاطف مع شخص ما يعني أن تضع نفسك مكانه وأن تشعر بألمه، بعض الباحثين يستخدمون هذا المصطلح للإحاطة بالعمليات الأقلّ عاطفية عند الناس لتقييم تفكيرهم وحوافزهم واعتقاداتهم. يطلق على هذا احيانًا “الإدراك العاطفي” وهو مغاير تمامًا “للشّفقة العاطفية”، أنا سوف اتّبع هذا الإعتقاد هنا، لكن يُفضَّل أن تضع في ذهنك أنهما أمران مختلفان -ينشآن من عمليتين مختلفتين في الدماغ ومن الممكن أن تكون ناجحًا في إحداهما وضعيفًا في الأخرى-وأن معظم النقاش حول التأثير الأخلاقي للشفقة/التعاطف يركز على جانبه المتعلق بالشعور وليس الإدراك.
بعض المشاعر العاطفية متجذرة فينا، فمشاهدة أو سماع معاناة الآخرين لهو أمر مزعج حتى للأطفال، الذين فور ما يستطيعون الحركة بشكل كافٍ سيحاولون المساعدة بالطبطبة وتهدئة المكلومين، هذا لا يقتصر فقط على البشر، فعالم الأحياء الأوَّلية فرانس دي فال لاحظ أنَّ الشمبانزي غالبًا ما يضع يديه على من وقع ضحية لهجوم ويطبطب عليها ويعتني بها.
التعاطف يحدث بشكل تلقائي، ولا إرادي؛ يصف سميث كيف أنَّ ” الأشخاص ذوو المشاعر الرقيقة” عندما يلاحظون آلام أحد المتسوَّلين “يكونون عُرضًة للإحساس بشعور سيءٍ أو صعب في المناطق المسؤولة عن ذلك داخل أجسادهم “. وكتب جون ابديك “كانت تأتي لجدتي نوبات اختناق على مائدة الطعام، فينتابني أنا احساسٌ بضيق في حلقي من الشفقة عليها”.
يمكن أيضًا للتعاطف أن يمتدَّ ليصل التّخيل. ففي حديث له قبل أن يصبح رئيسًا ركَّز الرئيس أوباما على أهمية رؤية العالم بأعين أولئك المختلفين عنا -الطفل الجائع، عامل الحديد الذي خسر عمله، العائلة التي خسرت كامل حياتها التي بنتها معًا عندما أتت العاصفة إلى المدينة -… عندما تختار أن تتعاطف مع مآزق الآخرين، سواء كانوا أصدقاء مقرَّبين أو غرباء بعيدين= يصبح من الشاق عليك ألَّا تتصرف، ومن الأصعب عليك ألَّا تساعد.
أوباما مُحِقُّ في هذا الجزء الأخير، هناك كمُّ معتبر من الدعم لما سمَّاه عالم الطب النفسي دانيال باستون “نظرية التعاطف -الإيثار”: فعندما تتعاطف مع الآخرين تصبح ميالًا أكثر لمساعدتهم. بشكل عام، التعاطف يساعد في إذابة الحواجز بين شخص وآخر، إنها قوَّةٌ تُعاكِسُ الأنانية وعدم الإكتراث.
من السهولة بمكانٍ أن ترى إذن كيف أنَّ التعاطف يمكن أن يكون خلقًا حميدًا، وله العديد من الأبطال. تحدَّث أوباما كثيرًا عن التعاطف ويشهد على ذلك ادعاؤه الأخير بعد أوَّلِ لقاء مع البابا فرانسيس أن “الافتقار للتعاطف كان سببًا مهمًا في الانغماس في الحروب، إنه هو الذي يسمح لنا بتجاهل المشرَّدين في الشوارع. وفي كتابه “الحضارة التعاطفية” (2009)، يجادل جيريمي ريفكين بأنَّ الطريقة الوحيدة لنجاة جنسنا من الحروب والتدهور البيئي و الانهيار الاقتصادي هي من خلال تعزيز “التعاطف العالمي”. وفي حزيران (يونيو) الماضي، اختتم بيل وميليندا جيتس خطاب بدء حفل التخرج في جامعة ستانفورد من خلال مطالبة الطلاب برعاية وتوسيع قوتهم التعاطفية، الضرورية لعالم أفضل.
يرى معظم الناس أن فوائد التعاطف مثالٌ مشابه لشر العنصرية- واضحة جدًا لا تحتاج إلى التبرير؛ وأنا أعتقد أن هذا خطأ. لقد جادلتُ في مكان آخر أن هناك تحيّزات وخصائص معينة في التعاطف تجعله طريقة غير سليمة في السياسات الاجتماعية؛ فللتعاطف تحيزاتٌ مثل: أننا أكثر قابلية للتعاطف مع الأشخاص الأكثر جاذبية أو الذين يشابهوننا ولهم نفس العرق أو الجنسية، كما أن مجاله أيضًا ضيق الأفق، فهو يربطنا مع بعض الأشخاص سواءً بالحقيقة أو بالتخيل ولكنه غير حسَّاس إلى الاختلافات العددية أو الإحصائية كما قالت الأم تريزا “إذا نظرتُ إلى الجماهير لن أُجيد التمثيل ولكن إذا نظرتُ إلى شخصٍ واحد سأفعلها”. وهناك دراسات واقعية وجدت أننا نكترث للشخص أكثر من الجماهير أو الجموع، في حال كان هناك دراية بتفاصيلٍ شخصية عن ذلك الشخص.
بالتركيز على تلك المعايير، فإن قراراتنا العلنية أو التي تستهدف الجمهور تكون أكثر عدلًا وأكثر أخلاقية، وبمجرد أن نضع العاطفة على الهامش، فإن سياساتنا تتحسن عندما نُقدِّر أن قتل المئات أسوأ من قتل شخص واحد ولو كنت تعرفه، وأن معرفة مقتل شخص ما في مكان بعيد هي على نفس الأهمية من وفاة جارك، بالرغم من أن مشاعرنا توجِّهنا إلى العكس، وبدون عاطفة سنكون في حالة أفضل للتمسُّك بأهمية التطعيم للأطفال وللتغييرات المناخية. تفرض هذه الأفعال تكاليف على أناس حقيقيين هنا والآن من أجل منافع مستقبلية مجردة، لذا قد تتطلب معالجتها تجاوز الاستجابات العاطفية التي تفضل راحة ورفاهية الأفراد. يمكننا إعادة التفكير في المساعدة الإنسانية ونظام العدالة الجنائية، واختيار الاعتماد على تحليل منطقي -من الممكن أن يكون مصادمًا للتعاطف- للالتزام الأخلاقي والعواقب المحتملة.
ولكن بالرغم من قبولك لتلك الحجة، هنالك في الحياة أكثر من السياسات العامة. فعلى اعتبار أننا في كل يوم نتفاعل مع آبائنا وأطفالنا وشركائنا والأصدقاء، وكذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار العلاقات الخاصة مثل العلاقة بين الطبيب والمريض أو المعالج= قد لا يرتقي التعاطف إلى مستوى السياسة العامة، لكنه يبدو جيدًا عندما يتعلق الأمر بهذه العلاقات الحميمة وكلما كانت العلاقة أقرب كان التعاطف أفضل.
اعتدت على استخدام هذا ولكنني الآن لم أعد متأكدًا.
واحد من أكبر الداعمين للتعاطف هو عالم النفس سيمون بارون كوهين. في كتابه علم الشر الصادر عام 2011، يعتمد على علم النفس وعلم الأعصاب لبيان أن فكرة الشر يُستحسن أن تُستبدل ب “الهشاشة العاطفية”[1] وأن أعلى درجات التعاطف هو الذي يجعلنا أناسًا ومجتمعاتٍ أفضل.
يختلف الأفراد في ميولهم للشعور بالتعاطف، ويفترض بارون كوهين أن منحنى التعاطف الذي يبدأ من الصفر (في هذه النقطة لا يوجد تعاطف أو عاطفة) إلى الدرجة السادسة (عندها يكون الشخص كل تركيزه على مشاعر الآخرين )…يكون الشخص قد وصل إلى حالة وعي عالية جدًا، بحيث لا يتوقف عن مراقبة الآخرين، ويسرد قصة عن الأشخاص في هذه المرحلة وهي:
“سارة طبيبة نفسية لديها موهبة طبيعية لمعرفة مشاعر الآخرين، وبمجرد أن تمر أمام ناظريها تكون جاهزة لقراءة وجهك، ومشيتك، ووضعية جلوسك؛ ستسألُك أولًا” كيف حالك؟ ” ولكنَّ هذا كلام روتيني عندها. طريقتها -حتى قبل أن تخلع معطفك- تدعوك لتكشف أسرارك ولتبوح بما بداخلك، وتشاركه معها. حتى إذا كانت أجوبتك مقتضبة(مختصرة)، فنبرة صوتك تشعرها بأنك لم تعبِّر عن ما بداخلك، وبسرعة تتبع جوابك ب ” صوتك يبدو حزينًا قليلًا،ما الذي حصل وأزعجك؟”
قبل أن تعرف من هي سارة، تلقائيًا تفتَّح عقلك للمستمع الرائع، الذي يتدخل فقط ليعرض الراحة والاهتمام على ما يبدو، وكأنها ترى ما بداخلك، في بعض الاحيان تلقي عليك كلماتٍ هادئة ومريحة لتدعمك وتجعلك تشعر بالأهمية. هي لا تقوم بهذا لأنه عملها بل يعجبها هذا العمل مع المرضى ومع أصدقائها حتى مع الأشخاص الذين التقتهم للتو، فلديها ميل لا يُقاوم للتعاطف”.
من السهل رؤية ما يجده بارون كوهين مثيرًا للإعجاب هنا. تبدو سارة وكأنها معالجة جيدة، ويبدو أنها ستكون أيضًا أماً جيدة للأطفال الصغار.
ولكن لننظر إلى الصورة التي من المفترض أن تكون عليها سارة؛ فاهتمامها بالآخرين لم يَنتُج من تقديرٍ خاص أو احترام لهم: هذا الاهتمام عشوائي، ويخرج للأصدقاء كما هو للغرباء. كما أنها لا تؤيد مبدًأ إرشاديًا يعتمد على اللطافة والشفقة، بدلًا من ذلك فهي مصرِّة لأن تركِّز في حياة الآخرين بطريقة مفرطة غير قابلة للإيقاف. إن تجربتها معاكسة للأنانية، لكنها على طرف النقيض الآخر، وليست وسطية.
الشخص الأناني يعيش حياته غير مهتم بأوجاع أو راحة الآخرين -99% لنفسه، 1% للآخرين – في حين أن أمثال سارة يعيشون من أجل الآخرين: 99% للآخرين، 1% لنفسها.
ليس من قبيل المصادفة أن يختار بارون كوهين امرأة مثالًا؛ ففي سلسلة من المقالات التجريبية والنظرية، اكتشف عالما النفس فيكي هيلجسون وهايدي فريتز سبب كون النساء معرضات للاكتئاب مرتين أكثر من الرجال. تشير نتائجهم إلى أن هذا الاختلاف يُفسَّر جزئيًا بالاختلاف بين الجنسين في الميل إلى “الشراكة غير المحدودة”، والتي تُعرَّف على أنها “الاهتمام المفرط بالآخرين ووضع احتياجات الآخرين قبل احتياجات المرء”. طور هيلجسون وفريتز استبيانًا بسيطًا من تسعة عناصر، يطلب من المستجيبين الإشارة إلى ما إذا كانوا يوافقون على عبارات مثل: “لكي أكون سعيدًا، أحتاج إلى أن يكون الآخرون سعداء”، “لا يمكنني قول لا عندما يطلب مني أحد المساعدة “، و”غالبًا ما أشعر بالقلق بشأن مشاكل الآخرين”. تسجل النساء عادة نتائجَ أعلى من الرجال في هذا المقياس؛ وأراهن أن سارة ستحقق نتائج عالية بالفعل.
إن الميل القوي نحو التعاطف له ثمنٌ باهظ؛ فقد أفاد الأفراد الذين حصلوا على درجات عالية في اختبار “الشراكة غير المحدودة” أن علاقاتهم غير متكافئة، حيث يقدمون كل الدعم للآخرين، ولكنهم لا يتلقون أي دعم. كما أنهم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق. تركز باربرا أوكلي على كتابات مختلفة حول “الإيثار المرضي”، ولاحظت في كتابها “العطف البارد” Cold-Blooded Kindness (2011): “إنه لأمرٌ مدهش أن عدد الأمراض والمتلازمات التي تظهر بشكل شائعٍ عند النساء تبدو مرتبطةً بتعاطف المرأة القويّ مع الآخرين، والتركيز عليهم”.
إن المشاكل التي تنشأ هنا تتعلق بالجانب الشعوري للتعاطف، أي الشعور بألم الآخرين. وهذا يؤدي إلى ما يسميه علماء النفس بالضيق التعاطفي. يمكننا مقارنة هذا بالتعاطف الإدراكي: أي حبٍ عميق ولطف واهتمام بالآخرين. مثل هذا التعاطف هو إضافة نفسية. وإذا وضعنا جانبًا النقطة الواضحة التي مفادها أن درجة معينة من الاهتمام بالآخرين مطلوبة أخلاقيًا، فإن اللطف والإيثار مرتبطان بجميع أنواع النتائج (الجسدية والنفسية) الإيجابية، بما في ذلك تعزيز المزاج قصير المدى والسعادة طويلة المدى. إذا كنت تريد أن تكون سعيدًا، فإن مساعدة الآخرين هي طريقة ممتازة للقيام بذلك.
يجدُر بنا التوسع في الفرق بين “التعاطف” و “الشفقة/الرحمة”، لأن بعض أكبر المعجبين بالتعاطف يخلطون بينهما، ويعتقدون أن القوة الوحيدة التي يمكن أن تحفّز على اللطف هي الاستثارة الوجدانية. لكن هذا خطأ. تخيل أن طفل صديق مقرب قد غرق؛ ستكون الاستجابة الوجدانية المفرطة هي أن تشعر بما يشعر به صديقك، وأن تختبر -بقدر ما تستطيع- حزنه وألمه الرهيبين. على النقيض من ذلك، فإن التعاطف الصحي والإيجابي ينطوي على الاهتمام بصديقك وحبه، والرغبة في مساعدته، ولا يلزم أن يتضمن ذلك عكس معاناة صديقك.
فكّر في الأعمال الخيرية طويلة المدى. من المتصور -على ما أعتقد- أنه عندما يسمع شخص ما عن محنة الأطفال الجوعى، فقد يمر في الواقع بممارسة تعاطفية لتخيُّل ما يعنيه الموت جوعًا، لكنَّ هذا الضيق التعاطفي بالتأكيد ليس ضروريًا لتحفيز المرء للعطاء الخيري. قد يقدّر الشخص الرحيم حياة الآخرين بشكل مجرد، وإدراكًا منه للبؤس الناجم عن الجوع، يكون لديه الدافع للتصرف وفقًا لذلك.
بعبارة أوجز: المساعدة الرحيمة مفيدة لك وللآخرين. لكن الضيق التعاطفي مدمّر للفرد على المدى الطويل؛ لأن الشعور بآلام الآخرين مرهق ويؤدي إلى الإرهاق. وقد استُكشِفت هذه القضية في الأدبيات البوذية حول الأخلاق. فكر في حياة بوديساتفا -الشخص المستنير الذي يتعهد بعدم المرور إلى “نيرفانا”[2]، ويختار بدلاً من ذلك البقاء في الدورة الطبيعية للحياة والموت لمساعدة الجماهير. كيف يعيش بوديساتفا؟ في عواقب التعاطف (2009)، لاحظ تشارلز غودمان التمييز في النصوص البوذية بين “التعاطف الشعوري” الذي يتوافق مع التعاطف بمعناه المتداول، و “التعاطف العميق” الذي يتضمن الحب للآخرين دون ارتباط شعوري معهم. يجب تجنب التعاطف الشعوري، لأنه “يستنفد البوديساتفا”. ويدافع غودمان عن التعاطف العميق (الإدراكي) الذي يكون أكثر بعدًا وتحفظًا ويمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى.
يحظى هذا التمييز ببعض الدعم في العمل التعاوني بين تانيا سينجر -عالمة النفس وعالمة الأعصاب-، وماثيو ريكارد- الراهب البوذي وخبير التأمل والعالم السابق – في سلسلة من الدراسات التي تستخدم مسح الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي. طُلب من ريكارد الانخراط في أنواع مختلفة من تأمل التعاطف الموجه نحو الأشخاص الذين يعانون. ولدهشة المحققين، فإن هذه الحالات التأملية لم تنشط أجزاء من الدماغ يتم تنشيطها عادة لدى غير المتأملين عندما يفكرون في ألم الآخرين. وصف ريكارد تجربته التأملية بأنها “حالة إيجابية دافئة مرتبطة بدافع اجتماعي قوي”.
ثم طُلب منه أن يضع نفسه في حالة تعاطف وتم فحصه أثناء القيام بذلك. الآن تنشطت الدوائر المناسبة المرتبطة بالضيق التعاطفي. يقول ريكارد: “المشاركة التعاطفية، سرعان ما أصبحت غير محتملة بالنسبة لي وشعرت بالإرهاق العاطفي، مثل الشعور بالإرهاق الجسدي”.
يرى المرء تباينًا مشابهًا في التجارب المستمرة التي تقودها سينجر وزملاؤها حيث يتم إما تدريب الأشخاص على التعاطف الشعوري -والذي يركز على القدرة على تجربة معاناة الآخرين- أو التدريب على التعاطف الإدراكي -حيث يتم تدريب الأشخاص على الاستجابة للمعاناة بمشاعر من الدفء والعناية. وفقًا لنتائج سينجر، فمن بين الأشخاص الذين خضعوا للاختبار كان الذين خضعوا للتدريب على التعاطف الشعوري “يعانون زيادة في التأثيرات السلبية التي يتعرضون لها كلما رأوا الأشخاص الذين يعانون من ضائقة… تؤكد هذه النتائج على الاعتقاد بأن الانخراط في التعاطف الشعوري هو تجربة مكروهة للغاية، وعلى هذا النحو يمكن أن يكون منذرًا بالإرهاق”. كان التدريب على التعاطف الإدراكي -الذي لا يتضمن الاستيقاظ الشعوري تجاه الضيق المتصوَّرِ للآخرين- أكثر فاعلية، مما أدَّى إلى زيادة المشاعر الإيجابية وزيادة الإيثار.
هذا يقودنا إلى أهداف التعاطف. بينما أكتب هذا المقال، فإن أحد أقاربي الأكبر سنًا المصاب بالسرطان يتنقل ذهابًا وإيابًا إلى المستشفيات ومراكز إعادة التأهيل. لقد شاهدته وهو يتفاعل مع الأطباء وتعلمت ما يفكر فيه عنهم. إنه يُقدِّر الأطباء الذين يأخذون الوقت الكافي للاستماع إليه وتطوير فهم وضعه؛ إنه يستفيد من هذا النوع من التعاطف الإدراكي. لكن التعاطف الشعوري أكثر تعقيدًا؛ فهو يحصل على أقصى استفادة من الأطباء الذين لا يشعرون كما يشعر، والذين يكونون هادئين عندما يكون قلقًا، و واثقين عندما يكون غير متأكد. وهو يقدّر بشكل خاص بعض الفضائل التي ليس لها علاقة مباشرة بالتعاطف، مثل الكفاءة والصدق والاحترافية والاحترام.
تشير ليزلي جاميسون إلى نقطة مماثلة في مجموعة مقالاتها الجديدة (اختبارات التعاطف) The Empathy Exams: كانت جاميسون ذات يوم ممثلة طبية -كانت تزيف الأعراض لطلاب الطب، الذين سيشخصونها على أنها جزء من تدريبهم. كما صنفتهم على أساس مهاراتهم. كان الإدخال الأكثر أهمية في قائمتها المرجعية هو رقم واحد وثلاثين: “عبَّرت عن التعاطف مع وضعي/مشكلتي”. ولكن عندما تناقش تجاربها الحقيقية مع الأطباء، كان تقييمها للتعاطف مختلطًا. التقت بطبيب كان باردًا وغيرَ متعاطف مع مخاوفها مما تسبب لها في الألم. لكنها ممتنّة لشخص آخر حافظ على مسافة موضوعية مُطَمْئِنة: “لم أكن بحاجة إليه ليكون والدتي -حتى ليوم واحدٍ فقط – كنت بحاجة إليه فقط لمعرفة ما كان يفعله؛ هدوءه لم يجعلني أشعر بأنني مهجورة، لقد جعلني أشعرُ بالأمان…كنت بحاجة إلى أن أنظر إليه وأرى ما يُطَمْئِنُ خوفي، وليس ما يعكسه”.
فكِّر في الصداقة والحب. تصف “كلمات سارة”، “أصوات الراحة والقلق” الخاصة بها وتعكس مشاعر الآخرين كيف يتعامل نوع معين من المعالج مع العميل أو كيف يعامل نوع معين من الوالدين طفلًا قلقًا، لكن هذه ليستِ الحالة التي تكون عليها الصداقة عادة. الصداقة متجذرة في التناسق والمساواة، والمشاريع المشتركة، والمضايقة والنكات والقيل والقال، وكلها غائبة عن علاقة علاجية. على الرغم من أنني قد أستفيد من علاج صديق إذا كنت أشعر بقلق عميق أو اكتئاب، فأنا لا أريد – على وجه العموم – أن يعاملني أصدقائي كمريض يعاني، ويغمغمون بهدوء لطمأنتي عندما يكتشفون أنني خارجٌ عن السيطرة.. إن قول سارة “يبدو أنك حزين بعض الشيء. ما الذي حدث وأزعجك؟” يجسِّد ما تعنيه جاميسون عندما تقول: “التعاطف دائمًا ما يكون غير مستقر بين المنحة والاقتحام”.
وبغض النظر عن التطرف في التعاطف، هل يصنع الأشخاص المتعاطفون أصدقاء وشركاء أفضل؟ على حد علمي، لم يتم دراسة هذا الموضوع. بالتأكيد نريد لأصدقائنا أن يفهمونا وأن يهتموا بنا. سيكون الأمر مزعجًا إذا تجاهل شخص أحبه معاناتي أو فرحتي. لكن هذا ليس لأنني أريدهم أن يعكسوا مشاعري؛ بل لأنهم إذا أحبوني، فعليهم أن يقلقوا بشأن ما أصابني من مصائب وأن يسعدوا بي عندما أبلي بلاءً حسنًا. من وجهة نظر أنانية بحتة، قد لا أرغب في صدى تعاطفهم، خاصة عندما أشعر بالإحباط. أفضل أن يستقبلوا ذعري بهدوء وحزني ببهجة كبيرة. كما قال شيشرون عن الصداقة – لكن كان من الممكن أن يتحدث عن العلاقات الوثيقة بشكل عام – إن الصداقة “تحسن السعادة وتقلل من البؤس، بمضاعفة فرحنا وتقسيم حزننا”.
عندما نفكر في الأفراد على الطرف الآخر، فما قد يصفه بارون كوهين بالمستوى صفر من التعاطف، فإننا نفكر بشكل طبيعي في أنواع الشخصيات السيكوباتية، أو المعتلين اجتماعيًا، أو أنواع الشخصية المعادية للمجتمع / السيكوباتية (عادةً ما تستخدم المصطلحات بشكل مترادف). يتم تحديد السيكوباتيين على أنهم تجسيد للشر. يصف هذا المصطلح الجميع من الرؤساء التنفيذيين المفترسين إلى السياسيين القاسيين إلى القتلة آكلي لحوم البشر مثل جيفري داهمر والخيالي هانيبال ليكتر.
هناك اختبار معياري للاعتلال النفسي طوره عالم النفس روبرت هير. يتم استخدامه لاتخاذ قرارات قانونية بشأن المجرمين، بما في ذلك ما إذا كان ينبغي سجنهم مدى الحياة، ويستخدمه أيضًا علماء النفس التجريبيون الذين يُقدِّمون الاختبار للطلاب الجامعيين لاستكشاف كيفية ارتباط درجاتهم – على سبيل المثال – بالمواقف تجاه العنف الجنسي و أسلوب التفكير الأخلاقي. إذا كنت تحب هذا النوع من الأشياء، فيمكنك إجراء الاختبار عبر الإنترنت، وتقييم نفسك بناءً على سمات مثل “عدم الندم أو الشعور بالذنب”…إلخ.
العنصر الأكثر أهمية لكثير من الناس هو “قاس/ قليل التعاطف”. ترى العديد من العلاجات الشائعة للاعتلال النفسي -مثل اختبار السيكوباتي الأكثر مبيعًا لجون رونسون لعام 2011- أن الافتقار إلى التعاطف هو العجز الأساسي في الشخصية السيكوباتية. هنا يظهر الفارق بين التعاطف المعرفي والإدراكي، لأن العديد من الأشخاص المصابين باضطراب نفسي ممتازون في قراءة عقول الآخرين. وهذا ما يمكّنهم من أن يكونوا متلاعبين بارعين ومحتالين. لكن يُعتقد أن الجزء الشعوري غائب عنهم؛ فهم لا يستطيعون الشعور بألم الآخرين، وهذا هو السبب في أن السيكوباتيين هم أناس فظيعون.
قد تكون هذه هي الصورة الشائعة، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. لسبب واحد -كما يشير الفيلسوف جيسي برينز- يعاني السيكوباتيون من البلادة على جميع مستويات الاستجابات العاطفية، وليس في مجرد التعاطف الشعوري. وهذا التباطؤ العام في الشعور – أو”التأثر السطحي”- هو أحد المعايير في قائمة التقييم العلاجي. لاحظ ذلك هارفي كليكلي في كتابه The Mask of Sanity عام 1941 الذي قدَّم أول وصف سريري للاعتلال النفسي:
“الغيظ، والنكاية، والتهور، ومضات من مودة زائفة، والاستياء المزعج، والمزاج المعتل من الشفقة على الذات، والمواقف الصبيانية من الغرور، والسلوكيات السخيفة والساخطة= كلها ضمن النطاق العاطفي للمقياس ويتم التعبير عنها بحرية. لكن الغضب الناضج، والصادق، السخط الحقيقي أو المستمر، والحزن الصادق، والفخر، والفرح العميق، واليأس الحقيقي = هي ردود أفعال من غير المحتمل أن توجد ضمن هذا المقياس”
من غير الواضح، إذن، ما إذا كان نقص التعاطف هو جوهر السيكوباتية، أو ما إذا كان النقص في جانب واحد من التعاطف يمثل مشكلة أكثر عمومية. يمكن للمرء استكشاف هذا من خلال النظر في مدى جودة الدرجات على عنصر قاس/قليل التعاطف وبعض العناصر ذات الصلة المرتبطة بالسلوك السيئ في المستقبل. في مراجعة مستفيضة للأدبيات، لاحظت عالمة النفس جينيفر سكيم وزملاؤها أن هذه العناصر تنبئ بشكل ضعيف عن العنف والإجرام. والسبب وراء القوة التنبؤية لاختبار السيكوباتي هو أنه يقيِّم السلوك السيئ في الماضي بالإضافة إلى عوامل مثل عدم التثبيط وضعف التحكم في الانفعالات. بعبارة أخرى، يمكنك حذف سؤال التعاطف من الميزان، وسيكون جيدًا في انتقاء السيكوباتيين.
ماذا عن السلوك العدواني بشكل عام؟ هل الأشخاص الأكثر عدوانية أقل تعاطفًا؟ حتى أنا -أحد المتشككين- أتخيل أن هناك علاقة جوهرية بين التعاطف والعدوان، حيث من المفترض أن شخصًا لديه قدرٌ كبير من التعاطف سيجد أنه من غير الجيد التسبب في الألم للآخرين. لكنَّ مراجعة حديثة تلخص البيانات من جميع الدراسات المتاحة للعلاقة بين التعاطف والعدوان توصلت إلى استنتاج مختلف. يقول مؤلفو “العلاقة بين التعاطف والعدوان: نتائج مفاجئة من التحليل التلوي” أن 1 في المائة فقط من التباين في العدوان يُعزى إلى التعاطف. هذا يعني أنك إذا كنت تريد التنبؤ بمدى عدوانية الشخص، ولديك إمكانية الوصول إلى قدر هائل من المعلومات حول هذا الشخص -بما في ذلك المقابلات النفسية، واختبارات القلم والورق، والسجلات الجنائية، ومسح الدماغ- فإن آخر شيء تنظر إليه هو مقاييس تعاطف الشخص.
أخيرًا، أحد الاختبارات الحاسمة لنظرية انخفاض التعاطف يجعل الأشخاص سيئين هو دراسة مجموعة من الأشخاص الذين يفتقرون إلى التعاطف ولكنهم يفتقرون أيضًا إلى السمات الأخرى المرتبطة بالاعتلال النفسي. مثل هؤلاء الأفراد موجودون. يلاحظ بارون كوهين أن الأشخاص الذين يعانون من متلازمة أسبرجر والتوحد عادة ما يكون لديهم تعاطف إدراكي منخفض – فهم يكافحون لفهم عقول الآخرين – ولديهم أيضًا تعاطف شعوري منخفض. (كما هو الحال مع السيكوباتيين، هناك بعض الجدل حول ما إذا كانوا غير قادرين على التعاطف أو اختاروا عدم إظهاره). على الرغم من نقص التعاطف لديهم، لا يُظهر هؤلاء الأشخاص ميلًا للاستغلال والعنف. في الواقع، غالبًا ما يكون لديهم قوانين أخلاقية قوية ومن المرجح أن يكونوا ضحايا للقسوة أكثر من الجناة.
هل أقول إن التعاطف غير ذي صلة أو له تأثير مدمِّر على كيفية تعاملنا مع من حولنا؟ سيكون هذا استنتاجًا قويًا للغاية. هناك العديد من الدراسات التي تبحث في الفروق الفردية في مستويات التعاطف وتربط هذه المستويات بسلوك العالم الحقيقي، مثل الرغبة في مساعدة شخص محتاج. أجريت العديد من هذه الدراسات بشكل غير دقيق، غالبًا ما يقيسون التعاطف من خلال الإبلاغ الذاتي، لذلك لا تعرف ما إذا كنت تقيم التعاطف الفعلي بدلًا من الدرجة التي يرى الناس أنفسهم بها، أو يريدون أن يُنظر إليهم بها على أنهم متعاطفون. علاوةً على ذلك، قد يفترض أن الأشخاص الذين يساعدون الآخرين بشكل أكبر أنهم متعاطفون، لأن الناس غالبًا ما يصدرون أحكامًا عن أنفسهم من خلال استخلاص النتائج من سلوكهم الخاص.
ومع ذلك، هناك بعض الأدلة على أن كون المرء أكثر تعاطفاً يؤثر على مدى احتمالية المساعدة في ظروف معينة. غالبًا ما تكون العلاقة ضعيفة، ولا تصل إليها كل الدراسات. ومع ذلك، نظرًا للنتائج المعملية التي تُظهر أن تحفيز التعاطف يزيد من احتمالية السلوكيات الإيثارية، سيكون من الخطأ رفض دور التعاطف في حياتنا الأخلاقية.
لكننا نعلم أن المستوى العالي من التعاطف لا يجعل المرء شخصًا جيدًا وأن المستوى المنخفض لا يجعل المرء شخصًا سيئًا. من المرجح أن تكون شخصًا جيدًا مرتبطًا بمشاعر التعاطف واللطف البعيدة، إلى جانب الذكاء وضبط النفس والشعور بالعدالة. كونك شخصًا سيئًا له علاقة بقلة احترام الآخرين وعدم القدرة على التحكم في شهية الفرد.
إذن ما مقدار التعاطف الذي نريده حقًا في أنفسنا وأطفالنا وأصدقائنا ومجتمعنا؟ إذا كنت تريد الإجابة عن هذا السؤال، فمن المفيد التفكير في استجابة عاطفية مختلفة تمامًا: الغضب.
التعاطف والغضب يشتركان في الكثير، كلاهما يظهر في مرحلة الطفولة المبكرة ويوجدان في كل ثقافة بشرية، كلاهما موجود في الرئيسيات الأخرى مثل الشمبانزي، وكلاهما اجتماعي. على عكس العواطف مثل الخوف والاشمئزاز – والتي غالبًا ما تثيرها التجارب والكائنات غير الحية – فإن التعاطف والغضب موجهان بشكل أساسي نحو الآخرين، وكلاهما أخلاقي. فالتعريف الذي يرتبط بالتعاطف هو أنه يمكن أن يحفز السلوك اللطيف تجاه الآخرين؛ وكذلك غالبًا ما يكون الغضب رد فعل على الظلم والقسوة وأفعال أخرى غير أخلاقية.
النصوص البوذية أكثر تشككًا في الغضب منها في التعاطف: يرون أنه مدمر للفرد والعالم بأسرِهِ،وهذا مصدر قلق معقول. لكن إذا تمكنت من تحديد الحياة العاطفية لطفلي، فلن أتجاهل القدرة على الغضب. يمكن للقوة العاطفية للغضب أن تحمينا وتحمي أولئك المقربين مِنَّا من الاستغلال والافتراس فإن لشخص الذي لا يمكن أن يغضب أبدًا سيكون الضحية المثالية. يمكن أن يكون الغضب أيضًا دافعًا للسلوك الأخلاقي بشكل عام؛ فالعديد من الأبطال الأخلاقيين العظماء – مارتن لوثر كينغ جونيور، على سبيل المثال – كانوا أفرادًا سمحوا لأنفسهم بالغضب من المواقف التي كان الآخرون غير مبالين بها.
لكني سأقلق بشأن جوانب الغضب غير العقلانية والتعسفية والمدمرة للذات، لذلك لا أتمنى أن يمتلك طفلي الكثير منه. وأود التأكد من إضافة الكثير من الذكاء، والاهتمام بالآخرين، وضبط النفس. أود التأكد من أن الغضب يتم تعديله وتشكيله وتوجيهه من خلال المداولات العقلانية. قد يحفِّز ذلك الفعل أحيانًا، لكنه سيكون خاضعًا لقدرات العقلانية والرحمة. إذا تم تشكيلنا جميعًا بهذه الطريقة، إذا تمكنا جميعًا من وضع الغضب في مكانه، فسيكون عالمنا ألطف وأفضل.
هذه هي الطريقة عَينُها التي يجب أن نفكر بها في التعاطف.
[1] – عدم القدرة على إدارة وفهم المشاعر.
[2] – تؤكد جميع الديانات الهندية على أنها حالة من الهدوء التام والحرية والسعادة القصوى بالإضافة إلى التحرر من أو إنهاء السامسارا ودورة الولادة والحياة والموت.