- عبد الغني بومعزة*
“مأساة كامو، والتي تميّزت بطفولة سيّئة في بلكور بالجزائر العاصمة، هي أنّه كان ينتمي إلى المستعمرِين الأصليين والمستعمَرين بالظروف الاجتماعيّة”. أرزقي مترف
بعد أكثر من نصف قرن على وفاته، يواصل ألبير كامو تأجيج الجدل ومواقف المدافعين عنه والمنتقدين له، ولا يقتصر الجدل الدّائر حول الكاتب (هل هو كاتب جزائري أو فرنسي؟) على أعماله الأدبيّة التّي تعتبر من الرّوائع الحقيقيّة، ولكن أيضًا مواقفه السّياسيّة الغامضة والمتقلّبة، في حين أنه من الصّحيح أنّه لا يحتاج إلى مقدّمة، فإنّ سياق السّيرة الذّاتيّة مفيد، إن لم يكن ضروريًا لفهم ما تعنيه له الجزائر، فلقد نشأ في الجزائر العاصمة في منطقة بلكور الشّعبي، حول هذه الفترة، كتب:”ذات مرّة كانت هناك امرأة جعلها موت زوجها فقيرة هي وطفليها، كانت تعيش مع والدتها والتّي كانت أيضا فقيرة، مع أخ مريض وكان عاملا، كان عليها أن تعمل عاملة تنظيف لتكسب لقمة العيش، لذلك تركت رعاية أطفالها لأمّها، هذه الأخيرة كانت فظة، متسلّطة ومتعجرفة، علمتهم بالعصا” (روايّة الرّجل الأوّل، سيرة ذاتيّة )، لم يكن كامو ينتمي لعائلة من ملاك الأراضي، بل كان ينتمي إلى طبقة فقيرة ومهمّشة وللمفارقة العجيبة أطلق فرانتز فانون على هذه الفئة من المحرومين (المعذبون في الأرض)، بالطبع كان يقصد الجزائريون، أصحاب الأرض، لكن يبدو أنّه وصف ينطبق بشكل كبير على الأقدام السّوداء الأكثر فقرا في الجزائر المحتلة، هي نفسها الطبقة التّي جاء منها كامو، رغم ذلك سيتمكن من دخول ثانويّة بيجو في باب الوادي بفضل منحة دراسيّة وهناك سيكتشف شغفه بالكتابة والفلسفة والمسرح، شغف سيقوده ليصبح أحد أعظم كتّاب العالم ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة والفوز بجائزة نوبل للآداب عام 1957، لقد ولّدت هذه التجارب والمآسي العائليّة شعورًا بالانسحاق والانتماء المضطرب، البعض يسمّيها المفارقة الكامويّة (paradoxe camusien)، هذه المفارقة هي التّي سترسم خريطة طريقة ألبير كامو في الحياة، ستكون المؤثر الرّئيسي في كلّ قراراته الشخصيّة والفلسفيّة والسّياسيّة، فالمفارقة الأولى التّي أدين بها أبرزها أرزقي مترف صحفي جريدة (le soir d algerie): “مأساة كامو، والتي تميّزت بطفولة سيّئة في بلكور بالجزائر العاصمة، هي أنّه كان ينتمي إلى المستعمرِين الأصليين والمستعمَرين بالظروف الاجتماعيّة”.
[Metref, Camus au partage des eaux, Le Soir d’Algérie, 06-10-13. Arezki]
***
لنعد إلى مسألةّ فرنسيّة، أو جزائريّة كامو، أو بالأصح، لنطرح السّؤال التّالي، هل كامو فرنسي؟، أو أنه جزائري بانتماء فرنسي، مع الملاحظة بأن وجوده تميّز منذ البدايّة بمفارقة ثنائيّة الانتماء للمستعمَر والمستعمِر (صرّح كمال داوود في ندوة خاصة بتقديم ورايته ميرسو، تحقيق مضاد، أنّ كامو جزائري وفرنسي في نفس الوقت، لكن في كلّا الحالتين هو بدون وثائق ثبوتيّة/ sans papiers)، يجب أن نضيف أنه وجد نفسه وجهاً لوجه مع مفارقة أخرى أكبر والتّي حدّدت بشكل كبير من رؤيته للجزائر، في مقدّمة كتابه (Le Revers et l’endroit) طبعة عام 1958، كتب:”في أعماق نفسه، لكلّ فنّان مصدر فريد يغذي على مدار حياته ما هو عليه وما يقوله (…) أما أنا فأعلم أنّ المصدر هو في عالم الفقر والضّوء، وهذا حيث عشت فترة طويلة”، لذلك كانت الجزائر بالنسبة له هي مصدر إبداعه، القوّة الحيويّة لوجوده، رابط عميق لا يمكن الحفاظ عليه إلا بالعودة لجذوره: “بعد أن فقدت أرضي، لم أعد أساوي شيئًا”(ألبير كامو)، لكن هذه الجزائر التّي ولد ونشأ فيها هي مستعمرة فرنسيّة (une colonie française)، احتلتها قوات الملك شارل العاشر بقوّة السّلاح والنار سنة 1830، بحيث أطلقت الإدارة الاستعماريّة والمعمّرون على سكانها الأصليين -الجزائريين- تسميّة “indigènes” (الأهالي)، أو في أحسن الأحوال “العرب”، وسيدعو كامو الجزائريين في مقالاته ورواياته بالعرب، وهو بذلك يقوم بتجريدهم من أيّ هويّة، أو انتماء قومي، ميغويل مورينو فيلسوف إسباني ومن”الكامويين الجدد”يعتبر غياب”الجزائري”في روايات كامو بأنّه تجريد كامل ومطلق، صفة عامة وضبابيّة تدين هذه الشخصيات لتظهر على أنها تأثيث لمنظر طبيعي وقصّة لم يكونوا أبدًا من صنعها، مفارقة أخرى من خلال استعارة كلمات مولود فرعون الذي كتب في رسالة موجّهة إلى “صديقه” كامو: “قرأت روايّة الطاعون وكان لديّ انطباع بأنني فهمت كتابك كما لو أنني لم أفهم كتبك الأخرى، لكنني آسف أنه من بين جميع الشخصيات، لا يوجد مواطن أصلي وأنّ وهران تبدو لك مثل مقاطعة فرنسيّة عاديّة، هذا ليس عتابا، لقد ظننت فقط لو لم تكن هذه الفجوة بيننا، كان من الممكن أن تعرفنا بشكل أفضل وتشعر بأنّك قادر على التحدّث عنّا بنفس الكرم الذّي تقدره جميع الشخصيات الأخرى، ما زلت أشعر بالأسف لأنك لا تعرفنا جيدًا بما فيه كفايّة وأنّه ليس لدينا من يفهمنا ويساعدنا على فهم أنفسنا” (Lettres à ses amis, Éditions du Seuil, Paris, 1969, 205 p)، مولود معمري وحسب تعبيره فكامو من “الأقدام السّوداء” و “ابن رجل أبيض “والذي” مهما كان الجهد الفكري والأيديولوجي الذي بذله”لم يكن قادرًا على “تجاوز الضّوابط والقيود”، بينما عقد كاتب ياسين مقارنة بين كامو وويليام فولكنر، فكلاهما من عائلة صغيرة بيضاء ولم يتردّد في قول: “أفضّل كاتب مثل فولكنر الذي يكون أحيانًا عنصريًا، لكن أحد أبطاله رجل أسود، على كامو الذي يعرض آراء مناهضة للاستعمار بينما الجزائريون غائبون في عمله وهذا بالنسبة له، أي الجزائر، هي تيبازة والمناظر الطبيعيّة”، في النهايّة كان كامو للجزائريين “مواطنًا بدوام جزئي”، لاستخدام تعبير عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا عبد القادر جغلول الذي لاحظ أنّ هذا الشّاعر الحسّي والرّوائي القوي في البحث من أجل معنى على مستوى الإنسان رفض”اليد الممدودة للمواطنة المشتركة”، إذا كان بلا شك تسكن مخيّلته جزائر معيّنة فقط، فهي تلك التّي كانت قبل عام 1954، فمن المؤكد أنّه بدوره حبيس هذه الجزائر”الشّبيهة ببطاقة بريديّة بالأبيض والأسود” مرسلة من شخص يذكّره بتلك الفترة من حياته أكثر من أيّ وقت مضى، كلّ الكتاب الجزائريين المعاصرين، من مايسة باي إلى بوعلام صنصال يشيرون إليه بطريقة أو بأخرى عندما لا يكرّسون له كتابًا كاملاً، كما هو الحال مع حميد غرين (عطر من الأفسنتين)، وعندما نشر مالك شبل قاموس الحب للجزائر خصّص مقالة إشادة ب “الطفل المتمرّد” في بلده الأصلي، (Camus et l’Algérie: je t’aime moi non plus / jeune afrique – Renaud de Rochebrune).
***
في روايّة الغريب والطاعون والرّجل الأوّل، ثلاث رايات”جزائريّة”بامتياز حيث نجد الدّيكورات والأماكن والخلفيات جزائريّة، لكن الشخصيات الرّئيسة فرنسيّة وأقدام سوداء (غياب اليهودي)، في حين أنّ “العرب” ينزلون إلى المستوى الثاني، ونادرا ما يتم ذكرهم بالأسماء الأولى (يذكّرنا هذا بالممرّضة في روايّة الغريب التي تعمل في ملجأ المسنّين ومصابة بمرض جلدي وقد غطت وجهها بما يشبه المنديل)، وغالبًا ما تتحرّك هذه الشخصيات خارج القصّة، لقد وصف إدوارد سعيد سنة 1993، ألبير كامو بأنّه “كاتب ذو نزعة كولونياليّة”، ففي كتابه “الثقافة والإمبرياليّة” (سنة 1993)، تحت عنوان “ألبير كامو والتجربة الفرنسيّة الإمبرياليّة” كتب: لعب ألبير كامو دورا مهمّا بصفة خاصة في الانتفاضات المشؤومة التّي رافقت الولادة العسيرة والمؤلمة لمرحلة انهيار الاستعمار الفرنسي، إنه وجه إمبريالي جاء متأخرا، وهو لم يعش فقط الفترة التّي بلغت فيها الإمبراطوريّة الاستعماريّة ذروتها، بل عاش أيضا الفترة التّي أصبح فيها كاتبا كونيّا يمدّ جذوره في استعمار بات اليوم منسيا”، ويعتبر أعمال كامو تمثيلا للدعايّة الاستعماريّة الفرنسيّة فيما يتعلق بالجزائر وبأنّ الكاتب يخاطب في رواياته جمهور فرنسي يرتبط تاريخه الشخصي ارتباطًا وثيقًا بـالمستعمرة الفرنسية الواقعة شمال إفريقيا، وما يحدث خارج هذه الصّورة غير مفهوم، ميرسو يقتل عربيًا، لكن هذا العربي ليس له اسم ويظهر بلا تاريخ وبوضوح بلا أب أو أم، المفارقة بالطبع هي أنه حيث يتحدّث كامو عن ذلك فإنّ الوجود الفرنسي في الجزائر يتمّ تقديمه إمّا كموضوع سردي خارجي، أو باعتباره القصّة الوحيدة التّي تستحق ذلك، فذروة التناقضات لديه ستلقى مصيرا مأساويا، ما لم يكن مفهوما بالنسبة لإدوارد سعيد، مؤلف كتاب الاستشراق، كان” اللاوعي الاستعماري”الغامض ذو الطبيعة الغربية لدى كامو، لقد حاول دائمًا تبديد الصّورة النمطيّة للشرق الصّوفي و السّحري، المنفصل جوهريا وكان على قائمته السّوداء للكتاب ضحايا اللاّوعي الاستعماري، ألبير كامو إلى جانب أسماء أخرى، مثل كونراد وهمنغواي، لأنّ الظاهر هو أنّ”العرب”ليس بإمكانهم حكم أنفسهم وأنّهم بحاجة إلى من يرشدهم و يدلهم على الطريق الصّحيح، لقد كانت كلّ القوانين السّائدة حينها لا تسمح ولا تساعد على فكرة التعايش السّلمي، أو تقرير المصير، بينما الباحث وعالم الاجتماع عبد الله بلحيمر يرى في روايتي الغريب والطاعون والمنفى والملكوت دليلا يدين كامو بالهدف الإنساني والحضاري للاستعمار، وأن الأثر السّياسي والخلفيات الأيديولوجية المشرعنة لاستعمار الجزائر في أعماله، هي”عنصر في الجغرافيا السّياسيّة الفرنسيّة عن الجزائر والتّي تمّت صياغتها على نحو منهجي استغرق أكثر من جيل، لسرد مكثف أخاذ عن ذلك التصارع السّياسي والتأويلي الذي استهدف تمثيل واستيطان وامتلاك الأرض “( عبد الله بلحيمر، ألبير كامو، مستوطن اللاّمعنى في روايّة الطاعون).
***
كتب كامو في بداية مسيرته الصّحفيّة سنة 1939 تقريرا في جريدة”Alger républicain”عن الظروف الاجتماعيّة البائسة التّي كان يعيشها سكّان منطقة القبائل، عنوان التقرير(Misère de la Kabylie / بؤس القبائل) حيث رسم صورة سوداويّة لسوء التكيّف الوحشي للاستعمار، جزائريون معدومون يعيشون في ظل سياسة الأرض المحروقة وقمع الإدارة الاستعماريّة، أطفال عراة وجائعين، عائلات مشرّدة، حقول ومزارع منهوبة، فصول دراسيّة فارغة مع مدرّسين بدون طلاب، كان ردّ السّلطات أنّ الآباء من منطقة القبائل”لا يحبّون ذهاب أطفالهم إلى المدرسة”، كان البؤس والجوع و الفقر والإبادة العنوان الرّئيسي لمأساة الجزائر المحتلّة، كتب كامو “يمكن أن يزداد كلّ هذا بشكل غير متناسب مثل الدّيموغرافيا” (1.2 مليون أوروبي مقابل 9 ملايين جزائري)، يضيف كمحلل:”الحركات القوميّة فقيرة في العقيدة لكنّها غنيّة بالجرأة”، أدان آثار الاستعمار لكن ليس الاستعمار كمؤسّسة قائمة، واعتبر موقفه في تلك الفترة شجاعا بالمقارنة مع حالة العمى والإنكار التّي يعشها فرنسيو الجزائر، كان العالم في خضم مرحلة جديدة من النضال من أجل إنهاء الاستعمار ونجحت دول كثيرة في تحرير نفسها، كان يعيش تمزّقا مؤلما وهو الذي لطالما استنكر الأساليب القمعيّة للفرنسيين، بالنسبة له كانت المعضلة كالتّالي، لم يستطع تخيل جزائر بدون أوروبيين، ولا تصوّر الأوروبيين المولودين في الجزائر خارج جذورهم لقد دافع بحسن نيّة، أو من باب الولاء عن المستعمرِين لكونهم تمّ استغلالهم واستقدامهم لأرض ليست أرضهم ولا بديل لهم عنها، لذا فالسّبيل الوحيد هو إقناع الجميع بجدوى التعايش، كانت فكرة حالمة و سرياليّة غير قابلة للتحقّق على أرض الواقع وهذا في ظلّ وجود رفض كبير من جميع الأطراف، في غضون ذلك، أصبح الجزائريون مدركين تمامًا لحالة الاستعمار التّي لا تطاق، ويرفضون العيش تحت وصايّة جلاّديهم كمواطنين من الدّرجة الثّانيّة وهم أبناء الوطن الأصليين وفرنسيو الجزائر لن يقبلوا بفكرة اقتسام ريع الأرض المباركة مع”الانديجان”، كان عليه أن يختار، يأخذ موقفا شجاعا يتجاوز موقفه السّابق عندما نشر بؤس في بلاد القبائل، إن الحرب وما تنجم عنها من مشاكل أخلاقيّة وسياسيّة تضعه في موقف يتعذر الدفاع عنه، لم يكتف بإدانة استخدام التعذيب وعنف المستوطنين الفرنسيين و”حرب الحكومة القذرة”ضدّ الجزائريين العزل، بل كان ناقدا مخلصا وعلى علم بالتمييز الاستعماري ضدّ الجزائريين منذ الثلاثينات، لم يكن هناك أدنى شك في تعاطفه مع”فكرة العدالة”وحق الآخرين في العيش بحريّة وكرامة، وفي عدد 10 ماي 1947 من جريدة (Combat)، نشر هجوما قويّا على السّياسات والتكتيكات العسكريّة الفرنسيّة في الجزائر:” الحقيقة موجودة، واضحة ومقزّزة مثل الحقيقة نفسها، في هذه الحالة نقوم بما كنا نلوم به الألمان” Carnets, janvier 1942-mars 1951 (Paris, Gallimard, 1964),)، لقد عرف أنّ شيئًا ما يجب أن يتغيّر في الجزائر وندم بمرارة على الفرصة الضّائعة عام 1945، عندما كان بإمكان الفرنسيين اقتراح إصلاحات سياسيّة، وحكم ذاتي معين وأخيراً حكم ذاتي لمجتمع جزائري لم يكن مستقطباً حيث يصبح فيه الأوروبيون التقدميون والعرب المعتدلون في العمل معا كما اقترح قبل عقد من الزّمن، لكن في عام 1954 كان عليه أن يختار دربا آخر و هذه المرّة كان الاختيار صعبا ومؤلما.
***
يمكن القول إنّ التناقض هو أحد سمات ألبير كامو، وهو الذي دعا إلى المقاومة ورفع السّلاح ضدّ الاحتلال الألماني لبلاده وعارض الحكم المطلق لستالين وسياسة الغولاغ وغزو تشيكوسلوفاكيا والفرنكويين في إسبانيا، كان مثقلا بالوحدة والنشاط والقلق، بعدم اليقين، بالاضطراب وتشتت الأفكار، وعلى الرغم من صلاته الوثيقة بالعديد من المثقفين الجزائريين والفرنسيين الذين أعلنوا صراحة أنهم يؤيّدون تحرير الجزائر، حتى أنّ البعض منهم انضم إلى الكفاح المسلح، فلقد اتّهمه البعض بالجبن والبعض الآخر بالخيانة، وعلى الرغم من ذلك فلقد تمّ التوصل مع مجموعة من المثقفين الجزائريين والفرنسيين والليبراليين على إطلاق مبادرة بتاريخ 22 جانفي 1956 مطالبين فيها” المتحاربين”بتوقيع” هدنة مدنيّة” عرفت حينها ب(la trêve civile)، بينما في نفس الوقت قام الوزير الاشتراكي”غي موليه” بتعبئة 500 ألف جندي فرنسي لقمع الثورة، تحدّث كامو بلهجة واثقة ومؤمنة في غرفة مليئة بفرنسيي الجزائر الأكثر تطرّفا، بالإضافة إلى جزائريين من أنصار الزّعيم السّياسي فرحات عباس، كانت تُسمع صيحات استهجان ضدّ الرّجل:” الموت لمندس فرنسا!”، “كامو إلى المشنقة!”، قيل إنّه ارتبك ووجد صعوبة في التكلّم، توقف للحظات متقطعة يلتقط أنفاسه، كاتب سيرته الذّاتيّة”اوليفيه تود”وصف المشهد بالدرامي وأنّ كامو حبس دموعه ورغب في المغادرة، خشي رفاقه من أن يتعرّض للأذى، شعر بعدم جدوى إلقاء كلمات في قاعة مليئة بالرّفض والكراهيّة، لكن أصدقاءه حثوه على أن يكمل، أن يتحدّث أسرع، قال:
“لأننا لم نعرف كيف نعيش معًا، فإن شعبين متشابهين ومختلفين، كلاهما محترمان، من الآن فصاعدًا محكوم عليهما بالموت معًا”((A. Camus, Trêve pour les civils, La Pléiade, p. 992، في وقت لاحق اعترف لايمانويل روبليس بأنّه ما كان عليه أن يشارك في المبادرة لأنّها كانت خيبة كبيرة وأنّها زادت من الاحتقان وضاعفت من عزلته، في وقت لاحق من هذه الحادثة كتب في رسالة لروبليس يخبره برفضه القاطع لما يحدث في العاصمة من تفجيرات و اغتيالات(معركة الجزائر)، وأنه يعتقد أنّ الكفاح المسلح الذي تخوضه جبهة التّحرير الوطني هو تعبير خالص عن الإرهاب، يتذكّر ايمانويل روبليس حديثا دار بينه وبين كامو في أحد لقاءاتهما:
سيكون من العبث الدّفاع عن الأطروحة، إنّها قبل كلّ شيء مسألة التمسّك بمشروعنا الأولي وهو الحفاظ على الاتصالات التّي تمنع حدوث تمزّق كامل ونهائي، الأوروبيون متحمّسون ومخدوعون بصحفهم، من ناحيّة أخرى الجزائريون يطالبون بالعدالة، إنّهم يناضلون ويعانون من أجل العدالة، إنّه مبدأ قوي يكون الصّغار والكبار على استعداد لتحمّل أيّ شيء من أجله.
كامو:
نعم، لتحمّل كلّ شيء، لكن أيضًا لجعل الجميع يعاني، الإرهاب العشوائي هو أصل هذا التمزّق الذي تتحدّث عنه، إذا ألقى إرهابي قنبلة في سوق بلكور والذي تتردّد عليه أمّي وقتلتها، فكيف أتقبّل هذا الموت؟ أنا أحّب العدالة، لكنّني أيضا أحبّ أمّي”. ( Jeunes Saisons، سيرة ذاتيّة، ايمانويل روبليس، 1961)، وأعتقد أنّ إعلانه بأنه لا وجود لأمّة جزائريّة وبأنه لو أعطي الاستقلال للجزائريين، فحتّى اليهود واليونانيين والإسبان والإيطاليين والأمازيغ لديهم هذا الحق، الحق في حكم وقيادة هذه الأمّة:
فيما يتعلق بالجزائر، الاستقلال الوطني هو صيغة عاطفيّة بحتة، لم يكن هناك قط أمّة جزائريّة، سيكون لليهود، والأتراك واليونانيين والإيطاليين، والبربر نفس الحق في طلب قيادة هذه الأمّة الافتراضيّة.
***
يوم 14 ديسمبر1957، في مدرّج بجامعة أبسالا، وبعد حصوله على جائزة نوبل، شاب جزائري يهاجم كامو ويسأله عن موقفه ممّا يحدث في الجزائر، يأخذ كامو نفسا عميقا ويواجه آلات التصوير وكاميرا الصّحفيين الموجّهة نحوه ومئات العيون المحدقة فيه وكأنه يوم محاكمة ميرسو، جميعهم في انتظار الجملة المخلّصة، تصريح يحرّر الناس من حالة انتظار وترقب داما وقتا طويلا من كاتب عالمي قيل عنه إنّه يصعب التنبؤ بما سيقوله في هذا النوع من الظروف الاستثنائيّة، حينها كانت الجزائر، بلاده تحترق:
لا بد لي أيضًا من إدانة الإرهاب الذي يحدث بشكل عشوائي في شوارع الجزائر، والذي يمكن أن يضرب عائلتي يومًا ما، أنا أؤمن بالعدالة لكننّي سأدافع عن والدتي قبل العدالة”، أبغض شيء بالنسبة له أنّه سيدافع عن نفسه فيما بعد في باريس عندما قال:”كلّ دفاع يصبح ذريعة للذات”، كان حريصًا على الانسحاب من ضجيج وغضب الحياة العامة ولم يكن لديه الكثير ليقدّمه للسّجالات الفكريّة في ذلك الوقت، وجد نفسه تقريبا في خلافات متزايدة مع جميع أطراف الصّراع، إن عدم تسامح الأحزاب المتعارضة والأخطاء السّياسيّة للفرنسيين والجزائريين كان دليلا على استحالة الاتفاق ممّا دفعه نحو حالة”من العقل إلى العاطفة ومن العاطفة إلى الصمت”، في الحقيقة كان ممزّقا بين التزاماته الأخلاقية وعلاقاته العاطفية، لم يكن لديه ما يقوله، ومن ثَمّ لم يعد يقول شيئًا.
إن تكهنه بدولة مولودة من الإرهاب والحرب الأهليّة كان دقيقًا للغاية:” غدا الجزائر ستكون أرض الخراب والموت التي لن تتمكن أي قوّة في العالم من استردادها خلال هذا القرن”، ما فهمه كامو ربما أفضل وقبل أقرانه، لم يكن العرب – على الرغم من أنه توقع في وقت مبكر من عام 1945 أنه لا يمكن أن يتوقع منهم تحمّل الظروف التّي حكموا فيها لفترة أطول بكثير – ولكن الثقافة الخاصة لسكّان الجزائر الأوروبيين والثمن الذي يجب دفعه إذا تمزّق إلى أشلاء(Lettre à un militant Algérien» (octobre 1955), dans Actuelles III)، لقد اعترف لميشيل غاليمارد قبل ساعات من الحادث الذي سيكلفه حياته، يوم 4 جانفي 1960:
مع جبهة التحرير الوطني، سأكون مندهشًا جدًا إذا كان بإمكانهم اتّخاذ القرار بأنفسهم، أؤمن بسياسة جبر الضّرر للجزائر، لا تكفير(..) لقد انتهى زمن الاستعمار، من العبث إدانة عدّة قرون من التوسّع الأوروبي، من العبث إدانة كريستوفر كولومبوس”. (Albert Camus et la question algérienne, Luigi Vasale, 2002, éditeur Aracne.)، لا بدّ من القول إنّ الموقف الذي كان حاملًا له كان في مجمله منسجمًا مع أعماله الأدبيّة المتعلقة بالجزائر و الجزائريين، الاستقلال في التبعيّة، كما ورد في مقدّمة”كرونولوجيا جزائريّة “الصّادرة عام 1958:
“بقيت صامتًا لمدّة عام وثمانيّة أشهر، لكن هذا لا يعني أنني توقفت عن اللعب، كنت وما زلت مع جزائر عادلة حيث يجب أن يعيش الشّعبان في سلام وشرعيّة، لقد قلت وأكرّر أنه يجب تحقيق العدالة للشعب الجزائري ومنحه نظامًا ديمقراطيًا كاملًا، حاولت أن أحدّد موقفي بوضوح، لكن يبدو لي أنّ الجزائر المكوّنة من شعوب فيدرالية مرتبطة بفرنسا أفضل من الجزائر المرتبطة بإمبراطوريّة إسلاميّة لا تزيد إلا البؤس والمعاناة للشعوب العربيّة والتّي ستقتلع طبيعتها، الوطن للفرنسيين”، في ظل هذه المفارقات والتناقضات”الكاموية” غير المفهومة (عند الكثير غير مبرّرة) يبقى ألبير كامو رغم كلّ هذا فيلسوفًا وناشطًا سياسيًا (قبل أن يعتزل وينأى بنفسه عن الصّراعات)وكاتبًا كبيرًا كان دائما يحب الجزائر وعاشقًا للبحر، المدافعون عنه مقتنعون مثل منتقديه بأنّه أُسيء فهمه بشكل من الأشكال، وأنّ كلامه حُمِّلَ أكثر من اللازم، يكمن الشّيطان بين السّطور وهذا ما جناه على نفسه، حسب رأي الباحثة والأكاديميّة الفرنسيّة ( Agnès sequel ):” لقد أثقل كاهل الرّجل بتوقعات على أرض الواقع وقضيّة وضعته أمام خيارات صعبة”، أمّا الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي في كتابه”النظام التحرّري، الحياة الفلسفيّة لألبير كامو” فلقد حاول تبرئة ألبير كامو من العديد من الاتهامات رغم ما لديه بعض التحفّظات حول مواقف هذا الأخير، بينما نشر عبد الحميد قرين رواية بعنوان: (Camus dans le narguilé, editions Après la lune, Paris, 2011) ومن خلالها حاول إعادة تقييم شخصيّة الكاتب وتحقيق نوع من الوساطة و المصالحة مع ما مثلته الجزائر للكاتب، الأرض المفقودة.
بعد أربعة وسبعين سنة وفي يوم 14 جانفي 2007 وأثناء تنصيبه، كرّر نيكولا ساركوزي ما سيكون فكرته المهيمنة:” لا يمكننا أن نأسف على أخطاء آبائنا”، في نهاية التوبة، هناك دائمًا”كراهيّة الذات”(كره الذات) وهذا هو الأسوأ لمستقبل الأمّة، في الحقيقة كان كامو يعلم حق العلم بأنّه كان مقيّدا وهو يواجه تيار التّاريخ الجارف.
اقرأ ايضًا: أثر الاستعمار على تدهور نظام التعليم الإسلامي
* عبد الغني بومعزة: عضو في اتحاد الكتاب الجزائريين.