- ميشيل أونفراي
- ترجمة: عبد الغني بومعزة*
..” صامتة ، قليلة الكلام ، خاضعة ، لطيفة ، كاثرين كامو لم تقل شيئًا سيئًا عن أي شخص ، لم تشكُ أبدًا. لم تضحك أبدًا أيضًا ، بل ابتسمت قليلاً في بعض الأحيان. مستقيلة وخاضعة، لم تشكُ أو تنتقد نظام الأشياء وحركة العالم ” . .
( ألبير كامو )
كن ابنا مخلصا :
أعطى كامو لقرّائه سنة 1945 مفتاحًا لفتح أبواب نفسيته” الرّجل الذّي كنت سأكونه لو لم أكن طفلاً كما كنت!”، في الواقع، هذه الطفولة بدون أب، ولكن مع ذكريات كبيرة موروثة عن هذا الأب، هذه الطفولة بلا أم بطريقة ما، لأنّها كانت صمّاء وشبه صامتة، لكنّها حاضرة في حصن الصّمت، هذه الطفولة مع جدّة ظالمة، عنيفة، قاسيّة ولئيمة، ولكن أيضا، هذه الطفولة المباركة بطريقة وثنيّة بالبحر والشّمس والشّواطئ والسّباحة والرّمل والماء والبحر المتوسّط والصّداقة والضّحك والبنات والطبيعة والضّوء والرّياضة والمسرح، هذه الطفولة المُنقذة بالمعرفة والثقافة، القراءة والكتب، ثمّ الكتابة والنشر، مع لويس جيرمان المعلم، ثمّ جان جرينيه أستاذ الفلسفة، هذه الطفولة تكشف سر التكوين العضوي لهذه الحساسيّة، لهذا المزاج اللاّسلطوي، الكلمة التّي تميّز كلّ من يرفض اتّباع بقدر ما يرشد، تكوّن النفس من الخبرات والتجارب، إنّها لم تولد كما هي ولكنّها تصبح كذلك من خلال كيمياء غريبة يمكننا من خلالها سرد قصّتها بعد الحقيقة، دون أن نتمكن من شرح سبب عدم اختيار هذا الطفل الذّي وجد ضالته في محاربة الظلم بعد أن عاشه في جسده، بدلاً من تكرار الصّدمة التّي كان من الممكن أن تدمّره هذا النفس، كامو خالٍ من الاستياء والعواطف الحزينة والكراهيّة والرّغبة في الانتقام والاستياء والعداء، لماذا، في حين أنّه أكثر من أي شخص آخر، كان بإمكانه أن يقضي حياته، مثل سارتر، في شنق الأغنياء والبرجوازيين والأثرياء بكلّ الأشكال، هل يختار كامو الحشويّة الأخلاقيّة والاستياء الأخلاقي لوالده ولطف والدته الهائل؟.. يختار الإخلاص للأب المتوّفى والأم الصّامتة، بعبارة أخرى يوفّر تفكيره وحياته في محاربة الظلم وممارسة الفكر جنبًا إلى جنب مع المتواضعين .
(…)
أم بدون كلام :
..” صامتة ، قليلة الكلام ، خاضعة ، لطيفة ، كاثرين كامو لم تقل شيئًا سيئًا عن أي شخص ، لم تشكُ أبدًا. لم تضحك أبدًا أيضًا ، بل ابتسمت قليلاً في بعض الأحيان. مستقيلة وخاضعة ، لم تشكُ أو تنتقد نظام الأشياء وحركة العالم .
عندما يتحدّث الشّخص قليلاً، أو لا يتحدّث بشكل سيّئ، عندما يبدو محبوسًا في صمت شبه مرضي، فإن كلّ عبارة واضحة تضيء مثل كتلة صلبة في اللّيل الوجودي، صامتة، قليلة الكلام، خاضعة، لطيفة، كاترين كامو لم تقل شيئًا سيئًا عن أيّ شخص، لم تشكو أبدًا، لم تضحك أبدًا أيضًا، بل ابتسمت قليلاً في بعض الأحيان، مستقيلة وخاضعة، لم تشكو أو تنتقد نظام الأشياء وحركة العالم، عاشت طوال حياتها في شقة صغيرة مفروشة بالضروريات، أثاث عملي لتعيش حياة بسيطة ومتواضعة (…) من هنا تكمن أهميّة جملة تقال في أحد أيّام الأحد بينما يعزف شقيق كامو على الكمان وهو يغنّي، كلّ ذلك لإرضاء الأسرة المجتمعة بحضور الجدّة بالطبع، كاترين كامو تستمع في زاويّة، دون أن تنبس ببنت شفة، وعمّة من بين الحضور تمدّها على ابنها، ثمّ تجيب وهي تنظر إليه بلطف وهشاشة ” نعم، إنّه جيّد، إنّه ذكي”، إعلان بسيط ومختصر عن الحب الذّي جعل الطفل سعيدًا، هو الذّي يحب أمّه بجنون، يكتشف حبّها بعد أن شكّك فيه لفترة طويلة، في الملاحظات التّمهيديّة للرّجل الأوّل، أبدى ألبير كامو رغبته في تبديل الفصول لمنح والدته صوتًا، لقد تصوَّر شروحًا للحقائق المرويّة، لكن بلغته الرّديئة، و”بمفرداتها المكوّنة من أربعمائة كلمة”، أهدى الابن هذا الكتاب لأمّه التّي لا تستطيع القراءة، سيجعل الموت من رواية الرّجل الأوّل كتابا أخيرا، كتب :
” intercesseur .. Vve Camus … A toi qui ne pourras jamais lire ce livre “
يتجلى فقر الفقراء أيضًا في فقر مفرداتهم، بحيث يكتشف الطفل أنّ الأشياء لها اسم عند الأغنياء، بينما الأمر مختلف عنده في البيت، في منزل برجوازي،نتحدّث عن الحجر الرّملي الملتهب من منطقة(الفوج)، أطقم أواني من منطقة (كويمبر)، في منزل فقير ، لا يوجد سوى أطباق الحساء، أو المزهريّة الموضوعة على المدفأة، أو إبريق الماء، في بعض الحالات، نجد أشياء عديمة الفائدة، أو الحلي، أو الأعمال الفنيّة وتمثيلاتها، مع الآخرين، لا شيء لا لزوم له، يعيد كامو إنتاج هذا الزّهد في لغته، وكتابته و أسلوبه، فعّال، بسيط، واضح، مباشر، متجاهل ما هو غير ضروري، الذّهاب إلى الضّروري، نثر مفيد لقول الأشياء الصّحيحة و الحقيقيّة، لذلك كانت الأم هي المحاور الصّامت للفيلسوف، الفقر، البؤس، الصّمت، الخضوع، هذا هو عالم السّعادة المنسيّة، أولئك الذّين لا يتوقف الفيلسوف عن إيجاد نفسه معهم، دون أن يتخلى عنها مرّة واحدة، اختيار والدته، هنا أو في أيّ مكان آخر، كما في ستوكهولم،يعني الوقوف بجانب الأشخاص المتواضعين الذين لا صوت لهم، حزب الشّعب ضدّ الأقوياء، مهما كانت المعارضة، في الظل الدّائم لوالدته، كان كامو صوتًا للناس بلا كلام، فعل كائنات بلا كلمات .
(…)
مرض السل :
اكتشف كامو إصابته بالسّل في ديسمبر 1930، وكان يبلغ من العمر سبع عشرة سنة، قبل التّشخيص، كانت هناك علامات تحذيريّة، التّعب، السّعال المتكرّر، طعم الدم في الفم، البلغم الدّموي الأوّل، وفقدان الوعي، كان لدى تلميذ الأمّة رعايّة صحيّة وأدويّة مجانيّة، أيضا، الحق في الاستشفاء، استرواح الصّدر، الأشعة السّينيّة والاستشارات، النفخ(عمل على التنفس، نفخ النيتروجين في غشاء الجنب)، تبدأ دورة وجوديّة ومعها نوع معيّن من الرّؤيّة للعالم، مأساويّة مقترنة بفلسفة مأساوية أيضًا، تتشكّل بعبثيّة مثل هذه الحياة القصيرة في كون أبدي(…) نعرف عواقب المرض في رحلة كامو الوجوديّة .
اضطرّ للتوقّف عن الدّراسة في المدرسة الثّانويّة، أيضا، الامتناع عن السّباحة ولعب كرة القدم، دخول المستشفى، اكتشاف صدمة الموت عند احد الجيران وهو على سرير المرض وكان مصابا بنفس علّة كامو، وكأنّه نبوءة لما سيحدث له يوما ما، الخضوع لسلسلة من الفحوصات، انتظار النتائج، تحمّل العلاج الثقيل والمرهق، التّشكيك في فعاليته، مع العلم انّه(اعتقاد سائد لدى كامو) محكوم عليه بالموت، وبالتالي حياة قصيرة، ترك والدته وشقة الأسرة، والعيش عند عمّه الجزار، الحرمان من مهنة أستاذ للفلسفة، ثمّ لاحقا رفض المكتب العسكري له عندما تقدّم للتجنيد في الجيش الفرنسي عام 1939، يقضي حياته القصيرة في مراقبة علامات الانتكاس، يعيش المرض في جسده بشكل يومي، يخشى الإغماء في أحضان امرأة، مع العلم أن إيروس وثاناتوس هما الخلف والمكان(…) وبنفس الطريقة التّي وجد نيتشه نفسه يتخلى عن حياته الأكاديميّة بسبب مرضه، ممّا أسعد قرّاءه، كان على كامو أن يبقى خارج المؤسّسة أيضًا، لم يتم تنسيقها من قبل (ENS/ L’École normale supérieure) التّي قال نيزان إنّها”ما يسمّى بالمدرسة العاديّة والمدعومة بأنّها متفوّقة”، ومن ثَمّ، فإن مرضه الرّئوي أبعده عن مرض الذكاء الذي كثيرًا ما يصيب النخب من هذه المدرسة التّي تعيد إنتاج النظام ودائمًا ما تشكّك في فكرة تخريبيّة حقًا، في هذا الدّير حيث نولّد الدّم الأزرق لجمهوريتنا، نعبد الفكرة النقيّة ونظهر تفانيًا حقيقيًا لدين المفهوم، نجا كامو من التّدريب الأيديولوجي للتكاثر الاجتماعي، فقد استطاع دون صعوبة الاعتماد على مصدر أقل فسادًا، العالم الغنّي لطفولته الفقيرة ..
(…)
أعراس تيبازة :
يُفتتح المجلد المعنون بأعراس تبازة وهي تحفة فنيّة، في أقل من ستّ صفحات مكتوبة بقلم الشّاعر، هذا النثر الشّعري والفلسفي يجعل المرء يفكر في ما يجب أن تكون عليه القصيدة العظيمة عن طبيعة إمبيدوكليس*، أو في أعمال بعض مؤلفي ما قبل سقراط المزعومين،لا نظريات، مفاهيم، بلاغة، حجج منطقيّة، استنتاجات شاقة وغير فعالة في نهايّة المطاف، لا شيء ممّا يشكّل الترسانة المعتادة للنوع الفلسفي الأبولوني(Apollonian)*المسيطر في الانضباط ويسود بالسّلطات الكاملة في المؤسّسة، لكنّها طريقة ديونيسوسيّة لمتابعة تصادمات الصّور، تجاور الأحاسيس، اضطراب الحس الغنائي ومقترحات إيجابيّة، كلّ ذلك بإتقان تام للإيقاعات والإيقاعات التّي تضيف الموسيقى إلى الواقع وتجبر أنفاس القارئ على اتّخاذ المسار الذّي يريده المؤلف(…)
رفضت الفلسفة السائدة بموجة وحشيّة كامو وعمله، ثمّ هذا النص، ولكن أيضًا مؤلفاته الأخرى، تمّ الافتراء على المفكّر، حتّى أن المؤسّسة أنكرت حقها في المطالبة بالانضباط، رهينة من قبل القبيلة المصمّمة على الدّفاع عن امتيازاتها، تصرّف سارتر وعائلته كروّاد حربة الطريقة البرجوازية في ممارسة الفلسفة الناتجة عن الجامعة الفرنسيّة في القرن التّاسع عشر، وكلهم اعترفوا بإعجابهم بالجامعة الألمانيّة ونموذجها، إن هجوم “الهومينيم”(hominem)*يجعل من كامو رجلًا هاويًا وغير قادر على قراءة النّصوص الفلسفيّة حقًا وفهمها، القراءات المستعملة تعفي المعلم من الاضطرار إلى إلقاء نظرة فاحصة، لم يتم النقاش، لا يجادل المرء، في الواقع، مع شخص يعتبره أدنى من نفسه، وغير كفء، وغير متعلم فلسفيًا، الخ …. منذ ذلك الحين، يمكن للفلسفة الابولونية أن تستمر في تسويق منتجاتها المختومة في تجاهل تام لإمكانيات الفلسفة الديونيسوسية التّي افتتحها نيتشه.
الرّجل الأول يحمل برنامجا وجوديا”أن نحاول أن نحيا أخيرًا ما يفكر فيه المرء في نفس الوقت الذي يحاول فيه المرء أن يفكّر بشكل صحيح في حياته ووقته”، ممكن لمقالات مونتين و أفكار باسكال و العلم المرح لنيتشه تغيير حياة القارئ، وكذلك ينطبق الأمر مع أعراس تيبازة، هذا هو السّبب في أننا لا نعيد قراءة هذا العمل أبدًا، ونعرف ما هو موجود، دون رعشة من السّعادة …
هوامش :
1/ أمبادوقليس: من 490 ق . م إلى 430 ق . م ، فيلسوف يوناني في فترة ما قبل سقراط،مواطن بمدينة آغريغنتوم، وهي مدينة يونانيّة بـصقليّة، فلسفة أمبادوقليس كانت المنشأ لنظريّة العناصر الأربعة،كما اقترح وجود قوى أطلق عليها الحب والبغض كسبب لتمازج العناصر، أو انفصالها عن بعضها، ونتيجة لتأثره بالفلسفة الفيثاغورثيّة، آمن أمبادوقليس بتناسخ الأرواح، ويُعتبر آخر فيلسوف إغريقي يدوّن أفكاره وفلسفته كأبيات شعريّة، وحادثة موته، حيث ألقى بنفسه في فوهة بركان، كانت مادة ثريّة للأساطير والكثير من المعالجات الأدبيّة .
2/ الفلسفة الابولونية هي مفاهيم فلسفية وأدبيّة ممثلة بازدواجيّة بين شخصيات أبولو(اله يوناني قديم) وديونيسيوس(اله الحصاد )، يُعزى انتشارها إلى حد كبير إلى كتاب فريدريك نيتشه”ولادة المأساة” .
3/ الهومينيم ( بالألمانية Argumentum ad hominem) (نهاجم بها الخصم مباشرة في شخصه من خلال معارضته لكلماته أو أفعاله.
أربع نصوص مختارة من كتاب الفيلسوف ميشيل اونفراي L’ordre libertaire
L’ordre libertaire. La vie philosophique d’Albert Camus de Michel Onfray (Flammarion, 600 pages, 22,50 euros)
- عبد الغني بومعزة (كاتب ومترجم من الجزائر)