محمد الراضي*
أتنَاول، في هذِه المقَالة، سؤَالاً ذا بُعدٍ فلسفيٍّ، إنْ لم يكنْ ذا أبعَادٍ فلسفيّة؛ ويتعلّق الأمرُ بـ’’ماذا يعني أنْ أفكّر بنفسِي؟‘‘، أو لنقلْ: ’’ما الذِي يعنِي للإنسانِ أن يكونَ متفكّرًا متأمّلا في نفسِه؟‘‘. من النّاحية الفلسفيّة، وعبر تاريخها الممتدّ، فإنّ كثيرًا منَ القضايَا المطرُوحة في الدوائر والحلقَات الفلسفيّة كانتْ، ومازالتْ، تسلمنا إلى إشكالِ الإنسَانِ المتفكّر في ذاتِه، وفيمَا حولَه، الإنسانِ الذِي ما لبثَ أن طرقَ أبوابًا معرفيّة شتّى ابتغاءَ حلّ بعض ما يعنّ لفكرِه من تساؤلاتٍ.
تحيلنَا بعضٌ من القضَايا الفلسفية التّاريخية، والمتعلّقة بأصل الإشكَال المطروحِ، علَى نماذِج من تفكّر الإنسان بنفسه؛ وقد اخترتُ، هنا، تحليلَ نماذجَ قريبة منها تقدّم الإشكالَ المذكورَ، والإجابةَ عنه دَاخل سيَاجٍ فلسفيّ إسلاميّ – عربي ينتمِي إلى العصْر الوسيط ذي المسحةٍ الأرسطوطاليسية البادِية؛ حيثُ نقرأ لجملةٍ منَ الفلاسفة الإسلاميين الذين تمثّلوا رأيَ المدرسَة المشائيّة الأرسطيّة – معَ أمشاجٍ من فلسفاتٍ أخرى -، وراحُوا يخصّونَ الإنسانَ بتحليلٍ فلسفيّ لشوقِه الذاتيّ إلى التفكّر، والتّدبر، والرغبة في إصابة الحقّ بمَا هو غايةُ اللذة الإنسانية.
ابتداءً، وقبل الخوض في الإشكال، يتعيّن طرقُ بعضٍ من الأجهزة المفاهيميّة التِي يكتنزها السؤال؛ وذلك قبل طرح الإشكال وفقَ إجاباتٍ عرفت بها تقاليد فلسفية معروفة في تاريخ الفكْر الفلسفيّ العربيّ الوسيط.
يحيلنَا ’’التفكير‘‘ على فعْلٍ من أفعالٍ العقلِ، فعلٍ مجرّد غير محسوسٍ ولا ملموسٍ لنَا نحن المتفكّرين، إذ تعرّف بعض المعاجم الفلسفيّة الفكرَ في أحدِ أقربِ التعريفَاتِ بأنّه «إعمالُ العقلِ في الأشياءِ للوصولِ إلى معرِفتِها»[1]، أو هو في معنَاه الفلسفيّ التقليديّ: «حركةُ النّفس في المعقُولاتِ»[2]. ويعرّفُ الفيلسُوف الكنديّ (ت. حوالي: 260 هـ/873م) النّفسَ، وفقَ الرؤية الأرسطيّة التقليديّة، بأنّها «تمامِيةُ جِرمٍ طَبيعيّ ذِي آلةٍ قَابلٍ للحِيَاةِ»، أو هِي: «استكمَالٌ أوّل لجِسمٍ طبيعيّ آليّ ذي حياةٍ بالقوّةِ»[3].
بجانبِ هذَا فإنّ المفكّر العربيّ جابر ابن حيّان (ت. حاولي: 200 هـ/815م) يقيمُ شبكةً دلالية، بمنزعٍ تعْريفيّ أرسْطي، لمجموعَة منْ المفاهيمِ المعرفيّة، ويبنيها بناءً تراتُبيًا من حيثُ القيمةُ الذاتية، ومن حيثُ التفريعاتُ الجزئيّة التي يحيلُ فيها كلّ مفهومٍ على آخرَ يكونُ فوقَه أو تحتَه؛ إذ يقسّم ابن حيّان العلُوم التِي تهمّ الإنسانَ إلى قسمين رئيسيين: ’’علومِ الشّرع والدين‘‘؛ و ’’علومِ العقل‘‘[4]، وكلّ واحِد منهما ينفصِل عن الآخَر بما يحصّله للإنسَان من منَافعَ في الدنيا، أو الآخرة[5]، حسبَ ما يرى جابر ابن حيّان.
يهمّنا من كلّ تلك العلومِ التي حصرهَا ابن حيّان حصرًا فلسفيّا العلمُ العقليّ الذي يحيلنَا على تفكّر الإنسَان فيما «غابَ عن الحواسّ وتجلى به العقل الجزئيّ من أحوالِ العلة الأولى، وأحوال نفسِه وأحوالِ العقلِ الكليّ، والنّفس الكلية والجزئية، فيما يتعجّل به الفضيلةَ في عالمِ الكونِ ويتوصّل به إلى عالَم البقاءِ»[6]. إنّ العلُومَ العقليّة، حسبَ ما يرى ابن حيّان، تثوِي بينها همّين للإنسانِ:
- همّ التفكّر والتّدبر العقليين؛
- وهمّ العاقبةِ التِي تعقبُ التفكيرَ منطقيّا وأخلاقيّا.
والتفكير السّليم، بلحاظِ هذين الأمرينِ، هو ذاك الذِي يجلبُ للإنسانِ عاقبة حمِيدةً في عالمِ الوجودِ أو الكونِ، والذِي سيفسدُ – لا محالةَ – وفق الرؤيةِ الأنطولوجيّة التّقليديّة، كمَا يستتبِعُ ذلك التفكيرُ عواقبَ محمُودةً للإنسان في عالمِ البقاء الأزليّ وفقَ رؤيَة ثيولوجيّة.
والنفسُ الإنسانية، حسب الفلاسِفة الإسلامِيينَ التّقليدينَ، تعدّ كمَالاً للجسدِ أو الجسم الذِي تلتبسُ به؛ إذ هي أساسُ تدبيره ورفعه من درجةٍ جسمانية خسيسة إلى مكانَةٍ ’’مجرّدة‘‘ رفيعة؛ لأنّها مبدأ كلّ فعلٍ إنسانيّ عقليّ أو حسيّ؛ وبناءً على هذَا قرّر الفَيلسوف ابن باجة (ت. 533 هـ/1139م) نظامًا خاصّا لتدبير المتوحّد، ويعني به ذلك النّظام الذِي يعيشُ فيه الفيلسوف «حياةَ التّوحد التي تميّزه منْ عامةِ النّاسِ، وتجعل منه منَ النّوابت (…) ذلك أنّهم يعيشونَ مستوى من التأمّل النّظري يفوق ما في حياةِ النّاس العادية»[7]. والفيلسوفَ، في هذه الرؤيَة التقليديّة، ينزلُ أرفعَ منازل الإنسانيّة؛ إذ هو أحقّ النّاس بمعنَى التّدبير عنْد ابن باجة والذي يعنِي، فِيما يعنيه، «ترتيبُ أفعالٍ نحو غاية مقصودةٍ»[8].
يقعُ الإنسانُ المتأمّل والمتفكّر، في رؤيةِ ابن باجَة، بينَ تدبيرٍ جسديّ، وروحانيّ، وعقليّ، وهيَ مستويَاتُ التّدبير التِي تُخرجُ الإنسانَ من كونِه مجرّدَ موجودٍ حقيقيّ ذِي بعدٍ ماديّ «هيولانيّ» إلى موجُودٍ ذي هَدفٍ وأفعَالٍ تمايزُ’’الجسمانيّة والحيوانية البَهيميّة‘‘ التِي تتلبّسُ بها جسمانيتُه[9].
والإنسانُ لهُ فعلانِ وتصرّفان، الأول منهما يأتِيه منْ طبيعَته المادّية والحيوانية، أمّا الثانِـي فيأتِيه من مفهومِ ’’الغَائيّة‘‘؛ حيثُ يبدَأُ التّفكير الإنسانيّ الذِي يعطِي «التّصرفَ البهيميّ طابعًا إنسانيًّا» عندما يتصرّف وفق غايةٍ، ومن هانا «يبرز تصرف ثالث يحمل معنى أخلاقيا»[10]. والحكيمُ، رغم أنه ينوءُ بثِقل الجسدِ والمادّة إلاّ أنّه يسمو نحو الشّرفِ والرفعَةِ بتدبيره الفكريّ والعقليّ الذي يستتبعُ النظر في العواقبِ والمآلاتِ؛ وعليه فالذي يفعلُ «الفِعلَ لأجل الرأيِ الصّوابِ، ولا يلتفتُ إلى النّفس البهيميّة ولا ما يحدُث فيها، فذلك الإنسان أخلقُ به أنْ يكونَ فِعله ذلك إلهيًّا [أي: مجردًا] من أنْ يكونَ إنسانيًّا»[11].
بعدَ هذَا يمكنُ أنْ يقالَ إنّ معنَى كونِ الإنسانِ متفَكّرًا في نفسِه، على الأقلّ وفق الرؤيةِ الفلسفيّة المذْكورة، هو أنْ يجعلَ الإنسانُ لعقلِه سبيلاً إلى أفعالِ نفسِه الفكريّة، والجسديّةِ؛ فالمتفكّر فيهمَا إنمَا يسعى إلى ’’الرأي الصوابِ والحقّ‘‘، وإلى مَا يُلحِقُ به، منْ حيثُ هو فردٌ، كمَالاً وسعادةً نفسيّة ومعرفيةً، ومن حيثُ هو كائنٌ مُحاطٌ بغيره ومتفاعل مع محيطه، راكنًا إلى غيره سعيا لتحقيق فائدةً لجنسه البشريّ؛ ومن ثمة فإن ما يتحصّل في تفكير الإنسان بنفسِه، وفق ما رأينا، سموّه في ذاتِه، وسموه بالنسبة لغيره.
وأيّا كانَ فإنّ مجملَ ما من ذلك هو أنْ يظهرَ من أفعال الإنسان العقليّة، والنفسية ما يعقبُه حسنٌ يرتضِيه في فِكري؛ حسنٌ لا تعرضُ له دناءةُ السّطحية حالَ التفكير في نفسِه وفيما يخصّها ويعقبها من مآل أفكارها، ومن ثمّ كانَ من أرفعَ معالم التّفكر في النّفسِ حسنُ ترويضِها على الفضائل العملية والعلمية –بلغةِ الأقدمينَ الفلسفية-.
- محمد الراضي، باحث في تاريخ الفكر الإسلامي الوسيط، وتاريخ علم الكلام.
[1] جميل صليبا، المعجم الفلسفي (بيروت: دار الكتاب اللبناني 1982م)، 2/154.
[2] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، 2/155.
[3] الكندِي، ’’الحدود والرّسوم‘‘، ضمن: المصطلح الفلسفي عند العربي، دراسة وتحقيق نصوص: عبد الأمير الأعسم (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1997م)، 190.
[4] جابر ابن حيّان، ’’رسالة الحدود‘‘، ضمن: المصطلح الفلسفي عند العربي، 167.
[5] جابر ابن حيّان، ’’رسالة الحدود‘‘، 170.
[6] جابر ابن حيّان، ’’رسالة الحدود‘‘، 171.
[7] جورج زيناتي، فلسفة ابن باجة وأثرها (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2019م)، 39.
[8] ابن باجة، تدبير المتوحد (تونس: سراس للنشر 1994م)، 5.
[9] جورج زيناتي، فلسفة ابن باجة وأثرها، 59.
[10] جورج زيناتي، فلسفة ابن باجة وأثرها، 60.
[11] ابن باجة، تدبير المتوحد، 18.