- إبراهيم عز الدين
مدعاة شحذ الهمة
من عجيب أمر الإنسان ومفارقاته أن من أفضل وسائل دعوته إلى شيءٍ ما = دعوته إلى تركه! أو العكس. فالإنسان مجبول على الاعتداد بنفسه وإثبات حضوره والتمرد على المأمور به إلى ما تهواه نفسه.
ادع إلى التمسك بالنوافل لا ينفلت منها شيء مهما صَغُر، وهوِّل من ترك الفروع بغض الطرف عن حالات الناس المختلفة وظروفهم وما يُطيقونه، لتحصد بعد ذلك تأزُّمًا أو ردَّة. لكن ادع إلى التسامح، وخاطبهم خطاب “العوام” بأن الله لا يوجب عليهم كذا وكذا، ويرخِّصُ لهم في كذا وكذا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وأن في الأمر سعة ما طال السلامةَ والحفاظ على أصول الدين وكليات الشريعة ومعاقل الإيمان، لتراهم يلينون لك وينقادون لأمر الله شيئًا فشيئًا.
ما زلت أرى في سعة الشرع داعيًا طويل الأمد يعمل عمله في صمت يشحذ الهمم ويجذب النفوس الصادقة إلى مراتب الإحسان وكمالاته قد تركوها يومًا لأنها ليست واجبة عليهم.
يقول ابن السبكي في حق بعض المفتين: “ومنهم طائفةٌ تصلَّبت في أمر دينها؛ فجزاها اللَّه تعالى خيرًا: تنكر المنكر وتشدَّد فيه، وتأخذ بالأغلظ، وتتوقَّى مظانّ التهم؛ غير أنها تبالغ، فلا تذكر لضعفة الإيمان من الأمراء والعوام إلَّا أغلظ المذاهب، فيؤدِّي ذلك إلى عدم انقيادهم وسرعة نفورهم. فمن حق هذه الطائفة الملاطفة، وتسهيلِ ما في تسهيله فائدة لمثل هؤلاء إلى الخير إذا كان الشرع قد جعلَ لتسهيله طريقًا؛ كما أنَّ من حقها التشديد فيما ترى أنَّ في تسهيله ما يؤدِّي إلى ارتكاب شيء من محرَّمات اللَّه تعالى”[1] انتهى كلام الفقيه.
الآن: أي “عامي” من “ضعفة الإيمان” يقرأ هذا ولا تتحرك همته إلى المعالي ومراتب الكمال؟! أينا يرضى بذاك الوصف مع صدق عزمه وسلامة إيمانه؟ المسألة هنا مسألة تفاضل في درجات النعيم الأبدي! المسألة التي لأجلها يؤخر أي شيء آخر!
دع الناس يلجون إلى ربهم من باب الحب والرجاء لا من باب الإكراه والإجبار. دع هواهم يختلط بمراتب الإحسان يجيئونها طواعيةً بلا تكلف، فذا كله أدعى للثبات والقرار. دع توصيفهم بالمراتب الدنيا يستفزهم إلى المراتب العليا.
كما أن مداخل تلك المراتب متنوع بعدد الأفهام والحالات النفسية والمجالات المعرفية بين كل إنسان وآخر، فكل الطرق تؤدي إلى الله، وبهذا يكون لكل ناظر مدخله الخاص إلى المحراب، ومن ثمَّ مكان ركين للدين في وجدانه.
مدعاة الإتقان
بعد كون السعة مدعاة لشحذ الهمم واستفزاز الكمالات، نرى ما يتصل بذلك من المفارقات الحميدة: كونُ التجريد والإطلاق مدعاة للإحكام والإتقان.
تأمل معي هذا الحديث المشهور، يقول صل الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير” (رواه مسلم). الآن لنجب عن السؤال البديهي دومًا: أي قوة؟ وإلى أي مدى؟، ولننظر حديثًا قدسيًا ينقله لنا صل الله عليه وسلم عن رب العزة: “وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه” (رواه البخاري). أيضًا على أي شكل وبأي عدد وإلى أي حد؟ … “الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة” (رواه البخاري ومسلم)، وقس على هذا الكثير.
من يتأمل تلك النصوص وغيرها، يعلم أن من أراد حيازة الأفضال المذكورة فيها لم يكن ليقدم الشك ومظنة المقاربة ويساوم على الزيادة في الإحكام والإتقان ليضمن الفضل يقينًا إن شاء الله. وفي هذا يقول صل الله عليه وسلم: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك” (رواه الترمذي)، وقالوا: “لا خير في فقه لا ورع معه”. وبذا يكون شرط حيازة فضل ما لا يعلمه إلا من علم من المؤمن صدق الطلب في تحصيله والعزم عليه وتحري مواطن الكمال في إتقانه، بحيث يأتي منه ما استطاع، زيادةً في الخير والدرجات، واستمراريةً في العمل والصلاح، إلى أجل يتساوى فيه العام واليوم بميزان العدل المطلق، ميزان من يعلم السر وأخفى.
وقريبًا من هذا المعنى نجد في كون القرآن يتفلت من صاحبه تفلت الإبل المعلقة كما قال صل الله عليه وسلم، وكونه ميسرًا للذكر مع ذلك: داعيًا لتعاهده، فزيادةً في الحسنات مع كل تلاوة، وزيادة في الخير والدرجات، واستمرارية في العمل والصلاح كما قلنا، وهذا من حسن ظني في الله.
لم تُترك هَمَلًا
نصل من هذا إلى استنتاج رحيم: نحن لم نُترك في الامتحان هَمَلًا بعد كل شيء! والدرجات إن لم تعمل لها أتتك رغمًا عنك بدعائك اللهَ بالعفو والغفران والرفعة، والصلاح إن تأته من باب أتيته من آخر، أدركت هذا أم لا، كما في الحديث: “عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير”، ولَأن تُكفر عن ذنوبك بالبلايا في الدار الدنيا خير لك من أن تكفر عنها يوم الحساب.
وقريبًا من هذا نرى توافق ثنائية الثواب والعقاب الخارجية مع توافق ثنائية الخوف والرجاء الداخلية. أنت إم لم تُصلِّ أول الوقت طمعًا في الثواب، صليت قبل خروجه خوفًا من العقاب، أي أنك دائمًا متردد بين طرفين، كل بحسب حالك، لا تكاد تزهد في داعي الأول حتى يرهبك زاجر الثاني، عساك تسلم في النهاية، فكما تعرف: لم تُترك هملًا! فتأمل كيف يكون وجود العقاب = رحمة!
“ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون”!
[1] معيد النعم ومبيد النقم