- ستيفن ل كارتر
- ترجمة: عبد الله الحربي
جاءت الأخبار المفرحة من عالم نشر الكتب الورقية تخبرنا عن تصاعد مبيعات هذه الكتب خلال عام 2020 لكن المفارقة تكمن في الأخبار القادمة من الأسواق حيث تعاني المكتبات نفسها انخفاض المبيعات![1]
في الحقيقة سأندب حظ المكتبات لو أقفلت لأننا سنفقد متعة التسكع فيها والعثور فجأة على عنوان جديد ومثير، ولكن ثبات مبيعات الكتب الورقية حتى ولو كان المشترون يبحثون عما هو معروف من العناوين أكثر مما هو جديد؛ يعد مؤشرًا مهمًا للافتراض بأننا لم نفقد الكثير.
لكن ما مدى أهمية ذلك؟ لنضع في الاعتبار هذه الدراسة المنشورة حديثا بقلم الأستاذة اللغوية ناعومي بارون والتي أحدثت ضجة في 2015 بعنوان (كلمات على الشاشة: مصير القراءة في عالم رقمي) وقد ناقشت فيه أن الانتقال من المقروء الورقي إلى المقروء الإلكتروني سبب أنواعًا مختلفة من الضرر، وآخر أوراقها البحثية تناقش كيف أن ثقافة القراءة الإلكترونية على الأجهزة الرقمية تؤثر على وظائف الوعي لتخرج منها باستنتاجات محبطة.
فعلى سبيل المثال تخبرنا بارون عن تجربة جرت في 2018 حيث زار مجموعة من الطلاب متحفاً شاهدوا فيه لوحات فنية وطُلب من بعضهم بكل بساطة أن يتمعنوا فيها بينما طلب من آخرين أن يصوروها وطلب من البعض الآخر تصويرها وعرضها عبر برنامج السناب شات، لاحقًا تبين أن أكثر مجموعة تذكرت تفاصيل اللوحات على أفضل وجه كانت المجموعة التي اكتفت بالتمعن والمشاهدة!
وتعلق بارون هنا قائلة: “إن مجرد القيام بالتقاط الصور يؤثر على نشاط الوعي المرتبط بالرؤية”
وفي الحقيقة أغلب هذه الورقة البحثية مخصص للفت النظر تجاه المشاكل التي تحدث إثر تحرير التفكير والذاكرة من مهامهما، وقد ثبت منذ وقت طويل أن استخدام الخرائط والاعتماد على خاصية تحديد المواقع (GPS) يجعل من الصعب تذكر المسار الذي استخدمه المرء.
ولكن ليس ذلك كل شيء؛ فالباحثة تحيل إلى دراسة حديثة تظهر أن مستخدمي برامج تحديد المواقع (GPS) يواجهون صعوبة كبيرة ليس فقط بتذكر المسار الذي اتخذوه وإنما بتذكر المعالم التي مروا بها!
ودراسة أخرى أوضحت أن عدم استخدام هذه البرامج في التنقل يؤدي لتحفيز كبير للنشاط العصبي في الدماغ حيث نحاول معرفة كيفية التنقل بين كل هذه المعالم المدنية غير المألوفة بينما باستخدام برامج تحديد المواقع يدخل الحصين (قرن آمون) في حالة سبات (وهو الجزء المسؤول في الدماغ عن معالجة الذاكرة الطويلة والقصيرة).
وكل ذلك ينقلنا للنصوص الورقية، فالباحثة تشيد بدراسة وفرضية الباحث نيكولاس كار في كتابه (السطحيون: ما يفعله الإنترنت بعقولنا: The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains) والذي يشرح الفكرة القائلة بأن الناس تبذل جهدا ذهنيا أقل أثناء تصفح الأجهزة الرقمية مقابل تصفح النصوص المطبوعة وهي فكرة نوقشت بكثرة لكنها تبدو مع مرور الوقت أكثر صحة، والخوف من أن ضياع الجهد الذهني سيؤدي لضياع ملكة التفكير بشكل عام. وتنقل لنا بارون أنه في 2019 بلغ معدل استخدام المراهقين الأمريكيين للأجهزة الذكية (مع استبعاد الوقت المخصص للبحث وأداء الواجبات من خلالها) 7 ساعات و 22 دقيقة يوميًا، 39٪ منها لتصفح مواقع التواصل بينما 2٪ للقراءة الإلكترونية. (وليرقد مران الديمقراطية بعد ذلك بسلام!)
ومع أن القراءة الورقية تحتل مكانا محوريا في أدبيات القراءة وتشيع الفكرة القائلة بكونها تؤدي لاستيعاب أكبر للمقروء مقارنة بالقراءة الرقمية إلا أن العديد من الباحثين يتساءلون حول كون هذه الفكرة مبنية على نتائج مصطنعة، حيث أجريت دراسات على الناس الذين نشأوا على عادة القراءة الورقية ثم تحولوا للقراءة الرقمية، وبناء على ذلك يفترض أن حلول القراءة الرقمية محل الورقية سيزيد من معدلات استيعابها.
لكن أبحاثا حديثة تفترض أن العكس هو ما يحدث فمع مرور الوقت واكتساب الصغار المزيد من الخبرة في القراءة الرقمية تتزايد بالنسبة لهم أفضلية القراءة الورقية، وفي حال اثبتت هذه الأبحاث استنتاجاتها فيجب علينا الإقرار بأن تفضيل القراءة الورقية على الرقمية يعتمد على ما هو أكثر من مجرد الاعتياد.
ويفترض بحث بارون أن الفجوة بين نوعي القراءة ولا شك يتسع؛ وتعلل ذلك ولو بشكل جزئي بأن الإحساس بثقل الكتاب وملمسه بين اليدين هو ما يساهم بتعزيز الذاكرة وتضيف أن النص المطبوع يُسهل على الحصين (قرن آمون) بناء خريطة للوعي وصورة للمادة المقروءة، وللتدليل حاول دفع القراء لتذكر شيء ما من كتاب مطبوع فهناك احتمال جيد بأن يتذكروه وستجد كمثال أنهم يتذكرون موقعه سواءً في أسفل أم في أعلى الصفحة، ولكن مع النص الرقمي خصوصا مع عادة التصفح فلا يوجد شيء يشكل خارطة وصورة للوعي.
تكمل الباحثة نقاشها قائلة إن هناك اختلافًا آخر بين “استخدام الكتاب” و”تصفح الكتاب” فلو أردنا البحث عن صفحة ما في كتاب ورقي فنحن نقلب الأوراق ومن ثَمّ تزيد فرصة وقوعنا على شيء جديد وبنفس الوقت يساعدنا ذلك على ترسيخ السياق المحيط بقراءتنا.
لكن بالمقابل تجعلنا أيقونات البحث المرافقة للنصوص الرقمية نستخدم الكتب الرقمية أكثر مما نقرأها وبالتالي يتحول بحثنا إلى ذاتي أكثر مما هو موضوعي فنجد ما نبحث عنه فقط بدلًا من أن يقدمه لنا العالم، والبيانات تقول إنّ القارئ الذاتي أقل قدرة على التأمل والنقد.
عليه لو كنا نأمل بمستقبل ديمقراطي يحمل حوارات وأفكار جادة بدلًا من إلقاء اللوم على بعضنا فسنحتاج لأفراد يتمتعون بملكة التأمل والنقد ولتحقيق ذلك نحتاج كتبا ورقية ملموسة وجادة وهذا سبب كافٍ للاحتفال بكون مبيعات الكتب الورقية في ازدياد ولأن نتمنى مستقبلًا لا نفقد فيه هذه النوعية من الكتب.
[1] (يشير كاتب المقال إلى أوقات الحظر خلال الجائحة في 2020 وكثرة الطلب عن بعد)