- طريف بن عيد السليطي
- تحرير: محمد بن داود الفضيلي
ستقرأ هذه الأسطر من شاشة الجوال أو اللابتوب أو الكمبيوتر المكتبي، هدف المقال أن يتسلل إلى وعيك الظاهر أو الباطن (فكلاهما وعيٌ بالنهاية) وقد تكون سيداً للأعمال والأموال، أو موظفًا مرموقًا، أو رجلًا متوسط الحال، أو ربة منزل، أو مراهقًا يشق طريقه في مقتبل حياته، أو مشردًا على ناصية الشارع. كل هذا لا يهم الآن. ستقرأ ما أمامك لأنك تتابع هذا الموقع، والذي عثرت عليه في تاريخٍ غامض لا تتذكره جيدًا كمعظم يومياتك المنسية، والتي لو سألتك عنها فلن تتذكر إلا أقل القليل إذ ذهب معظمها أدراج الرياح؛ فنحن جميعاُ أبناء هذا الزمن الذي يتفنن في إبعادنا عن أنفسنا.
تعود من عملك، أو مشوارك، تفتح جوالك لتقرأ بعض الرسائل الضرورية، لكن تعثر على دعايات عجيبة عن بضائع مجهولة المصدر أو مربعات تقفز فجأة لشخص يرتدي الزي الخليجي ويقول أنه حقق الملايين، تُقفل المربع المعتوه، تفتح يوميات صديقك في أحد التطبيقات، وفي طريقك إلى هناك تحاصرك أخبار لا تهمك: فلانة (نجمة المسلسل الفلاني) أنجبت توأماً، حريق في قرية بمجاهيل إفريقيا، لاعب البيسبول الشهير مات دهساً بسبب سائق مخمور، ببغاء يرث من صاحبه ملايين الدولارات، لكن مهلاً.. لا تحاول التحقق من هذه العناوين فهي من صنع خيالي، لكن في الواقع خيالٌ أعجب من الخيال نفسه كما قال غسان كنفاني بحق!.
تحاول إيجاد (نقطة ارتكاز) وسط هذه الفوضى العارمة، وتسأل نفسك: منذ متى وأنت مُحاصَر بهذه الترَّهات؟ يعود ذلك لأزمنة مختلفة بحسب كل امرئ منا، هناك من عاش وسط قريته الوديعة التي يعرف أفرادها بعضهم فردًا فردًا، هناك من نشأ بصورة عادية – ككاتب هذه السطور – وترعرع في بيئة شعبية مألوفة للجميع، وهناك من عاش برفاهية وانكسرت شوكته ووجد نفسه في الحضيض، وهناك من شهد العز بعد طول انتظار. المهم أن (نقطة الارتكاز) المزعومة لا تنطوي على هذه الفوضى المُربِكة.
تتضمن نقطة الارتكاز هويتك الحقيقية، التي العودة إليها لأسباب عشوائية هي الأخرى تتناسب مع عشوائية العالم الذي تعيشه، فالهوية – كما قال محمد الجابري بحذق – تتحدد بردة الفعل وليس الفعل وحده[1]، تكتشف أن ما يجعلك تنسى باستمرار وأن السبب خلف غياب حقيقتك الذاتية والمرتبطة بهويتك الشخصية والاجتماعية ليس إلا وباءً متعلقاً بعصرٍ بأكمله، فالهدف من هذا (التذويب الذاتي) هو الاستيلاء على انتباهك لأهداف ربحية مادية ودعائية، وأهداف أخرى، ربما أيديولوجية[2] أو سياسية، ليس الغرض منها تعزيز وجودك الذاتي أو كرامتك أو أيًّا من طموحاتك وما تمثله من قيمة، فأنت بنظر هؤلاء مجرد جسر يقود لما بعده.
يقول كارل يونج ” إن مقاومة القبيلة المنظمة لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا إذا جاءت من إنسان منظم أيضاً في فرديته”[3]، على أن القبيلة التي يقصدها يونج – وهذا ما يتضح من سياق كتاباته ونهجه الفكري العام-ليست القبيلة بمعناها التقليدي، وإنما المؤسسة، والشركة، والكيان الأضخم منك والساعي لابتلاعك، وإشعارك بحقيقة أنك أصغر منه على الدوام، وأن الحبل السري الذي يربط بينك وبينه هو ما ينبغي عليك حفظه، وإلا فمصيرُك المحتوم هو الهلاك.
على أن هذه النزعة ” الجنينية ” وفق اصطلاح عبد الوهاب المسيري، المنطلقة من الفرد تجاه ما هو أكبر منه، ليست نزعة مخصوصة بجهة معينة أو مؤسسة أو حكومة بحد ذاتها بقدر ما تمثل الروحَ لعصرٍ بكامله يُعاني فيه الأفراد من هيمنة شموليات كبرى، قد تكون إعلامية أو اقتصادية أو سياسية، فيستسلم كثيرٌ منهم لهذا الزخم الشمولي بصور مُختلفة، كاليأس من العالم، أو اللوذ بمُسكنات (مادية أو معنوية) مُؤقتة، أو الاعتقاد بالخرافات، أو الإشاعات، أو الموضات والصرعات. هو نزوعٌ مؤقت، يسقط فيه الفرد من حضن لآخر أملاً بالخلاص، فإذا به يُرمى على قارعة الطريق من جديد، ليكتشف – بعد فوات الأوان – أن معركته في تحرير الذات قد أجلها لردْح طويل، ودفع الثمن غاليًا بعدم خوضها منذ البداية!
وهي معركة لا يُمكن حصرها ضمن خندق مُعين، وتختلف من شخص لآخر، وحين أقول شخص فأنا أقصد (عالماً بحد ذاته) فكل إنسان هو مدار أفلاك متعددة من العوالم، وهذا الشخص محكوم عليه أن يلتزم بمكابدة شقائه الذاتي والتصدي للعديد من الحملات الشرسة على كيانه، وسأذكر منها ما هو آت:
الدعاية الرقمية: وهي داء هذا الزمن وتتجسد بعشوائية التطبيقات وهُلامية العلاقات الناشئة عنها وطُغيان ما هو دعائي على ما هو أصيل وحقيقي، فيتحول الأفراد إلى أوعية حاملة لهذا الهُلام الرقمي، وتصبح الجماعات حواضن سلبية ومُتلقية لهذه الدعاية.
النزعة المادية: وهي نزعة شرسة ومُفككة للأفراد والجماعات ولا تُؤمن بغير الكسب ولا تهتم أكان كسبًا مشروع أم غير مشروع، ولا تكترث فيما إذا كان هذا الكسب يضر المجتمع أم ينفعه، وتنشط على أرض الواقع مثلما تنشط في العالم الرقمي، هدفها الربح وحده، ولا تهم النتائج!
الصراعات الإقليمية: حيث لا تنتهي ولا تقف عند قُطرٍ من العالم دون غيره، فكانت الأجيال السابقة تتندر من صراعات العالم الثالث وتتطلع نحو العالم الأولى مثالاً يُحتذى، ولكن امتدت الأزمات لتشمل العالم الصناعي والمتطور كما يُسمونه، وابتلعت العالم كله فلا نجد مكاناً دون أزماته الخاصة والمُعقدة، وتنشط أخبارها وصورها وتحتشد في جوال كل شخص وتطبع مزاجه ويومه بطابع السلبية.
الدعوات الانفصالية: وهذه ليست سياسية فقط لكن تبني كثيرًا من أطروحاتها حول الهويات التقسيمية، كالهوية المناطقية، والهوية الدينية، والحزب، والجنس، وغيرها من الهويات. بعض المفكرين المدافعين عن هذه الهويات يملكون عُمقاً كافياً للدفاع عنها، لكن كثيراً من تابعيهم والمُتحمسين لهم والمنتشرين كالنمل في كل مكان ليسوا سوى معاول حادة تشطر ما أمامها ولا تميز الغث من السمين. ويقع في براثن هؤلاء الكثير من اليائسين، والقانطين، ممن لا يجدون موطئ قدم في هذا العالم المُضطرب، فيندفعون خلف هذه الشعارات غافلين عن كونهم مجرد وقود يحترق كي يحيا غيرهم.
الحالة الانهزامية: وهي نتاج السعي الخائر نحو عالم خالٍ من الأخطاء، أو رفع التوقعات دونما مبررات مُقنعة، أو توهم ما لا يُمكن وجوده على حساب ما يُمكن تحقيقه، ثم يأتي من يستغل هذه الثغرات في السيكولوجية[4] الإنسانية مُحاولًا تعميق الأزمة والتربح منها، كعرض خدمات أو مُنتجات أو باقات استهلاكية، وإيهام المُستهلك أنها – لوحدها – كفيلة بإصلاح حياته من جديد، وبالطبع لن تقول له: أنت المسؤول، أو أنت المُخطئ، أو أنت الواهم، فبهذه الأقوال الصريحة لن تستطيع السيطرة عليه!
[1] محمد عابد الجابري، عبر حكمة
[2] كارل يونج. التنقيب في أغوار النفس. ترجمة نهاد خياطة. المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع. ط1 ص 59.
[3] مذهب فكري أو طريقة تفكير معينة
[4] مصطلح معرب يعبر وُضع للتعبير عن حالات نفس الإنسان