- د. عبد الرحمن طعمة
لدى كلّ شعب من شعوب الإنسانية طباعٌ جمعية مُشتركة بين غالبية أفراده، وهو ما يجعل مختلف الأمم أنواعًا سيكولوجية حقيقية. هذه الطباع تَخلِقُ عند هذه الشعوب آراءً متشابهة حول بعض الموضوعات الأساسية. ومن صفات هذه الطباع أنها راسخة ومتجذّرة، ولذلك فهي التي تتحكّم في قَدَر الشعوب. كذلك فإنّ بعض عيوب الطّبع، التي تكون غير مُحتَمَلَة
عند الأفراد، تكتسبُ صفة الفضيلة عندما تكون جمعية، مثل صفة الكبرياء، وهي صفة مختلفة تمامًا عن الغرور، الذي يكون لمجرد الحاجة إلى الشهرة بين الناس، مُستَلزِمًا حالة الشهود، بينما الكبرياء لا يحتاج إلى أيّ شاهد.
ومن هذا المُنطلق، رأى بعض المُحلّلين، ومنهم “جوستاف لوبون”، أنّ الطبع وليس العقل هو الذي يَخلقُ التمايز بين الشعوب، ويؤسّس مشاعر المودة أو العداوة بينها؛ فالعقل واحدٌ لدى الجميع، والناس يختلفون -وفقًا لهذه الرؤية- بسبب تناقضات طبعهم أكثر من اختلافهم بسبب تناقضات مصالحهم أو عقولهم[1].
لقد كان فيلسوف التجارب اللاشعورية الفرنسيّ “هنري بيرجسون” Bergson (1859-1941م) مُحِقًّا- بصورة جزئية- عندما فصل الغريزة عن العقل، لأنّ طائفة من الغرائز ليست سوى عادات عقلية أو عاطفية متراكمة بالوراثة، ولكن هناك الكثير من الظواهر السلوكية المُعقّدة لدى مختلف الكائنات، التي يبدو من خلال قوانين التطوّر أنها منفصلة تمامًا عن العقل؛ وتلك مسألة من الصعب رصدها وتحليلها، لأنّ قوانين المنطق البيولوجيّ تظل غير مفهومة بصورة كلّية، لكننا ينبغي أنْ ندرس آثار هذا المنطق، لكي- وفقًا لجوستاف لوبون- نُبرهن على أنّ هذه القوانين ليست مشروطة مُطلقًا بقوة عمياء، هي التي نُطلق عليها الغريزة[2].
يُوضّحُ “لوبون” بعض الإشارات المُهمة التي تتحكّم في تطوّر المعتقدات خصوصًا، أبرزها وأهمّها[3]:
- إذا وُجدت عدة معتقدات قابلة للتوافق معًا فإنها تسعى للاندماج، أو على الأقل للتطابق. وهذا ما حصل للأرباب والمعتقدات في العالَم الوثنيّ.
- إذا كانت المعتقدات شديدة الاختلاف، فإنّ الأقوى من بينها -وهو ما يعني في أغلب الأحيان أكثرها بساطة- يسعى إلى إلغاء الأخرى. ولهذا السبب فقد هدَت الدعوة الإسلامية، ليس فقط القبائل البدائية في أفريقيا، بل كذلك بعض الشعوب الأكثر تحضّرًا في الهند.
- الاعتقاد المُنتَصِر يئول أمرُه في نهاية المطاف -وربما دائمًا- إلى الانقسام إلى طوائفَ لا تحتفظ أيّ منها إلا بالعناصر الأساسية للاعتقاد الأمّ.
ومن الناحية التاريخية، فقد يشوب مصطلح (التطوّر الثقافيّ) دلالات سيئة من الجهة الأنثروبولوجية، لأنه مصطلح مُستعمل في وصف المخططات الأحادية للتطوّر الاجتماعيّ والثقافيّ، داعمًا إضفاء الطابع البيولوجيّ المحض على نظرية الثقافة، لكنّ المصطلح عندما يُفهم في سياق مناسب سيكون أكثر ملاءمة؛ فعلى سبيل المثال، يحاجج “دورهام” Durham بأنّ الأنساق التصوّرية التي نُطلق عليها (ثقافات) تتطوّر بالمعنى نفسه لـــ (الأصل الذي يَطرأ عليه تغيّر) descent with modification، وتلك حقيقة لا يُمكن إغفالها[4].
كما يرى “دورهام” أنّ (التطوّر الثقافيّ) يُشير إلى افتراض أنّ الأنساق الثقافية كافتها ترتبط، من خلال النَّسَب أو الأصل، بثقافة موروثة مُشتركة ancestral. والمقصود بالأنساق الثقافية الأنساق التصوّرية المُشتركة على نطاق واسع لدى الجماعات البشرية- مثل إطار المعتقدات، والرموز التعبيرية، والقِيم التي من خلالها يَعرف الأفراد عالَمَهم، ويُحددونه، ويُعبّرون عن مشاعرهم، ويصوغون أحكامهم…إلخ- وهنا يقتصر “دورهايم” في تحديد معنى الثقافة
على الظواهر التصوّرية الفكرية، متأثرًا بجدالات ومناقشات مُنظِّري الثقافة المُحدَثين؛ بمعنى أنّ الثقافة تشمل القيم والأفكار والمُعتقدات، التي توجّه السلوك الإنسانيّ وتُحدّده، ولكن ليس السلوك في حدّ ذاته[5].
النظرية التطوّرية في الثقافة Evolutionary Cultural Theory (ECT) تُمثّل- إذن- مجموعة من المناقشات والحجج، التي تسعى إلى تفسير الأصل الذي يطرأ عليه تغيّر وتحوّل فيما يتعلّق بالثقافات الإنسانية؛ فهي نظرية حول تطوّر النَّسل الثقافي cultural phylogeny، تسعى للإجابة عن تساؤلات، من قبيل: ما هي الآليات الغالبة للتغيّر الثقافيّ؟ وكيف تبدأ الثقافة الجديدة؟ وما هو نمط التشعّب التاريخيّ المُعيّن، أو المُخطط التشعيبيّ للثقافات الإنسانية؟ ولماذا ظهرت ثقافات كثيرة على مدى مسار التطوّر الإنسانيّ؟ ومن خلال هذه التساؤلات وغيرها من الأطروحات تتناول نظرية الثقافة التطوّرية بُعدًا للتحليل الثقافيّ يتكامل- بصورة ما- مع أشكال أخرى للبحث الأنثروبولوجيّ.
على سبيل المثال، تتكامل النظرية التطوّرية الثقافية مع بحوث الانثروبولوجيا الرمزية أو التأويلية، التي تُقارب الثقافة بوصفها نصوصًا خاضعة للتأويل (لمن كُتبت الثقافة؟ وكيف خَضعت للمراجعة والتنقيح عن طريق الاقتباس والانتشار؟). كما تتكامل مع بحوث الاقتصاد السياسيّ، التي تعدّ الثقافاتِ حقائبَ أدواتٍ تصوّريةً هدفُها تحقيق مصلحة ومنفعة سياسية.
ومن خلال كلّ ذلك، تتبنّى هذه النظرية مسألة التراكمية الثقافية، وهي فكرة دعمتها وشرحتها نظرية الشّعاب المرجانية coral reefs، التي صاغها الأنثروبولوجيّ “ألفريد كروبير” Kroeber؛ إذ قرّر أنّ طبيعة الثقافة يُحدّها بقوة ماضيها التراكميّ، ولذلك فإنّ الأسلوب التاريخيّ هو الأنسب- كما يرى- لفهم الثقافة والأنماط الثقافية، مُؤكدًا عنصر التغيّر عبر الزمن، آخذًا
في الحسبان الروافد (الأسلاف) للأنماط الثقافية الجديدة، وأهمية فهم الظواهر الثقافية في إطار تشكيلاتها الخاصة، إلى آخر ما قدّم وحلّل ومَثّل، لبيان تلك المقاربة الفكرية المُهمة في نظرية التطوّر الثقافيّ[6].
المراجع والإحالات:
– جوستاف لوبون: الآراء والمعتقدات، نشوؤها وتطوّرها، ترجمة نبيل أبو صعب،
دار الفرقد، دمشق، طــ 2، 2016.
– سيد فارس: مصير الثقافة والتراث الثقافي في عصر الحداثة السائلة، دار رؤية للنشر، القاهرة، طــ 1، 2021.
– Moore, J.D (2009). Visions of Cultures: An Introduction to Anthropological Theories and Theorists, Lanham, AltaMira Press.
[1] للمزيد من التفاصيل والتحليلات، انظر، جوستاف لوبون: الآراء والمعتقدات، نشوؤها وتطوّرها، ترجمة نبيل أبو صعب، دار الفرقد، دمشق، طــ 2، 2016، ص ص 79-80.
[2] الآراء والمعتقدات، المرجع نفسه، ص ص 105-106.
[3] للمزيد من التفاصيل الخاصة بهذه الملامح الأساسية لتطوّر المعتقدات، انظر، الآراء والمعتقدات، المرجع نفسه، ص 300 وما بعدها. وانظر كذلك الكتاب التاسع من المرجع نفسه (أبحاث تجريبية حول تشكّل المعتقدات وحول الظواهر اللاواعية التي تُنتجها)، ص 313 وما بعدها.
[4] سيد فارس: مصير الثقافة والتراث الثقافي في عصر الحداثة السائلة، دار رؤية للنشر، القاهرة، طــ 1، 2021، ص 102.
[5] مصير الثقافة، المرجع نفسه، ص 105. والنّسق هو المصطلح الأقرب لتوضيح مُجمل الآراء والأفكار الخاصة بنظرية الذهن وفلسفة العلوم العصبية من جهة أخرى، خصوصًا ما يرتبط منها بعلوم اللسان والتطوّر الثقافيّ. والنّسق يختص- كذلك- بالجنس البشريّ دون غيره. والنسَق من كلّ شيءٍ- إجمالًا- هو ما كان على نظام واحد عام في الأشياء؛ فتلك العمومية قيدٌ مُهمّ لكي نقول بوجود النسق.
[6] للمزيد من التحليل والأمثلة، انظر، مصير الثقافة، المرجع نفسه، ص 107. وانظر أيضًا:
Moore, J.D (2009). Visions of Cultures: An Introduction to Anthropological Theories and Theorists, Lanham, AltaMira Press, Pp 71-73.