- روبرت جيه. ماركس
- ترجمة: مصطفى هندي
- تحرير: عبد الرحمن الجندل
يعتمد العلم على وفرة من القوانين في الفيزياء والكيمياء والرياضيات ومجالات أخرى، وبحسب ما أفهمه، فإن المذهب المادي الذي يوظف المنتج العلمي يقوم على فرضية مفادها: أن العلم فسّر أو سيفسر كل شيء.
إن الاستنتاج النهائي لهذا المذهب -المعروف أيضًا باسم العلموية– قد طُرح بشكل جيد في سؤال ألقاه الكيميائي: بيتر أتكينز، على الفيلسوف: ويليام لين كريج، في مناظرة بينهما إذ قال:
“هل تنكر أن العلم قادرٌ على تفسير كل شيء؟”
إن افتراض العلماء بأن العلم يمكن أن يثبت أو يفسر كل شيء افتراضٌ يدحض نفسه؛ حيث يُظهر التحليل الدقيق أن هناك عددًا لا حصر له من الأشياء الصحيحة التي لا يمكننا إثباتها علميًا ولن نتمكن من ذلك أبدًا، حتى ستيفن هوكينج الذي لم يتمكن إلا من رؤية قشور هذه الحقيقة يقول:
“حتى الآن، افترضَ معظم الناس ضمنيًا أن هناك نظرية نهائية، سنكتشفها في النهاية”، إن نظرية كل شيء -كما يطلق عليها غالبًا- ستربط جميع الجوانب الفيزيائية للكون معًا تحت مظلة نظرية شاملة واحدة، ولا زال البعض يبحث عنها؛ لكن هوكينج تخلّى عن البحث، وفي دفاعه عن تغيير رأيه، لجأ هوكينج إلى كورت جودل (1906-1978) إذ يقول:
“سيصاب بعض الناس بخيبة أمل كبيرة إذا لم تكن هناك نظرية نهائية يمكن صياغتها وفق عدد محدود من المبادئ، لقد كنت أنتمي إلى هذا المعسكر، لكنني غيرت رأيي، ويسعدني الآن أن بحثنا عن فهم وتفسير الكون لن ينتهي أبدًا، وأننا سنواجه دائمًا تحدي الاكتشافات الجديدة؛ لأننا بدون اكتشافات، سنصل إلى حالة من الركود! وبذا تكون “مبرهنة جودل” قد ضمنت وظيفة دائمة لعلماء الرياضيات”.[1]
عند الحديث عن التطور يصعب تجاوز ذكر تشارلز داروين، وكذلك في الحديث عن الرياضيات يصعب تجاوز ذكر كورت جودل، وإن استدعاء هوكينج لمبرهنة عدم الاكتمال -الأولى- لجودل، له أثر عميق؛ فقد كان هوكينج محقًا في قوله: إنه من المحتمل أن يكون هناك المزيد من الاكتشافات التي لم تُكتشف بعدُ في الفيزياء؛ لكن جودل أظهر أيضًا أن هناك حقائق غير قابلةٍ للإثبات؛ بل -وبشكل أكثر دراماتيكية-: هناك عدد لا حصر له من الحقائق التي ستظل غير قابلة للإثبات إلى الأبد، وستمكث بعيدًا عن متناول البرهان العلمي.
إليك نتيجة “مبرهنة عدم الاكتمال” لجودل التي تدعم هذه الحقيقة:
بداخل أي نسق/مجموعة محدودة من الافتراضات (المُسَلَّمات)، ستظل هناك قضايا (مبرهنات) غير قابلة للإثبات.[2]
يبدو الأمر وكأنه تناقض لفظي، لكن هذه الحقائق في مبرهنة جودل لا يمكن إثباتها [من داخل النسق]، فيمكن النظر إلى النسق، على أنه فقاعة ضخمة مليئة بالمبرهنات والنظريات التي يمكن إثباتها؛ لكن هناك أيضًا قضايا غير قابلة للإثبات داخل هذا النسق، ويمكن البرهنة عليها فقط من خارجه.
يتمثل أحد الحلول في اعتماد مسلمة غير قابلة للإثبات داخل نسق جودل، وإضافتها إلى قائمة البديهيات كحقيقة مفترضة، أي: إذا لم يمكن بإمكاننا إثباتها، فلنفترض صحتها؛ فإذا كان النسق مكونًا من مليار بديهية، فإن قائمة البديهيات المكونة له، صارت الآن مليارًا وواحدا، وستولّد هذه القائمة الجديدة نسقا أكبر؛ والذي بدوره سيستوعب الأصغر، حيث يحتوي النسق الأكبر على مسلمة أخرى لا يمكن إثباتها من داخله؛ لذا -كما في السابق- سنضيف هذه المسلمة الجديدة -الغير القابلة للإثبات- إلى مجموعة المسلمات فيكون لدينا الآن: مليار واثنان من المسلمات، وهكذا سيستمر النسق في التوسع مع كل بديهية مفترضة جديدة؛ ولكنه سيحتوي دائمًا على قضايا جديدة “غير قابلة للإثبات”.
يحتوي النسق الأول على قضايا لا يمكن إثباتها في كوننا؛ وعند الحديث عن نظرية جودل في الفيزياء، كان هوكينغ يشير فقط إلى أول نسق سيتولد عن قوانين كوننا، فإن التسليم بوجود شيء ما صحيح وغير قابل للإثبات في نفس الوقت أمر صعب؛ لكن هناك العديد من الأمثلة على هذه المبرهنة:
ففي الرياضيات تقول “حدسية جولدباخ”: بأن كل رقم زوجي هو مجموع اثنين من الأعداد الأولية الصحيحة بالتأكيد؛ ولكنها تستعصي على أي إثبات صارم، ورغم توارد الكثير من الأدلة المتفرقة، فلا يوجد برهان متكامل على “حدسية جولدباخ”، على الرغم من تتابع الرياضيين على مر التاريخ محاولين بناء برهان رياضي لها، وهذا يشبه مسائل الرياضيات الأخرى التي لا تزال معلقة، بما في ذلك “حدس كولاتز”، و”فرضية ريمان”، و”مسألة التوائم الأوّلية”.
لكن، ماذا عن العلم؟
توفر نظرية الأوتار الفائقة، اختبارًا لنظرية كل شيء؛ لكن لا يوجد حتى الآن دليل تجريبي على أن النظرية صحيحة! أخبرني أحد علماء الفيزياء ذات مرة في حديثه عن نظرية الأوتار فقال بأنها: “جميلة جدًا من الناحية الرياضية”، وإذا لم نتمكن من إثبات صحتها تجريبيا، فيجب أن تكون كذلك؛ مما يعني أنه إذا كانت نظرية الأوتار صحيحة، فقد تكون غير قابلة للإثبات؛ والشيء نفسه ينطبق على الأكوان المتوازية.
وباستحضار ما سبق من جدل حول القابلية للإثبات، نجد مفارقة متحيزة انتقائية؛ فهناك ادعاء شائع يقول: بأن وجود الله لا يمكن إثباته، ومع ذلك -كما هو الحال مع حدسية غولدباخ- فإن الأدلة على وجود الخالق دامغة؛ لكن العديد من المؤمنين يعتقدون أن البرهنة على وجود الله تقع “خارج نسق استدلالنا”.
إن الادعاء العلموي مبني على أساس القوانين الفيزيائية المعبر عنها رياضيًا؛ لكن الحقيقة أن ورقة عادية يمكنها أن تستوعب كافة هذه القوانين؛ بما في ذلك: معادلة شرودنجر لميكانيكا الكم، ومعادلة ماكسويل للكهرومغناطيسية، والنسبية العامة لأينشتاين، وميكانيكا نيوتن، وحتى نظرية الأوتار، وغيرها.. هذه المعادلات مبنية على أسس رياضية مثل: حساب التفاضل والتكامل والمعادلات التفاضلية والاحتمال، وستكون حصيلة المسلمات النهائية محدودة، وهذا كل ما هو مطلوب لبناء أول نسق من الحقائق في عالمنا.
قد يتساءل البعض عما إذا كانت مبرهنة جودل قابلة للتطبيق هنا -وهي بالفعل كذلك-، جميع القياسات في كوننا ذات دقة محدودة، وبالتالي يمكن تقريبها في ظل الأعداد الطبيعية التي اعتبرها جودل في تحليله للأنظمة الصورية، ولهذا السبب، فإن تطبيق هوكينج لنظرية جوديل للبحث عن نظرية كل شيء هو الواقع العلمي، كما هو الحال مع ادعائنا بوجود عدد غير محدود من الحقائق غير القابلة للإثبات.
يعتقد الماديون والعلمويون أنه يمكن إثبات كل الحقيقة بالعلم، ومن المعروف أن هذا الادعاء العلموي نفسه لا يمكن إثباته بالعلم! إنه ادعاء فلسفي أكثر منه علمي، يجب على الماديين العلمويين إضافة هذا الاعتقاد غير المادي إلى قائمة الحقائق المادية الخاصة بهم من أجل إجراء مناقشة متسقة، حتى في ذلك الوقت -ويالها من مفارقة- إن افتراضات العلموية التي تعززها هذه المصادرة الإضافية، تؤدي إلى استنتاج لا مفر منه، وهو أن هناك عددًا غير محدود من الحقائق غير القابلة للإثبات.
لذلك عندما يتنبأ أحد أتباع العلموية بأن هذا السبق العلمي أو ذاك سيحدث في المستقبل، فهناك احتمال أن يكونوا مخطئين تمامًا.
[1] -Stephen Hawking, “Gödel and the End of Physics” at Texas A&M University (public lecture, March 8, 2002).
[2] بمعنى أننا لا نقدر ولا نستطيع أن نجعل الرياضيات / العلوم مبرهَنة بكل أجزائها؛ بل ستظل مجموعة من المسلمات التي ننطلق منها دون إثبات رياضي؛ وذلك بأننا لا مفر من أن نستدل على صحة المقدمة بمقدمة أخرى والأخرى بأخرى وتتسلسل هذه المقدمات حتى تصل لجدار المسلمات أو البدهيات أو الضروريات على خلاف في اليقينية بين هذه الثلاثة، والتي لن تتمكن مطلقًا من إثباتها ولا خرقها لأنها بذاتها تكتسب الصحة والقطع واليقين، وخرقها يعني اللامعرفة، واللا يقين، والسفسطة.