- معاذ الأنصاري
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإنّ حديثي عن استاذتنا هناء –رحمها الله ـ انما هو حديث مبتدئٍ لم يستوي له المعنى الذي يريده كل الاستواء، ولم يدر في جوانب نفسه حتى يستقر في قرارة منها، فهو يتخيله تخيلاً ويجمجمه ويهذي به هذياناً فلا سبيل له إلى الإفصاح عنه والله المستعان.
في بداية أمري كنت أعيش مراهقتي سبهللا لا أنا في أمر الدنيا ولا في أمر الآخرة، عقارب ساعاتي تنسكب على طاولة المقاهي، وزهرة عمري تحرق في أفران مواقع التواصل الاجتماعي، كنت غارقاً في الثرثرة ومن الصعب جداً – في ذلك الوقت- أن أسمع الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب.
ومن بين هذا الغبار الذي قد تكوّم بعوامل متعددة على فترات طويلة، بدأ النور ينفذ على زوايا القلب فأصحبت الثرثرة شيئاً كان ثم انقضى.
مرحلة الشتات:
كنت في أول أمري تائها أرتحل بين المناهج، أقرأ ما يقع تحت يدي غير مبالي أكان حسناً أم قبيحاً، فمنهج ذوقي في ذلك أن أقرأ ما يقرأه الناس .
وضعت راحلتي عند قومٍ كانوا يشتغلون حول القراءة، يصيحون بأنّ العامل المشترك بين الشعوب المتخلفة أنها لا تقرأ، كثيروا الشكوى من تفشي الجهل، وتجدهم يحفظون كم يقرأ الطفل الياباني من الصفحات في السنة، وكيف كان أثر التعليم على عبور أوروبا من عصورها المظلمة وهكذا، حتى إذا اقتربتُ منهم لم أجد لهم حظاً من دعوتهم إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.
ولكنّي لا أنكر “أني آنست بهم بعض الأنس… وتغذى قلبي بذلك من جوعة، فإن الجائع يتغذى بمهما كان قوتاً”.[1]
ثم واصلت المسير بحثاً عن وميض نورٍ حتى أهتديت أخيراً إلى جماعة من الناس فَطِرت بهم فرحاً وثناءً، وجدتهم عارفين بحقائق العلم مسارعين إلى إقامة المبادرات وليست أصولهم أصول الثرثارين.
تبعية المشي على الأقدام:
وكنت قد فضلت هناء عليهم درجة، لأنها كانت مسارعة في تقريب العلم وإرشاد السالك ونشر المبادرات النافعة، فوقفت على جهودها في أول أمري فصادف قلباً خالياً فتمكنا.
فكنت أراها تشارك مبادرة فانضم لها، وكانت أول مبادرة قرائية شاركت فيها منها محاسن الحضارة الإسلامية، وتعرفت على مشايخ كان لهم الأثر الكبير في تكوين شخصيتي وتقويم تصوراتي فاللهم لك الحمد.
ومن آثار التبعية الجميلة الكتب التي تقرأها، وفي تلك الفترة لم أكن أعلم عن المنهجيات شيء، فأي كتاب وقع تحت يدي قرأته، فكنت أتابع ما تقرأه فأتبعها عليه، فتعرفت في تلك الفترة على عدد من العلماء والمفكرين، منهم محمود شاكر وفريد الأنصاري –وهو الأقرب إلى قلبي- وعبدالوهاب المسيري وغيرهم كثير.
ومن تلك التبعيات أيضاً محاضراتها القيمة –وهذه أقربها إلى قلبي- لأنها في الحقيقة كانت تراعي المبتدئين وتحاول أن تقترب منهم دائماً.
وكانت قناتها “أهم المحاضرات” أكثر شاهد على ذلك، وقد انكببت عليها في بداياتي حتى ساهمت على تجويد كثير من تصوراتي وحل كثير من استشكالاتي ولله الحمد.
ومن تلك الأمور التي علِقت من أجله أعمالها، هو سحرها البياني الآخاذ، الذي يسترق النفوس فيرسلها على رأيها ويصرفها إلى إرادتها، وكنت أعتقد – في بداية أمري- أنَ هذا من كثرة إدمانها على مطالعة عيون الأدب، حتى وقفت على نص بديع يحكي أنّ هذه الأمور على أهميتها “ليست هي جوهر الفصاحة، ولا حقيقة البيان” وإنما “سر البيان ولُبّه، وهو الذوق النفسي والفطرة السليمة”[2]
المهارات التي اكتسبتها من أعمالها:
- توظيف مواقع التواصل الاجتماعي لخدمة المعرفة: وهو من أكثر الامور التي تأثرت بها من أستاذتنا هناء –رحمها الله-، فقد كنت منبهراً من كثرة فوائدها واقتباساتها التي تشاركها، فحاكيتها في هذا الأمر حتى اصبح الرجل والرجلين يستفيدون من ذلك وبعض الأحيان آتي وليس معي أحد فاللهم لك الحمد.
- اقتباسات القراءة: وهذا من جهتين:
أ- مضمون الفائدة: وهو تخليصها من العوالق التي بها من حشو وزيادات لا ينتفع به الناظر إليها ب- إطار الفائدة: وإن كانت الفائدة التي يراد الذم بها يقال واتسابية، لما فيها من قبح وغبش ينفر منه القارئ، مع أن الفائدة قد تكون ممن يضرب لها أكباد الإبل. فتقديم الفائدة في قالب جميل لا يقل أهمية عن مضمونها. - تلخيص المحاضرات النافعة: وهذا مما كانت حريصة على تقديمه فهي لا تكتفي بمشاركة المحاضرة، وإنما تزيد ذلك بتلخيص فوائدها مرئياً، وهذا الأمر قد وجدت بركته على نفسي وأمتلكت ناصية هذه الملكة من كثرة مزاولاتي لمحاضراتها، فقد استعانت بي أحد الجمعيات الدعوية في مساعدتهم وقد استحسنوا ما قمت فيه واحتفوا به فاللهم لك الحمد.
- انشاء المبادرات وأندية القراءة: وهذا الأمر ممن كان لها الفضل -بعد الله- في اكتساب هذه المهارة، فأنشئت مع أصدقائي مبادرة افتراضية كان من مخرجاتها قراءتنا لأعمال المفكر علي عزت بيجوفيتش، وبعض أعمال العلامة محمد عبدالله دراز فاللهم لك الحمد. وساعدت في إحياء أحدى المبادرات الواقعية التي كانت تحتضر وكان من مخرجاتها قراءتنا لأعمال الأديب المنفلوطي كاملة ومتفرقات من شتى الفنون فاللهم لك الحمد
المقامات القلبية:
وهذا الأمر مما لا يمكن قياسه بالمسطرة ولا بالمعادلات الرياضية، وإنما هي مشاعر قلبية تختلج في نفسي، وعاجز –كحال المبتدئين- عن رصفها على الطريقة المنطقية، ولا سبيل لي إلى الإفصاح عنها.
لكن لا أقل من ذلك أن أودع هذا المعنى في عبارة من عباراتها البديعة:
“فُتحت لي أبواب كثيرة، وقفت أمامها بازدراء من لا يريد إلا درب واحد، سيرٌ باتجاه واحد، وهذا التحكم والوضوح أعادني لمراحل المشاكسة، وكيف كنت أرفض ما لا يتسق معي…لذلك لا أريد إلا ذلك الباب الذي اخترته بكل إرادتي، باب الله، نعم بابه، فلم تعد تغريني الدنيا، فقدت حاسة التذوق لمثل هذه الإغراءات الباهتة، لا يوجد ما يستحق العناء، لماذا سأضحي من الباخرة التي تنقلني ولا أهتم بوجهتي في الضفة الأخرى؟!.
…نزلت دمعة واحدة من عين تريد أن تبصر، تبللت علّ البذرة التي في أعماقي أن تنمو، وسألت الرحمن ألا يجعل المطر ذاك اليوم ينتهي إلا وهدايتي للحق أول بشرى، ثم دخلت المنزل وأنا ذلك العصفور المبلل بالمطر، والمطأطئ الجناح. والعجيب أنه وقع في نفسي كاليقين أنّ الله استجاب الدعوات، وبالله أنه استجابها حتى لم أعد أعرفني في نفس الليلة، ليست هذه أنا. “[3]
يالله!
خاتمة:
إنّ إعادة رفع ونشر أعمال أختنا هناء – رحمها الله ـ من أهم خطوات رد الجميل لها، ولكنه لا يمثل بمفرده حقيقة ما نريده لها، فالميت الصالح يحب ممن يخلفونه من محبيه أن يكونوا على خير وصلاح وأن يستمسكوا هذا الأمر بقوة ويثبتوا عليه، وكثيرٌ من العلماء يفاضلون هذا العمل الصالح على كثير من الأعمال الجارية التي لا تنقطع بعد الموت، وهذا العلامة المصلح البشير الإبراهيمي استمع لما يقول “لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلاً، ولكنني أتسلى بأنني ألفت للشعب رجالاً وعملت لتحرير عقوله تمهيداً لتحرير أجساده، وصححت له دينه ولغته فأصبح مسلماً عربياً، وصححت له موازين إدراكه فأصبح إنسانا أبياً وحسبي هذا مقرباً من رضى الرب ورضى الشعب”[3]
نسأل الله أن يغفر لأختنا هناء مغفرة واسعة وأن يغدق على قبرها شآبيب رحمته، وأن يستخلفنا في العمل الصالح، وأن لا يستبدلنا بجريرة ذنوبنا، وأن يجمعنا معها في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
اقرأ ايضًا: درس هناء الأخير!
[1] (المرقاة) (116) العبارة لعماد الدين الواسطي [2] (النظرات) للمنفلوطي(31) [3] (أن تُفلت من يدك) مدونة هناء الماضي –رحمها الله- [3] (من أنا؟ محمد البشير الإبراهيمي، سيرته بقلمه) تحقيق الدكتور رابح بن خويا (56)
يا الله كم انتِ مؤثرة يا هناء ..
مقالة رائعة جداً استفدت من اسماء الكتب والاشارات للمبادرات شكرا جزيلاً