أ. د علي ناصر غالب*
توطئة
يعد كتاب (تحقيق النسخة الفريدة) كاسمه فريدًا في بابه؛ إذ هو ينحو إلى نقد التحقيق لطائفة من أعمال المحققين الكبار الذين اعتمدوا في تحقيقهم نسخةً واحدة، رجَّح الباحث أن تكون (النسخة الفريدة) فأطلق على كتابه عنوان (تحقيق النسخة الفريدة) وذيّله بالقول (مأزق التعامل مع النص نظرا وتطبيقا)، وهذا يعني أنه سيصرف همه إلى جانب التنظير أولا، ثم إلى جانب التطبيق.
وحظي الكتاب بعناية خاصة من لدن كرسي الدكتور عبد العزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها التابع لجامعة الملك سعود فكان أحد إصداراته إذ طبع بعناية كبيرة فوقع في (245) صحيفة من القطع الكبير وجعله في قسمين، القسم الأول: النظرية واحتلَّ (48) صفحة من الكتاب، والقسم الثاني : التطبيق ووقع في (145) صفحة، وفيه نقد موضوعي لجهود بعض العلماء الذين تصدوا لتحقيق عشرة كتب اعتمادًا على نسخة فريدة. ثم أردفه الباحث بثبَت فيه مئة كتاب حُقِّقت على نسخة فريدة يحتفظ معهد المخطوطات بصورة عنها، وهي في مختلف علوم العربية وآدابها والعلوم الإسلامية.
لقد اختط الباحث لنفسه منهجًا لعرض هذه الكتب معتمدًا ذكرَ عنوان المخطوط واسم المؤلف والمحقق أو المحققين وسنة طباعة الكتاب ويذكر مكان وجود المخطوط ودار النشر ومكان الطبع ووقع هذا الثبت في (21) صفحة.
وتصدر الكتاب مقالًا للأستاذ الدكتور عبد العزيز المانع ثم تقديم لثلاثة من علماء العربية ممن لهم باع طويل في مجال التحقيق ابتداءً بالأستاذ الدكتور فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية والأستاذ الدكتور هادي حسن حمودي والأستاذ الدكتور حسن العثمان من جامعة أم القرى في مكة المكرمة، ثم مقدمة مؤلف الكتاب وهو الأستاذ يوسف السناري الباحث المتميز والمولع بتراث هذه الأمة وهو يدلو بدلوه في مجال تحقيق التراث العربي فلا بد أن يخرجها مترعة بما هو نافع ومفيد في مجال التحقيق ويرسم بذلك منهجه في تحقيق النصوص مُترسِّمًا خُطَى المحققين الكبار الذين أخرجوا إلى النور كنوزًا فريدة في مجال اللغة والأدب والنحو والتأريخ وغيرها.
عرض القسم الأول:
وسنقف عند أهم الأمور التي عرض لها الباحث في الجانب النظري وهي:
- عرَض الباحث ثلاثةَ مصطلحاتٍ؛ لينطلق منها إلى تبرير اختيار مصطلح (الفريدة) من بين ما سواه من المصطلحات؛ فذكر إلى جانبه مصطلحي (اليتيمة، والوحيدة)، ورجح مصطلح (الفريدة) على الرغم من أن هذه المصطلحات مترادفة من حيث اللغة، فأطلق المحققون على نسخهم مصطلح اليتيمة والوحيدة وهي النسخة التي لا نظير لها في العالم سواء أكانت بخط المؤلف أم غيره. وفرّق الباحث بين مصطلح النسخة النادرة وهي النسخة النفيسة التي تتميز بأنها عتيقة ولا ينفي ذلك أن تكون لها نسخة أخرى، وبين النسخة الفريدة التي ليس لها نسخة أخرى ولا يعني أنها نسخة قديمة بل تكون فريدة حين لا تتوفر لها نسخة أخرى أو نسخ أخرى كسائر المخطوطات ولا تستلزم القدم.
- ووقف الباحث بعد ذلك عند العوامل التي تساعد على تصحيح النصوص الفريدة والعوائق التي تحول دون ذلك.
فمن عوامل التصحيح وجود مصادر ناقلة عن المخطوط؛ إذ يسهل ذلك على المحقق الوصول إلى قراءة صحيحة للمخطوط الذي بين يديه. ومن العناصر المساعدة في التحقيق توفر المصادر ذات الصلة بموضوع المخطوط كأن تكون المخطوطة في مجال النحو فبإمكان المحقق العودة إلى كتب النحو للإفادة منها في قراءة النسخة الفريدة لديه.
ومن العوامل المساعدة على تصحيح النص وجود حواشٍ أو شروح للنسخة الفريدة وعوامل أخرى ذكرها الباحث تساعد عل تسهيل تحقيق النص الفريد.
- ذكر الباحث بعد ذلك العوامل التي تعيق تصحيح النص الفريد فحددها في حجب النص، وعنى به ما لا يمكن قراءته من النص بسبب البياض أو الكشط أو المحو أو الرطوبة وغيرها.
ووقف بعد ذلك عند تعامل المحققين مع المحجوب من النص وضرب أمثلة من غير الكتب العشرة التي جعلها مجالًا للتطبيق. وبيَّن بعد ذلك أسبابًا أُخر تعيق المحققين منها: رداءة الخط وإهمال النقط والضبط وكثرة التحريف والتصحيف وقلة المصادر الناقلة عن المؤلف أو فقدانها.
لذا استعمل الأستاذ يوسف السناري طريقة في التوضيح عبر الرسوم والتشجير، وذلك يدل على إحاطة بموضوع الدراسة من جميع جوانبها.
ثم عرض بعد ذلك تصرف المحقق في النسخة الفريدة ووقف عند الأمور التي قد يلجأ إليها المحقق في تصرفه منها: التصرف في النص بالزيادة فيه أو النقص منه أو مخالفة رسمه أو التقديم والتأخير فيه، وقد فصَّل المؤلفُ القولَ في كل جانب، وجاء بأمثلة عديدة هي من خارج العيّنات العشر التي خضعت للتطبيق. وذكر أن معظم المحققين الذين يتصرفون في النصوص يعزون ذلك إلى جهل النُّسَّاخ وكثرة تصحيفهم وتحريفهم.
ويرى الباحث أن لا ضرورة للاتِّكاء على هذه الحجة لتغيير النصوص المحققة. واشترط أن يكون المحقق ذا خبرة عالية في مجال تخصصه وأن يختار المخطوط المناسب لذلك وأن يميز بين أوهام المؤلف والناسخ في آن معًا.
وذكر بعد ذلك كيف تعامل المحققون مع أخطاء النساخ فصوب بعضُهم الأخطاء في المتن، وصوَّب قسمٌ منهم في الحاشية، وقد يجمع بعضهم بين الطريقتين، فمرة يصحح في المتن وأخرى في الحاشية.
لقد ذكر المؤلف يوسف السناري (الباحث في معهد المخطوطات العربية) أمثلةً ونماذج كثيرة وعرض صورًا للمخطوطات تدلُّ على امتلاكه ذخيرةً واسعةً واطلاعًا كبيرًا على جهود المحققين سواء من عُني منهم بالنسخة الفريدة أم بغيرها من النسخ، وذلك شاهد مبشِّر بعطاء وافر ننتظره في قابل الأيام.
ورجح الأستاذ يوسف السناري وجهة النظر التي تبيح تحقيق النسخة الفريدة سعيًا إلى نشر التراث وحفظه من الضياع.
إن ما ذكره في جانب التنظير يعدُّ مصدرًا تعليميًّا مهمًّا لكل من يريد أن يقتفي أثر المحققين الكبار أو الرواد. كما أنَّ طريقة التبويب والتفريع كانت مشوِّقة جدًّا للقارئ المتعلم؛ إذ أكثر الباحث من التفريعات مشفوعة بالتشجير والأشكال التوضيحية وصور المخطوطات موضوع البحث؛ لذا ينبغي لنا أن نُعبِّر عن أهمية تداول هذا الكتاب في الجامعات والمراكز البحثية المعنية بتحقيق المخطوطات، وعدُّ هذه الدراسةِ مرجعًا مهمًّا من مراجع الدارسين المحدثين.
عرض القسم الثاني
أما القسم الثاني من الكتاب فجعله المؤلف في مقالات عشر، كل مقالة تُعنى بجهد أحد علماء العربية في تحقيق نسخة فريدة، وقد رتَّب المؤلِّف هذه المقالات على وفق التسلسل الزمني لها.
أما العينات التي أخضعها للدراسة فهي:
- كتاب الأصنام لابن الكلبي تحقيق أحمد زكي باشا سنة 1914.
- كتاب جماع العلم للشافعي تحقيق أحمد محمد شاكر سنة 1940.
- كتاب المكافأة لابن الداية:
- تحقيق محمود محمد شاكر سنة
- وتحقيق علي الجارم وأحمد أمين سنة 1941.
- كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز تحقيق عبد الستار فراج سنة 1956.
- كتاب أدب الغرباء لأبي الفرج الأصفهاني تحقيق د. صلاح الدين المنجد سنة 1972.
- كتاب البرصان للجاحظ:
- تحقيق د. محمد مرسي الخولي سنة 1972.
- وتحقيق عبد السلام محمد هارون 1982.
- كتاب القوافي للأخفش:
- تحقيق د. عزة حسن سنة 1970.
- وتحقيق أحمد راتب النفاخ 1974.
- الأزمنة وتلبية الجاهلية لقطرب تحقيق د. حاتم الضامن سنة 1984.
- الخطب والمواعظ للقاسم بن سلام تحقيق د. رمضان عبد التواب سنة 1986.
- فهرس ابن خير الأشبيلي تحقيق د. بشار عواد معروف 2009.
ومعظم هؤلاء المحققين من علماء العربية الكبار الذين امتلكوا خبرة متراكمة في مجال التحقيق واعتمدت الدراسة على دراسة النسخ الفريدة السقيمة والمتوسطة في السقم والمطبوعة وقام بتحقيقها عالم مشهور.
وقد بدأ الباحث بكتاب الأصنام لابن الكلبي الذي حققه أحمد زكي باشا عام 1914، وانتهى بفهرس ما رواه ابن خير الاشبيلي عن شيوخه تحقيق د. بشار عواد معروف مع ابنه محمود عام 2009.
وفي ضمن المنهج الذي اتبعه في عرض هذه المقالات جعل لكل مقالة ضوءًا أو عنوانًا يحمل أحد المبادئ النظرية التي عرضها في جانب التنظير ذلك لأجل ترسيخ تلك المبادئ في أذهان المتلقين عبر التطبيق عليها بشكل حي، وهو بذلك ينير الدربَ للسالكين مجالَ التحقيق، زيادة على ذلك لم تخلُ تلك المقالات من نقد موضوعي لعمل المحققين بيّن الجوانب الإيجابية فيه والجوانب السلبية وانحاز في أحيان عدة إلى جانب المحققين في ما اختطوه من مناهج في تحقيق النسخة الفريدة.
تحليل إحدى العينات العشر
سنقف الآن عند المقالة الأولى التي خصَّصها المؤلف لكتاب الأصنام لابن الكلبي بتحقيق الأستاذ أحمد زكي باشا وجعل محور مقالته أو ضوئها بعنوان: (التصحيح بحواشي النسخة الفريدة).
وقد عدَّ المؤلف منهج التحقيق الذي اتخذه أحمد زكي باشا هو حجر الأساس في تحقيق المخطوطة الفريدة لمن جاء من بعده. وبيَّن بعد ذلك العوامل التي اتبعها المحقق في تصحيح كتاب الأصنام ومن أهمها: التصحيح بحواشي النسخة الفريدة إلى جانب فهم المحقق للنص وجودة الخط وسلامة النص من أي كشط أو محو أو بياض.
ثم ذكر بعد ذلك أهم العناصر التي توضح المنهج الذي اتَّبع في التحقيق. ووقف الأستاذ يوسف السناري وقفة متأنية إزاء ضوء المقالة، وهو التصحيح بحواشي النسخة الفريدة، وذكر نماذج من الألفاظ التي نقلها المحقق من الحاشية؛ ليصحح بها ما ورد في المتن.
وبيّن المؤلف أوجه التصرف في النص المحقق وحصرها في ثلاثة أنواع هي: التصرف بالزيادة في النص، أو التصرف بالنقص منه، أو التصرف بمخالفة رسمه، وطفق يعرض أنواع التصرف هذه بالتفصيل.
وفي مجمل هذه المقالة نجد الباحث دقيقًا في تبويب عناصرها مكثرًا من الأمثلة والشواهد التي يستقيها من النص المحقق، ولا سيما عند مظاهر تصرف المحقق بالنص، فأفاض في الحديث على تصرف المحقق بالزيادة في النص أو التصرف بمخالفة رسمه وما علَّل به المحقق نهجه ذلك اعتمادًا على السياق أو اللغة أو الأشهر أو التعليل بالتجويد.
وقد كان من أهم المصادر التي استعان بها المحقق لتصحيح النسخة الفريدة هي معجم البلدان لياقوت الحموي وخزانة الأدب للبغدادي وبلوغ الأرب للآلوسي ولسان العرب لابن منظور وديوان أشعار الهذليين بتحقيق محمد محمود الشنقيطي.
وختامًا:
إن كتاب الأستاذ يوسف السناري (التحقيق النسخة الفريدة) قد أضاف إلى مكتبة تحقيق النصوص إضافات عدة يستطيع الدارس المتمعن التوصل إليها والانتفاع بها، ولا نملك إلا القول بارك الله في جهد هذا الباحث الحاذق وهو يزاحم المناكب؛ ليجد له طريقًا في مجال التحقيق وتقديم أعمال يشار إليها بالبنان؛ خدمةً لتراث هذه الأمة العظيمة وخدمة للغتها ولغة كتابها العظيم. والحمد لله رب العالمين.
- العراق – بابل- الجامعة الإسلامية