- نشر: the school of life
- ترجمة: محمد كردي
- تحرير: آسية بنت رياض الشمري
يميل العالم الحديث إلى الربط بين الشخص الذكي والقارئ الجيد. فقراءة الكثير من الكتب علامة مميزة على الذكاء، بالإضافة إلى كونها مدخل الحظوة بالاحترام والقبول. ومن العسير تخيل شخصٍ ما قد وصل إلى رؤى قيِّمة دون المضي قدُمًا في قراءة عدد هائلٍ من الكتب على مر السنين. وعلى ما يبدو، فإنه ليس هناك حد للمقدار الذي ينبغي علينا قراءته. وإننا -منطقيًا وبشكل مثالي- نقرأ ونزداد ذكاءً في نفس الوقت.
وفي اليوم الذي نغادر فيه الحياة سينبؤنا عدد الكتب التي تمكنا من قراءتها عن مدى تعقيد عقولنا ونضجها.يتمتع هذا النمط المفرِط من القراءة بمكانة ثقافية عالية. إنه مدعوم بالنشر الهائل للكتب، والعرض الصحفي المستمر للعناوين الجديدة، ويوحي أننا قد نتخلف عن الركب سريعًا ويحكم علينا بضيق الأفق وانغلاقه إذا لم نسرع -مثلًا- بقراءة أربعة من الكتب الحائزة على جوائز كبرى هذا العام، إضافةً إلى سبعة عناوين جاذبة تلقت مراجعات محفّزة مؤخرًا. ونتيجةً لذلك، نقوم بالتخلص من الذنب والشعور بالتقصير بتحميل رفوفنا ما لا تحتمل.
وسط هذا الضغط لتناول أكبر قدر من الكتب نجده في طريقنا، نتوقف قليلًا لتأمل أحد الجوانب الساحرة لعالم ما قبل الحداثة؛ حيث لا يوضع الناس أبدًا تحت أي ضغط للقراءة. فكانت القراءة نفسها مهمة إلى أبعد الحدود، في حين أن عدد المقروءات يعتبر هامشيًا. ولم يكن هذا لأسباب اقتصادية بالأساس -الكتب كانت غالية بالطبع- وإنما كان المهم أن تقرأ بوعي، لا أن تشتت ذهنك بعددٍ كبيرٍ من المجلدات.
كان عالم ما قبل الحداثة يركز على قراءة القليل من العناوين؛ لأنه كان مهووسًا بسؤالٍ تحب الحداثة التملص منه: ما هي الغاية من القراءة؟ وقد امتلك إجابات لها. كمثالٍ سامٍ، فإن المسلمين والمسيحيين حددوا قيمة القراءة من خلال هدف دقيق ومحدد للغاية: إنه السمو بالنفس. أن تقرأ يعني أن تحاول الاقتراب من مراد الله. ولذلك، فإن كتابًا واحدًأ فقط -القرآن أو الكتاب المقدس- هو الذي ينبغي أن يحظى بالحفاوة، وبقدرٍ زائدٍ من الاهتمام أكثر من أي كتاب آخر. وقراءة هذا الكتاب بشكلٍ مكررٍ، وباهتمام وتركيز كبير – بمقدار خمس صفحات فأكثر في اليوم- كانت تعتبر أكثر أهمية من مطالعة سريعة لمكتبة كاملة كل أسبوع. في الحقيقة، كان يُنظر للإفراط في القراءة بنوع من الريبة؛ لأنها كانت تعتبر نوعًا من التضليل والتشتيت.
وبشكل مشابه، ففي العالم اليوناني القديم، كان على المرء أن يركز على معرفة ضيقة مستمدة من كتابين فحسب: الإلياذة والأوديسة لهوميروس، فهما المرجع الأكمل لكل من المثل الأخلاقية لليونان، ويضمان أفضل إرشاد عملي في الحرب والأمور المدنية. وفي الأزمنة اللاحقة، في القرن الثامن عشر في إنجلترا، كان عُرف القراءة السائد يمثل التركيز على كتاب الإنياذة لفيرجيل، وكان استظهار هذا الشعر الطويل عن ظهر قلب هو كل ما يحتاجه الرجل النبيل ليُعدَّ حينها مثقفًا. القراءة أكثر كانت تعتبر علامة على التشتت والتحيّر، وأمرًا غير صحيٍ أيضًا.
ويمكننا أن نلاحظ نمط الحد الأدنى من القراءة في الرسومات التصويرية المبكرة لواحد من اللاهوتيين المسيحيين، وهو القديس جيروم الذي كان يعد المرجع الأعلى للعالم المسيحي، والذي ترجم النسخ اليونانية والعبرية للكتاب المقدس إلى اللاتينية، وكتب عددًا هائلًا من التعليقات على نصوص الكتاب المقدس، وهو مرجع للدارسين حاليًا، وعلى الرغم من ذلك، وعند النظر إلى مكان وكيفية عَمل هذا الرجل، فإن تفصيلًا يُظهِر -في اللوحة- أن كتبًا معدودةً جدًا هي التي اعتمد عليها في دراسته. الملفت للنظر أن مفكر الكنيسة الأكثراجتهادًا وذكاءً يظهر أنه كان يقرأ أقل من متوسط القراءة لطفل في الثامنة من عمره من عالم اليوم. ويظهر أيضًا في نفس اللوحة أن القديس مالكٌ فخورٌ لما مجموعه عشرة كتب تقريبًا.
إن العالم الحديث قد نحا منحىً بعيدًا تمامًا عن نهج عالم ما قبل الحداثة المُقِل من القراءة، لقد تبنينا اليوم شعارًا “تنويريًا” ينحو باتجاهٍ مختلفٍ كليًا، مصرحًا أنه لا ينبغي أن نضع حدًا لمقدار ما نقرأه، وعند الإجابة عن سؤال: لماذا نقرأ؟ فإن جوابًا واحدًا فقط يبدو شاملًا وطموحًا كفايةً: إننا نقرأ لكي نعرف كل شيء. لا أن نقرأ لمعرفة الخالق أو لمعرفة واجبات مدنية، ولا أن نقرأ لأجل تهدئة أذهاننا، إننا نقرأ لنفهم الوجود البشري بكامله ونحيط علمًا بجميع الكواكب والتاريخ الكوني بالكلية، لدينا إيمان جماعي بفكرة المعرفة الشمولية، تلك التي تقول أن إنتاجنا لكتبٍ أكثر، ثم جردها يعني اقترابًا أكثر من الإحاطة بكل شيء.
إن إدراك هذا القدر الهائل من الطموح يساعد على فهم لماذا كانت رسومات عصر الأنوار لمكتبات ذات مخزون هائل من الكتب توحي بقدر شاسع غير محدودٍ لما ينبغي تعلمه.
وفي حين أننا قد لا ندرك كم نحن مدينون لمفهوم “التنوير” عن القراءة، إلا أن أثر ميراثه المغالي حاضر في فضاء نشر الكتب، وفي الطريقة التي يتم بها تقديم الكتب للعامة في المدارس والمتاجر، وحاضر في استجابتنا -المدفوعة بالشعور بالذنب- تجاه ضغط أن نقرأ أكثر.
ويمكننا أيضًا -بقدرٍ من المخاطرة- أن ندلي بملاحظة: هذا النهج الشامل والمفرط في القراءة لا يجعلنا سعداء من الأساس، إننا نغرق في الكتب ولا نملك وقتًا لإعادة قراءة أيٍّ منها، ويبدو أنه من المقدّر أن نشعر بالتقصير المستمر في القراءة عند المقارنة مع أقراننا، وما توحي به وسائل التواصل على أنه الحد الأجدر بالتقدير.
وفي سبيل تسهيل حياتنا وتبسيطها،سنجرؤ على طرح سؤالٍ تقليدي جدًا: لماذا تقرأ؟ هذه المرة عوضًا عن الإجابة “لكي نعرف كل شيء” يمكننا أن نركز على هدف أكثر تحديدًا وفائدة، قد نقرر -مثلًا- أنَّ ما نحتاجه نحن حقًا هو تحصيل المعرفة المفيدة لنا، لنمسك بها زمام الأمور في حياتنا الخاصة. أو قد نرفع شعارًا جديدًا لترشيد قراءتنا: نريد أن نقرأ لنشعر بالرضا عن أنفسنا، لا أقل ولا أكثر.
وهكذا، مع استحضار هذا المطمح الجديد يبدأ ضغط “القراءة المستمروالغزيروالمشتِّت” بالتلاشي، حين نمتلك نفس الخيار الذي كان متاحًا للقديس جيروم؛ فنمتلك مجموعةً قليلةً من الكتب على رفوفنا، ومع ذلك لا نشعر مطلقًا بسوء تغذية فكرية أو حرمان ثقافي.
بمجرد أن ندرك أننا نقرأ لنشعر بالرضا، لن يتحتم علينا مطاردة كل كتاب نُشِر هذا الموسم. يمكننا الاقتصار على العناوين التي تشرح بشكل أفضل ما نعتبره جزءًا من مكونات ثقافتنا وقناعاتنا. فعلى سبيل المثال، سنحتاج بضعة كتب أساسية تشرح لنا أنفسنا، وتعلمنا كيف تعمل العائلات، وكيف يمكن أن نتوادَّ بشكل أفضل، معلمةً إيَّانا كيف يمكن للمرء أن يجد عملًا يحبه، وكيف نزيد من شجاعتنا لنحسِّن من فرصنا، وسوف نحتاج بضعة كتبٍ تتحدث عن الصداقة والحب، وعن والودِّ والصحة، وقلةً أخرى من الكتب عن كيفية السفر، وعن التقدير والامتنان والتسامح.
سوف نبحث عن كتبٍ تساعدنا على الحفاظ على رباطة جأشنا، وتعلمنا كيف نكافح اليأس ونقلل من خيبات الأمل. وأخيرًا، بضعة كتب ترشدنا بنبل إلى التخفيف من الندم وتعلمنا عن كيفية مغادرة الحياة بشكلٍ أمثل.
مع وضع هذه الأهداف في عين الاعتبار لن نحتاج إلى مكتبات لا حدود لها، ولن يتوجب علينا أن نسارع محمومين بملاحقة جداول النشر. كلما استطعنا أن نفهم ما تمثله القراءة بالنسبة لنا ، حظينا بمزيد من المتعة بعلاقة حميمة مع مجموعة قليلة من الكتب. يمكن لمكتباتنا أن تكون أبسط، وعوضًا عن التطرق إلى عناوين جديدةٍ، فإن إعادة قراءة أعمال سابقة قد تصبح أكثر أهمية، وتعزيزًا لما نعرفه بالفعل لكنه يميل للنسيان. إن القارئ الجيد بحق ليس ذلك الذي قرأ عددًا هائلًا من الكتب، وإنما هو الذي ترك نفسه لتتشكل بعمق لتكون لها القدرة على أن تحيا وتموت بشكل جيد، وذلك عبر مجموعة قليلة من الكتب المختارة بشكل جيد.