- سلافوي جيجك
- ترجمة: سارة عبد الله
- تحرير: سهام سايح
أولًا: سيّد البذاءة الجديد:
يُغيّر الحيّز العام البذيء الظاهر هذه الأيام الطريقة التي تعمل بها المعارضة بين المظهر العام والشائعات؛ لا يعني ذلك أنّ المظاهر لم تعد مهمة لأنّ الفحش والبذاءة يسيطران مباشرة؛ بل هو بالأحرى أن نشر الشائعات الفاحشة أو التصرف بشكل فاضح يحافظ -وعكس ما هو متوقع- على مظهر السّلطة. الأمر قريب لما حدث في العقود الأخيرة مع شخصية المحقق في رواية من روايات الجريمة؛ حيث يمكن أن يكون الشخص معاقًا أو نصف مجنون أو أيا كان، لكن سلطته/سلطتها بصفته المحقق المعصوم عن الخطأ لا تزال على حالها.. فبنفس هذه الطريقة، يمكن للزعيم السياسي أن يتصرف بطرق مخجلة وغير أخلاقية وأن يقوم بإيماءات فاحشة وما إلى ذلك؛ ولكن كل هذا يقوّي موقفه من القيادة والسّيادة. هذا الأمر يذكرنا بترامب الذي يفاجئنا مرارًا وتكرارًا بمدى جاهزية بذاءاته السوقية؛ فمثلًا، في ذروة هجماته على محامية مكتب التحقيقات الفدرالي السابق ليزا بيج وفي مسيرة مينابولس في أكتوبر 2019، قام ترامب بإعادة تمثيل وهمية لأحاديث ليزا مع حبيبها السابق السيد ستريزوك، كما لو كانوا في منتصف الجماع، محاكيًا نشوتها الجنسية.. وكما هو متوقع، انفجرت ليزا بيج غاضبة. لكن يبدو أنّ القصة تكرر نفسها حيث نجى ترامب مرة أخرى بفعلته هذه التي اعتبرها أعداؤه القشة الأخيرة التي ستقصم ظهر البعير.
نقف هنا على الطرف النقيض من الستالينية -السياسات التي اعتمدها ستالين- حيث يجب الحفاظ على شخصية القائد التي لا تشوبها شائبة مهما كلّف الأمر؛ فبينما يخشى القائد الستاليني من تدمير البذاءة أو النقص -حتى الطفيف منهما- منصبه كقائد، يظهٍر قادتنا الجدد استعدادهم التام وبشكل كبير للتخلي عن وقارهم وهيبتهم؛ ورهانهم هنا هو أن هذا التنازل سيكون إلى حد ما كالملاحظة القصيرة الموجودة على الغلاف الخلفي لكتاب ألّفه معاصر مشهور، هادفةً إلى إثبات أن المؤلف هو أيضًا إنسان عادي مثلنا.. (“يحب جمع الفراشات في وقت فراغه”) بعيدًا عن ضعضعة عظمة المؤلف، فإن مثل هذه الملاحظة تقوي عظمته عن طريق التباين (“كما ترى، حتى هذا الشخص العظيم لديه هوايات سخيفة…”) ونحن مفتونون بمثل هذه الملاحظات، خاصةً لأن صاحب الكتاب مؤلف عظيم، وفقط لأنّه كذلك؛ فلو كانت مثل هذه الملاحظة تتعلق بشخص عادي سنكون غير مبالين بها (“من يهتم بما يفعله شخص نكرة مثل هذا في وقت فراغه”).
مع ذلك، فالفرق هنا هو أنّ هذا النوع من القادة هم “كيم كارداشيان” السياسة؛ فنحن مفتونون بكيم لأنّها مشهورة، لكنها مشهورة فقط “لأنها مشهورة”، فكيم لا تقوم بأي شيء مهم بعيدًا عن الأشياء العادية. وبنفس الطريقة، فإنّ ترامب مشهور ليس على الرغم من بذاءته ولكن بسببها. في البلاط الملكي القديم، غالبًا ما كان للملك مهرج مهمته تدمير المظهر النبيل بنكات ساخرة وملاحظات قذرة (مما يؤكد وعلى النقيض على هيبة وكرامة الملك) أما ترامب فلا يحتاج إلى مهرج لأنّه يقوم بهذه المهمة لنفسه، ولا عجب أنّ أفعاله تكون أحيانًا أكثر مرحًا أو تفاهة من أداء مقلديه الهزليين. وبالتالي فإنّ الوضع القياسي مقلوب: ترامب ليس شخصًا كريمًا وقورًا تدور حوله شائعات بذيئة وفاحشة؛ إنّه شخص فاحش وبذيء -علنًا- يريد أن تظهر بذاءته وفحشه كقناع لوقاره وهيبته. أوضح ألينكا زوبانيش Alenka Zupančič التناقض بين هذا المنطق والمنطق الكلاسيكي للهيمنة حيث قال “إنّ تشويه صورة الملك هو في نفس الوقت تشويه للملك نفسه وبالتالي فهو فعل غير مقبول. لكن المنطق الجديد هو: دع صورتي تشوَّه بكل الطرق الممكنة ما دمت سأستطيع أن فعل كل ما أريده.. وأكثر من ذلك، سأستطيع أن أفعل ما أريده بالضبط بسبب هذه الصورة الجديدة وبمساعدتها”.[1]
مرةً أخرى، هذه هي الطريقة التي يعمل بها ترامب؛ فصورته العامة ملطخة بكل الطرق الممكنة ويُفَاجأ الناس بكيفية تمكنه من صدمهم مرارًا وتكرارًا من خلال وصوله إلى عمق جديد من الفحش والبذاءة، لكنه في الوقت نفسه يحكم بكل ما في الكلمة من معنى كفرض المراسيم الرئاسية، وما إلى ذلك من أساليب الحكم.. فيتم التشويه هنا باتجاه مجهول. إنّ الحقيقة الأساسية لما يسميه لاكان “التشويه الرمزي” هي الفجوة التي تفصلني وواقعي النفسي والاجتماعي -البائس جوهريًا- عن تفويضي الرسمي (الهوية)، فمثلًا؛ أنا ملك لكن ليس بسبب سماتي الجوهرية، بل لأنني أشغل منصبًا معينا في الصرح الاجتماعي الرمزي، أو بمعنى آخر لأنّ الآخرين يعاملونني كملك. مع سيد اليوم الفاحش أو البذيء، يتحول هذا الإخصاء/التشويه إلى الصورة العامة للسيد أو الرئيس؛ يسخر ترامب من نفسه ويجرد نفسه من آخر بقايا الكرامة والوقار تقريبًا كما يسخر من خصومه بسوقية صادمة، لكن هذا التقليل من الذات واحتقارها لا يؤثر بأيّ شكل من الأشكال على كفاءة أعماله الإدارية بل حتى أنّه يسمح له بأداء هذه الأعمال بشراسة قصوى كما لو افترضنا علنًا أن الإخصاء أو تشويه الصورة العامة -التنازل عن وسام الوقار والكرامة- يمكّن من عرض كامل “غير مشوّه” للسلطة السياسية الفعلية. من المهم أن نرى كيف أن إخصاء/تشويه الصورة العامة ليس مجرد إشارة إلى أنّ هذه الصورة لا تهم، وأن المهم هو فقط القوة الإدارية الفعلية.. بدلاً من ذلك، فإنّ النشر الكامل للسلطة الإدارية والتدابير المفروضة، لا يمكن تحقيقه إلا عندما يتم انتقاد الصورة العامة.
ولكن ماذا عن سياسي يتصرف كمسؤول فعال جاد وبعيد عن سفاسف الأمور، ويفترض أيضًا مثل هذه الصورة علنًا -رجل واقعي يحتقر الطقوس الفارغة ويهتم فقط بالنتائج.-؟
لا تزال الفجوة بين الصورة العامة والشخص الفعلي تعمل حتى في مثل هذه الهوية، بحيث يمكن للمرء بسهولة اكتشاف الفرق بين المسؤول الفعال حقًا ومن يلعب هذا الدور. لكن الأهم من ذلك هو حقيقة أن افتراض صورة المسؤول الفعال يعيقني-كمسؤول- بشدة ويحد من مساحة ما يمكنني فعله في الواقع وكيف يمكنني ممارسة سلطتي؛ بمعنى في حال لعبي لدور المسؤول الفعال الجاد يجب عليّ أن أتبع قواعد معينة. إذًا، لماذا عليّ أن أتخلى عن كرامة ووقار دور السلطة من أجل ممارسة السلطة الكاملة؟. تنطوي ممارسة ترامب للسلطة الرئاسية على ثلاثة عناصر وليس عنصرين فقط: ممارسته القاسية للسلطة نفسها (فرض الأوامر والأحكام)، وصورته العامة البذيئة، والموقع الرمزي للسلطة.. وعلى الرغم من إفراغ هذا الموقع من محتواه الإيجابي -الكرامة، والوقار والهيبة-، إلا أنّه لا يزال يعمل بكامل طاقته، وهذا الفراغ هو بالضبط ما يمكّن ترامب من ممارسة سلطته الإدارية بالكامل.
ثانيًا: الشائعات، و “الآخر الكبير“:
الشائعات[2] هي شكل معين للآخر الكبير؛ فهي إلى حد ما الجانب الآخر المواجه/المقابل للآخر الكبير الذي يمثل كرامة ووقار الأماكن العامة. استدعِ الوضع النموذجي لمجموعة صغيرة من الأشخاص الذين يعرفون جميعًا سرًا محرجًا عن أحدهم، بالإضافة إلى أن جميعهم يعلمون أن كل واحد منهم يعرف أن هذا السّر لا يخفى عليهم.. ومع ذلك، يحدث انقطاع جذري في الحديث عندما يقول أحدهم هذا السر علانية.. لماذا يحرَجون مع أن ما قاله لم يكن شيئًا جديدًا على أي منهم؟ لأنهم لم يعودوا قادرين على التظاهر أو التصرف كما لو كانوا لا يعرفون ذلك. فالآن أصبح الآخر الكبير يعرف.
هذا هو “الآخر الكبير” للمظاهر، أما مجال الشائعات فهو عكس ذلك تمامًا؛ لا تتعامل الشائعات مع الحقيقة الواقعية على عكس المظاهر، مع أن كلاهما خارج الحقيقة الواقعية – فللحفاظ على مظهر الكرامة والوقار- نحن مستعدون للصمت عن الحقيقة. تستبعد الشائعات مجهولة المصدر من الأماكن العامة، لكنها تبقى فعالة بشكل غريب حتى لو لم تكن صحيحة، وعادة ما تكون رواية الناس لها مسبوقة بـ: “لا أعرف ما إذا كان هذا صحيحًا، ولكن قيل لي…” أو بالأحرى وبطريقة غير شخصية “شخص ما يقول أن فلان قام بكذا وكذا…”. تم تقديم حالة شائكة من الشائعات المنتشرة على شكل إنكار من قبل القناة الروسية الأولى والتي تعد إحدى شبكات التلفزيون الوطنية الروسية الرئيسية التي خصصت زمن اعتيادي دائم مخصص لنظريات مؤامرة فيروس كورونا في برنامجها الإخباري المسائي الرئيسي Vremya والذي يعني “الوقت”. كان أسلوب التقرير في البرنامج غامضًا؛ حيث بدا أنه يفضح هذه النظريات مع ترك انطباع لدى المشاهدين بأنّ لديهم نواة الحقيقة. الرسالة من هذا البرنامج هي أن النخب الغربية الغامضة وخاصة الولايات المتحدة هي المسؤولة في النهاية وبطريقة ما عن وباء فيروس كورونا؛ وبالتالي يتم نشرها على أنّها شائعة مشكوك فيها: “من الجنون أن تكون حقيقية، ولكن مع ذلك، من يدري ما هي الحقيقة…” من الغريب أنّ تعليق وعدم معرفة الحقيقة الفعلية لا يبطل كفاءة هذه الشائعات الرمزية، وهكذا تتشارك الشائعات والمظاهر في رقعة من الحقيقة الفعلية. في بعض الأحيان، يتطلب منا احترام كرامة ووقار شخص ما أن نعلن جهارًا شيئًا نعلم -نحن أنفسنا، وكذلك الأشخاص الذين نتحدث إليهم- أنه ليس صحيحًا في الواقع.
ثالثاً: دونالد ترامب كوطني بذيء
دعونا نلخص أين نحن؛ منذ وقت ليس ببعيد وفي مجرة تبدو الآن بعيدة جدًا، كان باستطاعتنا تمييز المجال العام والحياة العامة عن بذاءة التبادلات والمحادثات الخاصة بوضوح؛ حيث كان يُتوَقع من السياسيين والصحفيين والشخصيات الإعلامية الأخرى أن يخاطبونا ببعض الكرامة والوقار والأدب وأن يتحدثوا ويتصرفوا كما لو أنّ الصالح العام هو همُهم الأساسي، كما كان عليهم أيضًا أن يتجنبوا التعبيرات السوقية المبتذلة والإشارات إلى العلاقات الحميمية الشخصية؛ وبالطبع كانت هناك شائعات حول الرذائل والعيوب الخاصة بهؤلاء الأشخاص، لكنها ظلت مجرد شائعات؛ فهذه الأمور الخاصة تُذكر فقط في الصحافة الصفراء. أما اليوم، فليست فقط وسائل الإعلام التي تعرض التفاصيل الحميمية للشخصيات العامة، بل إن السياسيين الشعبويين أنفسهم ينكفئون غالبًا إلى الفحش والبذاءة المخزيين، ويعني ذلك أنّ المجال العام اليوم هو الذي تنتشر فيه الأخبار المزيفة التي تكثر فيها الشائعات ونظريات المؤامرة.
لا ينبغي أن يغيب عن بال المرء ما يثير الدهشة حول هذا الارتفاع من الفحش والبذاءة المخزية لحركة الحق البديل التي تمت ملاحظتها وتحليلها جيدًا من قبل أنجيلا ناجلي في كتابها Kill All Normies” [3]“. من ناحية تقليدية -أو على الأقل من وجهة نظرنا المتأثرة بالتقاليد-، عمِلَ الفحش أو البذاءة المخزيين بمثابة تخريب وضعضعة للسيطرة التقليدية، كما حرَم السيد/القائد من كرامته ووقاره الزائف. أتذكر من أيام شبابي كيف فضّل الطلاب المحتجين في الستينيات استخدام الكلمات فاحشة البذيئة أو القيام بإيماءات فاحشة لإحراج شخصيات السلطة، ولشجب واستنكار نفاقهم -كما يدعون-. ومع ذلك، فإننا لا نحصل اليوم مع الفحش العام المتفجر على اختفاء السلطة والشخصيات الرئيسية، بل ظهورها القوي؛ لقد حصلنا على شيء لا يمكن أن نتصوره قبل عقود: أسياد بذيؤون فاحشون متفحشون. يعد دونالد ترامب الشخصية الرمزية لهذا النوع الجديد من “القائد الشعبوي الفاحش” والحجة المعتادة ضده والقصيرة جدًا هي “أن شعبويته، أي قلقه على رفاهية الناس العاديين والفقراء= أمر مزيف، وأن سياساته الفعلية هي حماية مصالح الأغنياء”. لا يتصرف أتباع ترامب بشكل غير عقلاني، فهم ليسوا ضحايا للتلاعب الأيديولوجي البدائي الذي يجعلهم يصوتون ضد مصالحهم؛ بل هم عقلانيون تمامًا لكن بشروطهم الخاصة: يصوتون لترامب لأنّه -ومن خلال الرؤية الوطنية التي يروجها- يعالج أيضًا مشاكلهم اليومية العادية كالسلامة والوظائف الدائمة… إلخ.
عندما تمّ انتخاب ترامب رئيسًا، طلب مني بعض الناشرين تأليف كتاب من شأنه أن يعرض ظاهرة ترامب لنقد التحليل النفسي؛ وكان ردي هو أننا لسنا بحاجة إلى التحليل النفسي لاستكشاف “الأمراض” التي أدت إلى نجاح ترامب. الشيء الوحيد الذي يمكن تحليله نفسيًا هو الغباء غير المنطقي لردود الفعل الليبرالية اليسارية على صعوده، هذا الغباء الذي يجعل من المرجح أن يتم إعادة انتخاب ترامب. لاستخدام ما قد يكون أدنى نقطة من سخافة وسوقية ترامب، لم يتعلم اليساريون بعد كيفية الاستيلاء على ترامب من خلال شـ…
لا يفوز ترامب في الانتخابات بمجرد قصفه لنا بلا خجل برسائل تولد متعة فاحشة وبذيئة في كيفية تجرؤه على انتهاك المعايير الأولية للآداب والحشمة. فمن خلال جميع أعماله السوقية يقدم ترامب لأتباعه رواية مؤطرة بمنطق محدود للغاية وملتوٍ، لكنه في نفس الوقت منطق يقوم بعمل أفضل من السرد اليساري الليبرالي. إن فظائعه الفاحشة بمثابة إشارات للتضامن والانتماء مع ما يسمى بالناس العاديين (“كما ترون، أنا مثلكم؛ فجميعنا نمتلك لحمًا ودمًا تحت جلدنا”) كما يشير هذا التضامن والانتماء إلى النقطة التي تصل فيها فاحشة ترامب إلى حدها. ترامب ليس فاحشًا وبذيئًا تمامًا؛ فعندما يتحدث عن عظمة أمريكا وعندما يرفض خصومه كأعداء للشعب، وما إلى ذلك… فهنا هو يريد أن يؤخذ على محمل الجد، أما الغرض من بذاءاته وفحشه فهو أن يؤكد -على النقيض- مستوى جديته. فمن المفترض أن تعمل هذه البذاءات كعرض فاحش لإيمانه بعظمة أمريكا. لهذا السبب، من أجل إضعاف مكانة ترامب يجب على المرء أن يبدأ بعزل بذاءته ومعاملة تصريحاته الجادة على أنها فحش وبذاءة. ترامب ليس بذيئًا وفاحشًا بحق عندما يستخدم مصطلحات جنسية سوقية وما إلى ذلك؛ لكنه فاحش وبذيء بحق عندما يتحدث عن أمريكا باعتبارها أعظم دولة في العالم، وعندما يفرض تدابيره الاقتصادية وما إلى ذلك. ففحش وبذاءة خطابه يخفي هذا الفحش الأهم والأبرز. هنا يمكن للمرء أن يعيد صياغة مقولة الأخوة ماركس المعروفة: ترامب يتصرف ويبدو كسياسي فاحش وبذيء بطريقة وقحة، لكن يجب ألا ننخدع بهذا، فترامب بالفعل سياسي فاسد وبذيء بوقاحة.
يشكل انتشار الفحش العام اليوم مجالًا ثالثًا بين المجالين الخاص والعام: إنها مساحة خاصة مرتفعة إلى المجال العام؛ يبدو أنّ هذا هو الشكل الأكثر ملاءمة لوصف انغماسنا في الفضاء الإلكتروني، ومشاركتنا في جميع غرف الدردشة الممكنة، مشاركاتنا على تويتر والانستغرام وفيسبوك… لا عجب في أنّ ترامب يصدر معظم قراراته علانية عبر تويتر! ومع ذلك، فنحن لا نحصل على “ترامب الحقيقي”. مجال البذاءات العامة هذا لا يتعلق بتبادل الخبرات الحميمة؛ إنه مجال عام مليء بالأكاذيب والنفاق والوحشية الصرفة، إنه المجال الذي نشارك فيه جميعًا بطريقة مماثلة لارتداء قناع مثير للاشمئزاز. وهكذا، تتحول العلاقة المعيارية للكرامة والوقار العامّين بين حميميتي والأخر الأكبر؛ فلم تعد البذاءات مقتصرة على التبادلات والمحادثات الخاصة؛ بل أصبح الناس ينفجرون في المجال العام نفسه، مما يسمح لي بأن أسكن في الوهم القائل بأن الأمر كله مجرد لعبة بذيئة، بينما أظل بريئًا في نقاوتي الحميمية. إن المهمة الأولى للناقد هي إظهار أن هذه النقاء مزيف في جميع المجالات، ليس فقط في السياسة؛ ولكن أيضًا في الترفيه.
لنلقي نظرة على هذا المثال الحديث:
” تاجرت غوينيث بالترو بـ [أعضائها الحساسة]؛ فقد قدمت لنا ومن خلال منصتها الصحية Goop مفهوم [المنتجات الخاصة جدا، والطلب عليها عال]، مما أدى إلى فتح قائمة انتظار. / ……/ الهدف، كما ذكر في وصف Goop بتفاؤل، هو: “أن نضع في اعتبارنا الخيال والإغراء والدفء الراقي”. إذا أردت شراء أحد المنتجات من خلال قائمة الانتظار، سيكلفك 75 دولارًا أو 58 جنيهًا إسترلينيًا.” مرة أخرى، يبدو أن بالترو تلعب فقط لعبة فاحشة بينما تحتفظ بوقارها وكرامتها الحميمة، وهذا ما يجب على المرء أن يرفضه: لا، وقارها وكرامتها الحميمة هي قناع زائف يخفي حقيقة أنها تتاجر علانية بأعضائها الجنسية.[4] ويمكن للمرء أن يتخيّل بسهولة شخصًا من وكالة مكلفة بحماية العملاء وهو يطرح السؤال: كيف يعرف العميل أنّ المنتج مشابه لما تروج له بالترو؟ هل هناك طريقة للتحقق من ذلك؟.
رابعًا: الشعبوية الجديدة ليست فاشية
انفجرت تناقضات ترامب مع جائحة كورونا؛ حيث لوحظ ارتجاله المشوَّش في تفاعله مع هذا الوباء: أشاد أولاً بإجراءات الصين، ثم ألقى باللوم على الصين والديمقراطيين لتسببهم في مشاكل أمريكا. وكل هذا كان ممزوجًا مع الانحرافات الشخصية حول العلاجات المحتملة ونداءات للعودة السريعة إلى الحياة الطبيعية. هذا المزيج من البذاءات وجنون العظمة السياسي والحكمة الشعبية يجسد تمامًا طبيعة شعبوية اليوم اليمينية الجديدة؛ لكنه يظهر أيضًا الفرق بين الشعبوية “الشمولية” التقليدية والشعبوية اليمينية الجديدة والظاهرة هذه الأيام. لذا، فلننتهز هذه الفرصة لنرجع خطوة ونحلل عن كثب الطبيعة الفريدة للشعبوية الحالية. (اعتمدت هنا بشكل مكثف على عمل يوفال كريمنتزر [5].) مثل أي شعبوية، لا تثق الشعبوية الحديثة أيضًا في التمثيل السياسي والتظاهر بالتحدث مباشرة إلى الناس، كما تشكو الشعبوية الحديثة أيضًا من تقييد يديها من قبل “الدولة العميقة” والمؤسسة المالية، لذا فإن رسالتها هي: “لو لم تكن أيدينا مقيدة لكان بإمكاننا التخلص من أعدائنا مرة واحدة وإلى الأبد”. ومع ذلك، على عكس الشعبوية الاستبدادية القديمة -كالفاشية المستعدة لإلغاء الديمقراطية التمثيلية الرسمية وتبني نظام جديد وفرضه- فإنّ الشعبوية الحديثة ليس لديها رؤية محكمة لبعض الأنظمة الجديدة؛ إن المحتوى الإيجابي لأفكارها وسياستها هو عبارة عن تضارب غير متناسق في تدابير رشوة الفقراء وخفض الضرائب على الأغنياء، وتركيز الكراهية على المهاجرين، وعلى وظائفنا النخبوية الفاسدة والمرتبطة بمصادر خارجية، إلخ.
هذا هو السبب في أن شعبويي اليوم لا يريدون التخلص من الديمقراطية التمثيلية القائمة والاستيلاء على السلطة بالكامل: “بدون ‘قيود’ النظام الليبرالي للنضال ضده= سيتعين على اليمين الجديد اتخاذ بعض الإجراءات الحقيقية” وهذا سيفضح مدى فراغ برنامجهم. هذه هي السّمة الأولى للشعبوية الحديثة: كل ما يستطيعون فعله هو تأجيل تحقيق هدفهم لأجل غير مسمى؛ وبما أنه ليس بمقدورهم إلا أن يعملوا كمعارضين “للدولة العميقة” للمؤسسة الليبرالية: فـ”لا يسعى الحق الجديد إلى إرساء قيمة عليا كالأمة أو القائد -أو على الأقل لم نصل لهذه المرحلة بعد- لأنّها تعبر تمامًا عن إرادة الشعب وبالتالي تسمح -بل وربما تتطلب- بإلغاء آليات التمثيل”. إذن، كيف يتعاملون مع هذا التناقض الجوهري لمشروعهم، مع عدم الرغبة الحقيقة في تدمير عدوهم المعلن؟ هنا يحل الأسلوب محل الافتقار إلى الجوهر السياسي، أعني أسلوب الجاذبية المباشرة للفحش. يشير كل ترتيب ثقافي إلى قواعده السرية المحددة غير المكتوبة التي تنظم ما لا يُسمح للمرء بالتحدث عنه علنًا. تعمل هذه القواعد غير المكتوبة على مستويات متعددة؛ بدءًا من الشائعات حول الجانب المظلم من الحياة الخاصة للقادة السياسيين واستخدام اللغة القذرة والتلميحات غير اللائقة إلى الحالات والقضايا التي تكون “ساذجة وطاهرة” إلى حد كبير.. وبالتالي فهي أكثر أهمية؛ لأنّها تعني ضمنيًا حظر التصريح علنًا بما هو أصلًا واضح. مثلًا؛ تقاعد دنغ هسياو-بينج رسميًا في السنوات الأخيرة من حياته، لكن كان الجميع يعرف بأنه استمر في سحب خيوط السلطة؛ فعندما أشار أحد كبار مسؤولي الحزب الصيني إلى دنغ على أنه الزعيم الفعلي للصين في مقابلة مع صحفي أجنبي، اتهم بالكشف علانية عن أسرار الدولة وعوقب بشدة. لذلك، فإنّ سر الدولة ليس بالضرورة ما يُسمح فقط للقليل من الأشخاص بمعرفته: يمكن أن يكون أيضًا شيئا يعرفه الجميع -الجميع باستثناء ما يطلق عليه الفيلسوف لاكان الآخر الكبير، أو ترتيب الظهور العلني.
ما يجب على المرء أن يضعه في عين الاعتبار هنا هو أنّ الفحش لا يتشارك جوهريًا مع القواعد غير المكتوبة، كما أنّه لا يحدث أيضًا عندما نجعل القواعد غير المكتوبة صريحة. لا يظهر الفحش عندما ننتهك القواعد الصريحة، بل عندما ننتهك القواعد غير المكتوبة أي غير الصريحة؛ عندما نفعل أو نقول شيئًا غير محظور بصراحة ولكن يتم التعامل معه على أنه شيء نعلم جميعًا أننا لا يجب أن نفعله أو نقوله. على سبيل المثال -وهو مثال مرعب محزن في نفس الوقت- على الرغم من أنّ المرء لا يتحدث عن هذا كثيرًا، فمن الواضح أنه ليست فقط البرازيل ولكن أيضًا العديد من الدول الغنية -من الولايات المتحدة إلى السويد- قررت التضحية بآلاف الأرواح وخاصة بأرواح كبار السن والمرضى للحفاظ على استمرار الاقتصاد والحفاظ على مظهر الحياة اليومية العادية. مثال أكثر سخافة: الجميع يعرف أن إخراج غازات البطن في الأماكن العامة فعل عديم الذوق للغاية، لكن إعلان هذه القاعدة يعد عملا فاحشًا وبذيئا في حد ذاته، قام ترامب بذلك عندما أثنى مرة على ميلانا كسيدة راقية في لقاء عام بقوله إنه وطوال حياتهم معًا لم يسمع مطلقًا انبعاث غازات البطن منها.
حدث شيء فريد مع الشعبوية اليمينية الجديدة: أصبح ممكنًا “بالنسبة للسياسي الذي من المفترض أن يكمن في الجانب المحتشم واللائق، أن يبدل بين الجوانب جذريًا ويستأنف مباشرة للفحش والبذاءة/ … / ما يجعل فهم هذا الشكل الجديد من السلطة أمرًا صعبًا للغاية هو الطريقة الصريحة التي يجعل بها الفضيحة تعمل بشكل خاطئ كصورة خادعة؛ أي أن ما يظهر لنا بأنه خلع للقناع يعمل كقناع.” لاحظ صياغة كريمنتزر الدقيقة هنا: تعمل إيماءة خلع القناع والتعبير الوحشي عمّا يعنيه المرء كقناع. لماذا؟ لأن الشكل الفاحش والبذيء يخفي فراغ محتواه. وظيفة الفحش والبذاءة هنا دقيقة للغاية: من المفترض أن تكون مؤشر “الصدق الإنساني”؛ على عكس التمسك الليبرالي بالقواعد الرسمية. يغير ترامب هذه الفكرة باستمرار؛ فهو يعترف بأنه دائما ما يخرق قواعد الأدب وغيرها من القواعد، ويلجأ إلى تلميحات مبتذلة سوقية، ويرمي أعدائه باتهامات لم يتم التحقق منها أو حتى باتهامات زائفة بشكل سافر -تذكر ما قاله عن ماكين وأوباما…-؛ لكنه وعلى عكس النظام السياسي الليبرالي الرسمي يقدم هذه الاعترافات كدليل على أنه يعني ذلك حقًا. بطريقة شبه ماركسية، يستنكر الشعبويون اليوم التحيّز السياسي في الإجراءات الرسمية للسياسة التمثيلية: قواعد اللعبة ليست حيادية ومتساوية لجميع المشاركين؛ فقد تم صنعها لمنع التعبير الكافي المباشر لإرادة الناس. هذه هي اللعبة التي يلعبها الشعبويون: يستحضرون أكاذيبهم باستمرار ويحاولون “تقديم ما يستعصي على المنطق التمثيلي” بينما يظلون ضمن “المنطق التمثيلي” للفضاء السياسي الليبرالي. إن التجاوزات المبتذلة والسوقية للشعبويين “تميّز المعارضة الليبرالية الرفيعة على أنها معارضة تنكر نفاقًا ما لم يعد اليمين يخشى عرضه علنًا ليراه الجميع. الحقيقة التي كشفها اليمين: -الكشف عن أن النظام الرمزي ليس إلا عرضًا للقداسة لإخفاء الواقع العنيف- تتوافق مع المشروع المناهض لأيديولوجية التفكير النقدي، وبالتالي يجد النقد نفسه عاجزًا عن معارضته”.
من هذا المنطلق، وفي حين أن النقد الشعبوي يعارض بشكل متماثل الإفشاء الصحيح سياسيًا عن أوهام الحياد الليبرالي؛ فإنهما مع ذلك يكملان ويعززان لبعضهما البعض: “الغضب الأخلاقي لليسار يغذي شهية اليمين للتجاوز، الأمر الذي يغذي غضب اليسار الأخلاقي.. وتستمر الدورة. ” لنكن أكثر دقة هنا: لدينا ثلاثة مواقع: أولاً، هناك الشرعية الليبرالية الرسمية التي تثق في حياد إجراءات التمثيل السياسي. ومن ثمّ هناك ثلاثة مواقف حاسمة تجاه هذا الموقف، بما في ذلك التحليل الصحيح سياسيًا الذي يقرأ الحياد الليبرالي الرسمي بريبة ويحاول أن يظهر تحيزه العرقي والثقافي والجنسي.. يبقى موقف الصواب السياسي ضمن الإحداثيات الليبرالية الأساسية؛ فهي تريد فقط تفعيلها بالكامل من خلال إلغاء تحيزاتها الخفية؛ لكن المشكلة هي أنّها تركز على المسؤولية الفردية. فبحماس أخلاقي، تحلل تفاصيل سلوك الشخص وتبحث عن آثار العنصرية والتحيز الجنسي؛ لكن مجالها هو الهوية الثقافية والجنسية وليس التغيير الاقتصادي والاجتماعي الجذري.. إنها تحثك على تغيير سلوكك للتخلص من الكليشيهات العنصرية والتمييز الجنسي، وليس لتحليل المجتمع الذي يلدهم.
تكمن القوة المروعة للشعبويين الفاحشين أو البذيئين في استعدادهم ليعلنوا ما يحاول ناقد الصواب السياسي اكتشافه من خلال تحليل دقيق. إنّهم يؤكدون براءتهم عن طريق الاعتراف المسبق -بما يراه ناقد الصواب السياسي- ذنبهم. الأمر الذي يجعل – بطريقة ما- تحليل الصواب السياسي عديم الجدوى كما لو كان يحاول اختراق باب مفتوح؛ لذلك لا عجب في أن نقاد الصواب السياسي يقضون الكثير من وقتهم في تحليل بعضهم البعض، واكتشاف آثار العنصرية والتحيّز الجنسي في تصريحات وإيماءات محترمة كما تبدو.
إنّ النزعة السياسية الأخلاقية الطاهرة، والعرض العام للشعب اليميني الجديد للفحش والبذاءة هما وجهان لعملة واحدة.. والمشكلة مع كليهما هي أنهم لا يفعلون ما وعدوا به. مشكلة الفحش الشعبوي ليست أنها غير مسؤولة أخلاقياً، ولكنها ليست فاحشة فعلًا: إنّ الموقف الجريء من تجاهل قواعد الآداب وقول كل ما يتبادر إلى ذهن المرء بصراحة ودون قيود هو واجهة وهمية تخفي الواجهة السميكة للعالم السفلي من القواعد غير المكتوبة التي تنصُّ على ما يمكن للمرء أن يقوله وما لا يمكن للمرء أن يقوله.
بطريقة متجانسة، ليس الأمر أن موقف الصواب السياسي أخلاقي صارم للغاية ويفتقر إلى حيوية الفحش والبذاءة؛ فالأخلاقية المفرطة للصواب السياسي مزيفة لأنها تغطي الوجه الانتهازي والنفاق وادعاء الفضيلة والعزة… إنه مليء بقواعده غير المكتوبة: الأقليات التي تحاسب أكثر من غيرها؛ معايير مختلفة تمامًا لما هو محظور وما هو مسموح وهي معايير تتغير بسرعة مثل الموضات؛ معاداة العنصرية على أساس الغطرسة العنصرية المخفية -مثلًا، الرجل الأبيض الذي يطلب من الآخرين تأكيد هويتهم لا يظهر هويته وبالتالي يحتفظ بمكان العالمية لنفسه-؛ وبشكل خاص، الوعي بالأسئلة التي يجب ألا تثار -كالمتعلقة بالتغيير الاجتماعي الجذري، إلخ-. يجب أن يكون هناك المزيد من النساء في مواقع السلطة؛ ولكن يجب ألا يتغير هيكل السلطة نفسه، يجب أن نساعد الفقراء؛ لكن يجب أن نبقى أغنياء، لا يجب إساءة استخدام مناصب السلطة في الجامعة من أجل أخذ الخدمات الجنسية ممن هم تحت سلطتنا؛ لكن لا بأس بالسلطة التي تؤخذ مقابل اتصال جنسي.
كانت أنجيلا ناجلي ومايكل تريسي محقين في رؤية أن السبب الرئيسي لفشل ساندرز في نضاله من أجل التنصيب الديمقراطي هو أن حملته انتقلت من التمرّد الطبقي الشعبي إلى المقاومة الليبرالية المناهضة لترامب، ومن الحرب الطبقية إلى الحروب الثقافية؛ فهم يرون أن ساندرز كان حريصًا على إرضاء اليسار الليبرالي في الحزب الديموقراطي، كما أنه أخضع التمرد الطبقي للمواضيع الثقافية – أي أنه أيّد بصمت وجهة النظر الليبرالية اليسارية بأن الخطر الرئيسي ليس الرأسمالية العالمية ولكن “فاشية” ترامب التي يجب أن نتحد ضدها؛ ليس من المستغرب أن يلعب بايدن هذه اللعبة بشكل جيد.. بل إن هناك الآن شائعات بأن حتى جورج بوش سيدعمه ضد ترامب.
خامسًا: أزمة الشعبوية الحديثة:
النظام العالمي الذي نعرفه يتفكك؛ تقطع الدول علاقاتها مع منظمة الصحة العالمية والمنظمات الدولية الأخرى بينما تلغي اتفاقيات التسلح القديمة، أعلن ترامب نيته لاستخدام الجيش في شوارع المدن الأمريكية، الصين تتحدث عن غزو عسكري محتمل لتايوان، وقال بوتين إن روسيا قد تستخدم الأسلحة النووية حتى لو تعرضت لهجوم بالأسلحة التقليدية.. وعلى هذا المنوال، كان من المتوقع أن ينتهز الشعبويون القوميون فرصة جائحة كورونا الجديد ويغيرون بلدانهم إلى إقطاعيات معزولة موجهة ضد الأعداء الأجانب؛ لكنها لم تنجح، حيث تحولت شجاعتهم إلى عرض للعجز وعدم الكفاءة الشديدين.
لنأخذ الشعبويين الاستبداديين الثلاثة الكبار في العالم اليوم، كما قالت أنجيلا ديوان “يجد ترامب وبوتين وبولسونارو كتبهم الشعبوية لا تتطابق مع فيروسات كورونا، كما أن بوريس جونسون أيضًا لا يلعب البطاقة الشعبوية”: “كان من الممكن أن تكون جائحة كورونا لحظة مجد للقادة الشعبويين في العالم؛ فهذه فترة من الخوف والقلق المتزايدين، والعواطف التي تسمح لهم عادة بالازدهار. وبدلاً من ذلك، يجد بعض الشعبويين أنفسهم عاجزين عن هذا التفشي الذي اجتاح بلدانهم.. ولدى الولايات المتحدة والبرازيل وروسيا الآن أكبر عدد من حالات الإصابة بفيروس كورونا في العالم، وبينما تستمر أعداد الوفيات في الارتفاع؛ تتعرض اقتصادات هذه الدول لضربات مدمّرة “.
وجد دونالد ترامب نفسه في مأزق استثنائي عندما تضخمت أزمة كورونا الجديد من خلال الاحتجاجات ضد مقتل جورج فلويد؛ يبدو أن هذا الوباء يتردد صدىً في هذه الاحتجاجات، حيث غالبًا ما تكون كلمات فلويد الأخيرة “لا أستطيع التنفس” هي الكلمات الأخيرة لمريض كورونا المحتضر أيضًا. الارتباط واضح: نسبة السود المتأثرين بعنف الشرطة وبفيروس كورونا الجديد تعد أعلى بكثير من البيض. وفي هذه الفوضى، يكون ترامب ببساطة خارج النطاق؛ غير قادر على فرض رؤية موحدة ولا لأداء لفتة القائد في هذا الوضع، داعياً لزعيم يقدم وصفًا صادقًا لخطورة الوضع مع نوع ما من الأمل والرؤية. أو كما كتب روبرت ريتش: “سيُغفر لك إن كنت لم تلاحظ ذلك. قذائفه اللفظية أعلى من أي وقت مضى، لكن دونالد ترامب لم يعد رئيسًا للولايات المتحدة ” عندما هدد ترامب بأنّه إذا تمكنت الشرطة والحرس الوطني من تحقيق الهدوء، فسيرسل الجيش النظامي لسحق الاحتجاجات بـ “قوته اللانهائية”، أصبح وكيلاً ومحرضاً على حرب أهلية.
لكن ما هذه الحرب؟
هناك شيء واحد حول الاحتجاجات الجارية في الولايات المتحدة لم يتم التأكيد عليه بما فيه الكفاية على الرغم من أنّه أمر حاسم للغاية: لا يوجد مكان للاستياء الذي يؤجج الاحتجاجات داخل مساحة “الحروب الثقافية” بين اليسار الليبرالي الصحيح سياسيا والمحافظين الجدد الشعبويين. موقف اليسار الليبرالي من الاحتجاجات هو: “نعم للاحتجاجات السلمية الكريمة ولكن لا للتجاوزات المدمرة والنّهب المتطرف.” وبطريقة ما هم على صواب، لكنهم يفتقدون معنى التجاوزات العنيفة والتي هي رد فعل على حقيقة أن الطريقة السلمية الليبرالية للتغيير السياسي التدريجي لم تنجح وأن العنصرية النظامية مستمرة في الولايات المتحدة. ما يظهر في الاحتجاجات العنيفة هو غضب لا يمكن تمثيله بشكل كافٍ في فضاءنا السياسي.
هذا هو السبب أيضًا في أن العديد من ممثلي المؤسسة -ليس فقط الليبراليين ولكن أيضًا المحافظين- ينتقدون بصراحة موقف ترامب العدواني تجاه المتظاهرين. تريد المؤسسة بشدة توجيه الاحتجاجات إلى إحداثيات النضال الأبدي ضد العنصرية، وهذا واحد من المهام الليبرالية التي لا تنتهي؛ فهم على استعداد للاعتراف بأننا لم نفعل ما فيه الكفاية وأن هناك عملا طويلا وصعبًا في المستقبل.. فقط لمنع التطرف السريع للاحتجاجات، ليس حتى نحو المزيد من العنف ولكن نحو تحولهم إلى حركة سياسية مستقلة مع منصة واضحة من المؤسسة الليبرالية. كما كتب ماثيو فليسفيدر: “لا نحتاج إلى تعلم كيف نكوّن “ما بعد الإنسان”، ولكن كيف نكوّن “ما بعد الرأسماليين” بشكل عادل”.[6] فما بعد الإنسانية هي في نهاية المطاف مجرد نسخة أخرى من عدم قدرتنا على التفكير فيما بعد الرأسمالية: نعيد صياغة ما قاله فريد جيمسون؛ من الأسهل تخيّل كل الإنسانية المرتبطة رقمياً بأدمغتها السلكية ومشاركة تجاربها في الوعي الذاتي العالمي بدلاً من تصور خطوة تتجاوز الرأسمالية العالمية.
إنّ الاحتجاجات العنيفة هي عودة المكبوتين لمجتمعاتنا الليبرالية، وهي عرض يصف ما لا يمكن صياغته في مفردات التعددية الثقافية الليبرالية. عادة ما نتهم الناس بأنّهم يتحدثون فقط دون فعل شيء ما؛ هذه الاحتجاجات المستمرة عكس ذلك تمامًا، حيث يتصرف الناس بعنف لأنهم لا يملكون الكلمات المناسبة للتعبير عن شكواهم. نعيد صياغة مقولة بريخت القديمة الجيدة مرة أخرى: “ما سرقة البنك مقارنة بتأسيس بنك جديد!” ونقول: ما هو الفحش أو البذاءة العنصري المباشر مقارنة بفحش وبذاءة الليبرالي الذي يمارس التسامح متعدد الثقافات بطريقة تسمح له بالاحتفاظ بالتحيّزات العنصرية. أو كما قال فان جونز: “لا يجب أن نقلق بشأن الشخص الأبيض العنصري الموجود في كو كلوكس كلان؛ لكن يجب أن نقلق بشأن مؤيدة هيلاري كلينتون البيضاء والليبرالية التي تمشي كلبها في سنترال بارك، والتي ستقول لك “أوه، لا أهتم للعرق فهو ليس مشكلة كبيرة بالنسبة لي، أرى كل الناس متشابهين، وأتبرع للجمعيات الخيرية” ولكنها وفي اللحظة التي ترى فيها رجلا أسود لا تحترمه -أو كانت تفكر فيه بدونية- تُسلّح العرق مثلما علمتها الأمة الآرية.” ومع ذلك، فإن المثال الذي أثارته جونز يعد أكثر تعقيدًا؛ فإن شعرت امرأة بيضاء بعدم الارتياح عند ملاحظتها لرجل أسود يقترب منها وأمسكت حقيبتها بإحكام خوفًا من تعرضها للسرقة، فقد يتهمها ناقد الصواب السياسي بالتصرف على أساس التحيّز العنصري. أما الشعبوية اليمينية الجديدة فسترجع بأن خوفها كان مبررًا لأنها على الأرجح قد سُرقت بالفعل من قبل رجل أسود.. ولا يكفي الرد بأنه يجب على المرء أن يطرح سؤالًا حول الأسباب الاجتماعية التي دفعت الرجل الأسود إلى التصرف في نهاية المطاف بهذا الشكل؛ فحتّى عندما يقوم منتقدو الصواب السياسي بذلك فهم يستخدمون هذه الحجة من أجل تشويه سمعة السارق الأسود وبالتالي استبعاده: “السارق ليس مذنبًا لأنه ليس مسؤولًا تمامًا عن أفعاله ولكنه نتاج لظروف مؤسفة؛ (في حين يُعامل العنصري الأبيض على أنه مسؤول أخلاقيا بالكامل؛ ويعامل على أنه حقير لهذا السبب). إنه خيار محزن للأسود المضطهد: إما أنك تعاني من نقص ذاتي (كما تراه العنصرية) أو أنك نتيجة لظروف موضوعية (كما يراه الصواب السياسي الليبرالي).. كيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ كيف نحوّل الغضب الجنوني إلى ذاتية سياسية جديدة؟.
قام بعض أفراد الشرطة أنفسهم بالخطوة الأولى في هذا الاتجاه؛ حيث انضم العديد من ضباط الشرطة بما فيهم رئيس شرطة نيويورك تيرينس موناهان كما وقفوا على ركبة واحدة إلى جانب المتظاهرين -وهي ممارسة قدمها الرياضيون الأمريكيون قبل عقود عندما فازوا بميدالية ذهبية وأثناء عزف النشيد الوطني في الأحداث الرياضية.. رسالة هذه البادرة هي الإشارة إلى الظلم العنصري في بلادهم، وبما أنّها علامة على عدم احترام النشيد الوطني فهذا يعني أن المرء ليس مستعدًا لتعريف نفسه بالكامل مع الولايات المتحدة “هذا ليس بلدي.”. لا عجب في أنّ التقرير الصيني المبتهج عن الاحتجاجات في الولايات المتحدة، يقدم الأحداث في أمريكا على أنّها تكرار لاحتجاجات هونغ كونغ؛ حيث كان أحد المطالب الرئيسية للسلطات الصينية هو أن هونج كونج يجب ألا تسمح بمعاملة غير محترمة للنشيد الوطني الصيني ورموز الدولة الأخرى. كما تحمل إيماءة الوقوف على ركبة واحدة معنى آخر، خاصةً عندما يقوم بها أولئك الذين يتصرفون نيابة عن جهاز السلطة القمعي: إنها إشارة إلى احترام المتظاهرين، مع لمسة من الإذلال الذاتي.. إذا دمجنا هذا المعنى مع الرسالة الأساسية “هذه أمريكا (التي من واجبي أن أعمل فيها) ليست بلدي” نحصل على المعنى الكامل للإيماءة: ليس المعيار المعادي لأمريكا، ولكن مطلب لبداية جديدة لأمريكا أخرى. إذن، يجب أن يتم صقل عنوان تعليق شبكة CNN الحديث “هل ما زالت الولايات المتحدة رائدة الأخلاق في العالم؟ ليس بعد ما فعله ترامب هذا الأسبوع” ليكون: نرى الآن أن الولايات المتحدة لم تكن أبدًا القائد الأخلاقي للعالم وأنّها بحاجة إلى طريقة تجديد أخلاقي وسياسي جذري تتجاوز الرؤية الليبرالية اليسارية للتسامح.
يجب على المرء أن يرسم تباينًا واضحًا بين المتظاهرين المناهضين للحجر الصحي والمتظاهرين بأهمية حياة السود أو بأنّ “حياة السود مهمة”. على الرغم من أن الشعبويين المناهضين للحجر الصحي يحتجون لصالح الحرية والكرامة العالمية، في حين أن احتجاجات Black Live Matter “حياة السود مهمة” تركز على العنف ضد مجموعة عرقية معينة، وأيضًا على الرغم من أن البعض في الشرطة ربما يتعاطفون مع الاحتجاجات المناهضة للحجر الصحي “إن فكرة مطالبة الشرطة بالانضمام إلى الأولى -المناهضين للحجر الصحي- مثيرة للضحك، على الرغم من أنّها مقبولة عالميًا، في حين أن الأخيرة -المتظاهرين لأجل حياة السود- ترحب بالشرطة على الرغم من أنها تبدو كفاح استثنائي”[7] باختصار، تحتوي الاحتجاجات العالمية المناهضة للحجر الصحي على دوران خفي نحو الهوية البيضاء في حين أن الاحتجاجات المدافعة عن حياة السود عالمية بشكل فعال: الطريقة الوحيدة لمحاربة العنصرية من موقع عالمي حقيقي اليوم في الولايات المتحدة هي النظر إلى العنصرية المعادية للسود باعتبارها “عالمية فردية” وكحالة خاصة توفر مفتاح العالمية.
كثيرًا ما اقتبست في كتبي نكتة قديمة من جمهورية ألمانيا الديمقراطية البالية: عامل ألماني يحصل على وظيفة في سيبيريا؛ وإدراكا لإمكانية قراءة جميع رسائل البريد من قبل الرقيب، قال لأصدقائه: “دعونا ننشئ شفرة: إذا كانت الرسالة التي تلقيتها مني مكتوبة بالحبر الأزرق العادي، فهي صحيحة؛ أما إذا كانت مكتوبة بالحبر الأحمر، فهي خاطئة.” بعد شهر، تلقى أصدقاؤه أول رسالة منه مكتوبة بالحبر الأزرق: “كل شيء رائع هنا: المتاجر ممتلئة والطعام وفير والشقق كبيرة ومُدفأة بشكل صحيح، كما تعرض دور السينما أفلامًا من الغرب لكن الشيء الوحيد غير المتوفر هو الحبر الأحمر”. هذا ما يجب أن تبحث عنه الحركة الاحتجاجية: “الحبر الأحمر” لصياغة رسالتها بشكل صحيح، أو كما قال عمدة نوارك وابن الشاعر الأسود الكبير اميري بركا، راس باركا: لا يمكننا الفوز بالبنادق. للحصول على فرصة للفوز؛ علينا استخدام الكتب.
رفض العديد من النقاد اليساريين المتعصبين أو الأرثودوكسيين فكرتي عن الأفق الشيوعي الذي فتحه الوباء المستمر بحجة ماركسية قياسية مفادها أنّه لا توجد ثورة بدون حزب ثوري -قوة منظمة تعرف ما تريد- وأن مثل هذه القوة لا مكان لها ليتم رؤيتها هذه الأيام. ومع ذلك، فإن هذا النقد يتجاهل سمتين فريدتين لوبائنا الحالي. أولاً، أن الوضع في الصحة والاقتصاد يتطلب اتخاذ تدابير وإجراءات تعلّق آليات السوق وتلتزم بمبدأ “لكل واحد حسب احتياجاته، ومن كل حسب قدراته” بحيث يضطر حتى السياسيون المحافظون في السلطة إلى فرض أشياء تشبه الدخل الأساسي العالمي. ثانياً، يقترب النظام الرأسمالي العالمي من عاصفة شاملة، حيث يتم الجمع بين أزمة صحية وأزمة اقتصادية وأزمة بيئية، وصراعات دولية، واحتجاجات مناهضة للعنصرية. لا تقتصر هذه الاحتجاجات الأخيرة على الولايات المتحدة فهي تظهر في جميع أنحاء العالم. يبدو الأمر كما لو أنّنا ندخل مرحلة جديدة من وعينا الأخلاقي حيث تعتبر العنصرية ببساطة لا تطاق.. إنّ الجمع بين كل هذه الصراعات والوعي بأنها مرتبطة بطريقة جوهرية، له إمكانات تحررية هائلة.
ملاحظات:
[1] مقتبس من مخطوطة غير منشورة.
[2] أعتمد هنا على مالدن دولار الذي شرح مفهوم الشائعات بجميع أبعادها.
[3] انظر: Angela Nagle، Kill All Normies، New York: Zero Books 2017.
[4] والآن يستمر الاتجاه: أعلنت المغنية إريكا بادو أنها ستبيع بخور المهبل المصنوع من ملابسها الداخلية المستعملة
[5] الاقتباسات غير المعتمدة التي تتبعها هي من يوفال كريمنتزر ، “العري الجديد للإمبراطور: وسائل الإعلام والجماهير والقانون غير المكتوب” (مخطوطة).
[6] الاتصالات الشخصية.
[7] تود ماكجوان، اتصال خاص.