ابتهال باخطيب
سهير ليالي و ياما لفيت وطفت
وفـ ليله راجع في الظلام قمت شفت
الخوف كأنه كلب سد الطريق
وكنت عاوز أقتله، بس خفت
عجبي !!
صلاح جاهين
أؤمن بمقولة ستيفن برسفلد:”هناك سرٌ يعرفه الكُتّاب: كونك تريد أن تكون كاتبًا لايكفي، فالصعوبة ليست في الكتابة، الصعوبة في الاستعداد والجلوس للكتابة”، لاتمام هذه المقالة كنت أستيقظ يوميًا في السابعة صباحًا على أمل الاستفادة من بركة الصباح، أفتح مستندًا وأتركه صفحة بيضاء لأنشغل بأمور أخرى قبل أن أتعب فأغلق جهازي، وهكذا لمدة ثلاثة أسابيع، لا أعاني من مشكلة تدفق الأفكار، وليست أعراض عودة لما يُسمى عزلة الكاتب، فما السبب؟
ما الذي يجعل كتابة مقال مَهَمة صعبة بالنسبة لشخص يعتقد بأنه ولد برأس كاتب، فكان مشغولاً بنسج القصص وبناء الشخصيات وتحليل ملامح الممرضات ومهارات الطبيب، عن الصراخ لحظة ولادته.
هل سبق وأن مررت عزيزي القارئ بلحظة البصيرة الفجائية، جملة في كتاب، جريدة أو حتى رسالة واتساب أو اعلان في أحد الشوارع، مقطوعة موسيقية، إيماءة أو حلم، لحظة أدركتَ بها أنك عثرت على إجابة السؤال الذي طالما شغل تفكيرك، سؤال ضاع عمرك وأنت تفكر فيه؟ بالضبط..
نقاش عن تحديات الكتابة ومدى جاهزية قلمي وصدري لسهام النقد، تمخض عن إجابة: الخوف هو السبب، الخوف هو الشبح الذي يُطارد الكُتّاب بملاءة بيضاء في عوالمهم الخفية، فالخيال ليس كما يتصوره البعض بستان أخضر وشلالات وشُرفات وردية، حتى في هذا العالم الموازي تتكون العشوائيات والحواري الضيقة والمقابر المظلمة.
لا يتمحور السؤال هنا حول واقعية خوف الكاتب من عدمه، بل حول أسباب هذا الخوف، كتب الشاعر الحلمنتيشي – وهو لون شعري فكاهي ساخر- هشام الجخ:” علمونا بالعصايَة ورضّعونا الخوف رضاعَة”
إن الخوف كما أراه نتاج تربية وتنشئة أسرية، قد يكون دلال مفرط لفتاة وجدت نفسها بعد سنوات تحمل أعلى الشهادات العلمية وهي في المقابل لا تجيد الطبخ وتشتهي إدخال أي صينية بالفرن، أو حرص مبالغ فيه على الصبي الذي غدى رجلاً لديه أطفال وهو لا يزال يُخرج أكياس القمامة في النهار لأنه يخاف الظلام.
مبررات الخوف ودوافعه كثيرة وللكُتّاب نصيب من هذه الظاهرة إن صح تسميتها، فالكتابة مواجهة مع النفس ومرآة تعكس ما ظننا أنه يقبع في غياهب اللاوعي واختفى بلا عودة.
يختلف الخوف في ماهيته ودرجته بين كاتب وآخر، ولكنه لصيقٌ بهم، يتجلى في أشكال مختلفة، كأن يُمثل أنا عُليا قامعة تحرص على أن لا ينجرف أحدهم خلف أوهامه أو رغباته الشخصية ويدرجها نصوصه، أو كحبر يبدأ بالتوقف عن السيلان إلى أن يجف تمامًا حين يجد الكاتب نفسه قد توغل أكثر مما يجب في غابة قد نصحوه بالابتعاد عنها قائلين: تسكنها الأسود والضباع التي تتغذى على جموح الخيال وجسارة الأقلام.
أو قد يظهر كرغبة دفينة بالكمال ونزعة نحو المثالية، فمهما كتب الكاتب لن يصل لمرحلة مشاركة نصوصه وتلقي النقد من القراء.
في الرواية والقصة القصيرة يعمد الكاتب الحقيقي للعب الدور أو تقمص أحد الشخصيات، بغية التفاعل مع العناصر المكونة لهذه الحكاية ونقل هذه التفاعلات بشفافية وصدق للمتلقي، أرى بأن الخوف هنا هو ما يدفع الكاتب إلى اختيار شخصية بعينها لتقمصها، من خلالها يمارس ما لا يقدر على ممارسته بالواقع، ويُسقط على الورق مخاوفه واحدًا تلو الآخر، كأوراق لعب على طاولة المحقق هيركول بوارو و1، 2، 3 عرفت القاتل.
في زمن سابق كان لنظرة المجتمع دور في رواج ألقاب كثيرة في مجالي الأدب والشعر، الشيء الذي جعل العديد من الأقلام النسائية وعلى مدى التاريخ تختبأ خوفًا خلف أسماء مستعارة، فالكتابة كما رأى الجاحظ هي شرف وحق للرجل، ووسيلة جنسية تفتح علاقات العشق والرفث للمرأة.
يُقال في اللهجة الدارجة: “اللي تخاف منه ما يجي أحسن منه” وهو ما يتفق مع مقدمة مسلسل اسمه: باب الريح:” باب يجيب الريح والله لا أفتحه”، بعد سنوات من المماطلة في إصدار باكورة إنتاجي الأدبي، وجدت نفسي أمام مستند جاهز للنشر خلال مدة وجيزة، فمن كان يعرف بأن الخوف الذي لازمني لمدة طويلة، وخيم على رأسي فكرة أن نصوصي أضعف من أن ترى النور، ولم ترتقِ لمستوى الأدب المنشور؛ كان يحتاج فقط ليد تمتد لترفع الملاءة كاشفةً عن لا شيء، لاشيء تحتها سوى وهم اعتنقته حد التصديق.
ليس كل الخوف مذموم، فبعضه يُعد ذخيرة لأسلحة الكاتب، ما إن يتم توظيفه كما يجب ويتحول لدافع يقف خلف نصوص استشفائية تبدأ بسرد تجربة وتنتهي بالتفريغ الوجداني وتطهير الروح، بهذا السياق أذكر لوحة عُلقت على جدار مدرسة ابتدائية، نُقشت عليها المخاوف الإنسانية وما نتج عنها، حيث تقول: “خاف الإنسان الجوع فاخترع الطعام، خاف الفقر فاخترع العمل، خاف الظلام فاخترع النور، خاف المرض فاخترع الدواء، خاف الجهل فاخترع العلم، خاف الموت فاخترع الكتابة”، هذه الكتابة يتماشى آخرها مع سؤال شَن للرجل المسن في الحكاية المعروفة عن مناسبة مَثَلِ (وافق شَنٌ طبقة) حين تساءل عن الجنازة وهل مات صاحبها أم لم يمت!!، هنا دلالة على أن غريزة الخوف قد ينتج عنها سلوكيات إيجابية، فمن يخاف الكتابة يكتب خوفًا من الموت وخوفًا من النسيان، إذن الخوف ممارسة يسندها اعتقاد، إن ظنناه مثيرًا إيجابيًا فهو كذلك، أو فليكن عائقًا ولنتحمل العواقب.
كيف نتخلص من الخوف؟
تختلف الكتابة الأدبية عن العلمية اختلافًا كبيرًا، ولهذا يجب على الأديب معرفة دوافع الخوف أولاً، لماذا يخاف تساقط الأحرف، ما الذي يعنيه هذا التدفق، وما تبعات هذه العملية عليه؟
بالنسبة للكتابة العلمية فالخوف غالبًا يرتبط بفكرة الفشل في إتمام هذا البحث أو مدى جودة هذه المعلومة، وهناك أكثر من طريقة يعمد لها المعالجون لحل مشكلات واضطرابات العملاء الناجمة عن الضغوط اليومية من خلال استغلال الكتابة كوسيلة علاجية، على سبيل المثال: التدوين الحر لمدة 15 دقيقة، مجرد كتابة دون معايير أو شروط أو ترتيب، فقط اكتب ولا ترفع القلم، وهذه الطريقة تمرين جيد للمبتدئين في الكتابة الأدبية أيضَا.
كتابة المواقف السلبية فور حدوثها: تسجيل الموقف السلبي فور حدوثه يساعد الشخص على تخطي الغضب والوصول لمرحلة الهدوء سريعًا، فهو حديث منفتح مع الذات وتعبير حر عن موقفه دون أن يتعرض لمقاطعات أو صدام، أو يشتكي غياب التفاعل وعدم الانصات، ميزة هذه الطريقة أنها تروض الشخص وتكسبه مهارة التعامل تحت الضغط، فالموقف المكتوب في ثلاث صفحات في أول يوم، سيتحول إلى خمسة أسطر في اليوم السابع.
كتابة اليوميات -وعن تجربة شخصية- أفضل الطرق للانفتاح على النفس والتخلص من المخاوف المُعيقة أمام التعبير عن الذات، كما أنها شحذ للقلم وإعادة تعبئة لمحابر هواة الكتابة الإبداعية ومن يمتلكون الموهبة الأدبية.
ومضة:
نحن نتاج أفكارنا، نفكر صح، نعيش صح
نفكر خطأ، نعيش خطأ
نفكر بجنون، نعيش مغامرة مجنونة
نفكر بالخوف، نعيش جنب (الحيط)
“الشاعر الحلمنتيشي”