محمد قناوي
قال معاوية رضي الله عنه لصُحار العبدي: ما هذه البلاغة التي فيكم؟ فقال: شيء تجيش به صدورنا ثم تقذفه على ألسنتنا[1]
هذا أحد مواطن البيان، الذي به فضل الله الإنسان على غيره من المخلوقات، وقد امتنّ الله علينا بذلك فقال ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾ فامتنّ الله على عباده، وبكَّتَ[2] المعرضين بأن علمهم الإبانة عما يجيش في خواطرهم، ويعتلج في نفوسهم . والبيان كثيرة طرقه، متشعبة أوديته، فمن مبينٍ عن نفسه بقلمٍ يَخُط به خطوطًا تسر الناظرين، ومن مبينٍ عن مكنون نفسه بكلام بديع نظمه، حسن لفظه، وهو البيان العربيّ، فإن جوهر هذه الأمة العربية في الكلمة والبيان عن المكنون بالكلمة، ولعل ذلك ما حدا بالأصمعي أن يقول ” إذا تظرّف العربيُّ كَثُر كلامه، وإذا تظرَّف الفارسيُّ كَثُر سكوته “[3]، وعلى هذا جاء الإعجاز الأكبر، الذي حيّر عقولهم وأبهر = القرآن الكريم.
ووجه الإعجاز في البيان عند الشعراء أو الأدباء بصفة عامة، ليس في مجرد التعبير عن النفس بمجرد الكلام، ولكن الإعجاز كل الإعجاز في انسجام مشاعرهم مع آفاق اللغة العربية وما تحويه من ميزاتٍ رفعها الله بها على غيرها .
فعبقرية الشعراء أنهم أطرقوا كثيرًا لأصوات أنفسهم، وما يعتلج فيها من خواطر وذكريات،وما ينقدح فيها عند الشدائد والملمّات،حتى إذا اجتمعت المعاني على وجهٍ هم يعرفوه من أنفسهم = تكلموا بكلام يريك هذه الأمور رأي العين كنسيم الصبا كنت تشعر ببرده فإذ بك تراه ! فبعد أن كنت تشعر وتعجز عن الإبانة ـ تراه يصور لك المعنى في صورة تجليه، أو ينظمه بطريقة تنبهك على مواضع كنت عنها غافلًا، فهذا أمر أشبه ما يكون بالسحر بل هو السحر، فقال صلى الله عليه وسلم ” إن من البيان لسحرا ” ، فالمبين عن نفسه بألطف الطرق وأعذبها لسانُ من لا لسان له، وقديمًا كان للخلفاء كُتّاب يكتبون لهم رسائلهم التي تبعث للأمصار، فكان الكاتب لسان الخليفة مبين عنه، فكانت تلك المنزلة لا تنال إلا بالكدّ الطويل والتحصيل الكثير، يقول ابن قتيبة رحمه الله في مقدمة كتابه أدب الكاتب ” وليست كتبنا هذه لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم، ومن الكتابة إلا بالاسم، ولم يتقدم من الأداة، إلا بالقلم والدواة، ولكنها لمن شَدَا شيئاً من الإعراب ….”[4] ثم أخذ يعدد علومًا كثيرة غير اللغة وغريبها وإعرابها، وما ذاك إلا ليكون الكاتب له اليد الطولى فيما أراد أن يكتب فيه، ولا يقعد به العيّ عن الإبانة، ولا الجهل عن التوضيح .
والعربية في نسقها وبنيتها تمكن صنّاع البيان من التعبير عن خلجات أنفسهم بما لا يوجد في لغةٍ أخرى، فليس المقدُّم فيها كالمؤخر، ولا المظهر كالمضمر، ولا المعرَّف كالمنكّر، ولا التشبيه كالاستعارة وغير ذلك من دقائقٍ وفرائدٍ لو تنبّه لها القارئ لحار عقله في بديع اللغة وجمالها .
فصنّاع البيان صوتٌ من أصوات النفس البشرية بحزنها وفرحها،وبكائها وضحكها،وفقدها ولقائها، وشجاعتها وإحجامها، فتجد نفسك تتحسر ألمًا عند سماع عينية الصمة القشيري وهو يقول:
كأنكّ بدعٌ لم ترَ البيْن قبلها .. ولم تكُ بالآلاف قبلُ مُفجّعا، وتكاد تهلك من الأسى والحزن عند رثاء أبي ذؤيب الهذلي لأبنائه الخمسة:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيتَ كل تميمةٍ لا تنفعُ
فالعينُ بعدهمُ كأنّ حداقها
سُمِلت بشوكٍ فهي عورٌ تدمعُ
وتجد نفسك قد علت، وهمّتك قد شُحِذت عند سماع امرئ القيس وهو يقول:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشةٍ .. كفاني- ولم أطلب- قليلٌ من المالِ
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثّلٍ .. وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي، وتجد في نفسك من الزهو والفخر عند سماع بائية أبي تمام وهو يخلد بشعره موقعة عمورية وما دار فيها، فيقول:
فَتحُ الفُتوحِ تَعالى أَن يُحيطَ بِهِ
نَظمٌ مِنَ الشِعرِ أَو نَثرٌ مِنَ الخُطَبِ
فَتحٌ تَفَتَّحُ أَبوابُ السَماءِ لَهُ
وَتَبرُزُ الأَرضُ في أَثوابِها القُشُبِ
يا يَومَ وَقعَةِ عَمّورِيَّةَ اِنصَرَفَت
مِنكَ المُنى حُفَّلاً مَعسولَةَ الحَلَبِ
أَبقَيتَ جَدَّ بَني الإِسلامِ في صَعَدٍ
وَالمُشرِكينَ وَدارَ الشِركِ في صَبَبِ
وما تحصل هذه النشوة عند سماع هذه الأبيات إلا لأنها صادفت في خبايا نفسك صوتًا ضعيفًا خافتًا تكاد تعزب عنه، تحسّه ولا تستطيع الإبانة عنه فجاءت الأشعار وغيرها من ألوان الأدب مغذّية لخبايا النفوس، ومفتِّحة لآفاقٍ جديدة في نفسك لم تك تعرفها من قبل . فليس الشعر يتفاضل فيما بينه إلا بقدرة الشاعر على صوغ المعاني التي تصول وتجول في نفسه في قوالب الألفاظ، وقد ذكر العباس بن الحسن الطالبي رجلًا، فقال: ألفاظُه قوالب معانيه .[5]
ولا يعرف لهذا البيان حقّه، ويفهمه حق الفهم إلا المغرق في العروبة الضارب فيها بجذوره فيفقه دقائق هذا النظم على حقه، ويطرب لها كل الطرب، فقال أحدهم: “ما رأيت أحدًا يتكلم فيحسن إلا أحببت أن يصمت خوفًا من أن يسئ، إلا زيادًا، فإنه كلما زاد زاد حسنًا ” [6] يعني بذلك زياد بن أبيه صاحب الخطبة البتراء وهو أحد الخطباء المفلقين.
وإن شئت أن أوقفك على العجب الذي لا ينقضي، فتعال وانظر إلى علم البلاغة، وقل لي كيف استطاع العلماء على مر العصور أن يتوصلوا إلى قواعد وضوابط يفقه بها الأعجمي الفاقد للحسّ العربي مواضع الجمال في النصّ العربي البليغ ؟ هذا مما يبهر العقول، وما كل هذا إلا أثر حفظ الله لهذه اللغة، فوفق لها جنودًا وحرّاسًا يحفظون أمرها، فلما انفرط عقد الفصاحة والسليقة سعوا في جمع الأشعار وتدوينها وبيان غريبها بما يتلاءم مع الحسّ اللغوي لأهل ذلك العصر، حتى إذا غابت الفصاحة كلها، سعوا في وضع حدودها وتبيبن رسومها، وهكذا من جيلٍ إلى جيل، فمن الجاحظ إلى عبد القاهر، ومن عبد القاهر إلى الزمخشري، ومن الزمخشري إلى السكاكي، ومن السكاكي إلى القزويني، وعلماء غيرهم من بينهم كثير، ولكن لمّا جمد العقل العربي، ودبّ آثار المرض في جسد الأمة = عجزنا عن مواصلة مسيرة أسلافنا في الحفاظ على جوهر الأمة وهو البيان، ولكن أول خطوة على طريق الإصلاح هو استعادة الثقة في لغتنا وأدبنا وفي قدرتها على الإبانة عن كل شيء مما في اللغات الأخرى بل ويزيد .
[1] عيون الأخبار (2/194) طبعة المكتب الاسلامي.
[2] قال الطاهر بن عاشور: “وَفِيه مِن التَّبْكِيت ما عَلِمْته آنفًا، ووجهه أَنَّهم لم يشكروه على نعمة البيان إِذ صرفوا جزءًا كَبِيرًا من بيانهِم فيما يلْهِيهم عن إِفراد اللَّه بِالعبادة وَفِيما ينازِعون بِه من يدعوهم إِلَى الْهدى” التحرير والتنوير (27/234).
[3] عيون الأخبار (2/199).
[4] أدب الكاتب (16) طبعة دار الطلائع.
[5] عيون الأخبار (2/192 ).
[6] البيان والتبيين (1/305).
مقال من أجمل ما قرأت