- يوسف محمد
- تحرير: أميرة القحطاني
العلموية (Scientism) هي ظاهرة تفترض أن العلم هو الطريق الوحيد لتحصيل المعرفة، وتُقدَم هذه النظرية في المداولات الشعبية والإعلامية على أساس افتراض نزاهة المجتمع العلمي، وخلو العلوم من مظاهر سوء السلوك، والتحيُّز بأشكاله المختلفة، وتزوير بيانات الدراسات وغيرها. فهي نظرة قائمة على تقديس العلم، لكن الواقع يُظهر عكس ذلك تمامًا، ودونك -أيها القارئ-عرضٌ لبعض الأمثلة:
أ– أبحاث في مجلات مرموقة خُطِّئت فيما بعد:
في واحدة من أشهر أوراق الطب[1] طبيب جامعة ستانفورد (John P. A. Ioannidis) أثبت بدليلٍ إحصائي جيد أن معظمَ نتائج الأوراق المنشورة في مجال الطب خاطئة! ما قام به أنهُ راجعَ عددًا كبيرًا من الدراسات الأكثر اقتباسًا (أي: التي يُستشهدُ بها كثيرًا في الدراسات الطبية) في تاريخ الطب، والمنشورة في أرقى المجلات العلمية، مثل: (NEJM, The Lancet, Science, Nature, Cell)، ثم بعد عشرين عامًا من نشرِ هذه الدراسات، بحث عن نتائجها، هل أُكِدتْ أم خُطِئت بالبحث العلمي، فلاحظ أن معظم نتائج هذه الدراسات قد خُطِّئت بعد تكرارها، وهو يذكر في ورقتهِ الأسباب التي تؤدي إلى ذلك، ومنها:
– صِغر حجم العينة التي تستخدم في الدراسات؛ إذ يجب أن يكون حجم العينة كبيرًا، فلا يمكن -على سبيل المثال- إحضار خمسين فردًا وتجربة تأثير عقار ما عليهم، ثم تعميمُ النتيجة التي يتوصل إليها على كل البشر، اعتمادًا على هذه العينة الصغيرة.
– قد يتأثر البحث العلمي بأيديولوجية الباحث أحيانًا. فمثلًا، قد يُثبت الباحث فرضية تؤيد رأيهُ الشخصي، ويجمع بيانات تدعم هذه الفرضية، ثم ينشرها متجاهلًا المعلومات التي تخالفها.
– يستدل معظم الباحثين على الدلالة الإحصائية في الدراسة للتأكيد على صحة البحث، وهذا خطأ؛ لأن الباحث يفترض شيئًا لا دليل عليه، ومثال ذلك قولنا: دواء (z) يقلل ضغط الدم 10 مم[2] زئبق، وهناك احتمال آخر يفترض أن دواء z)) لن يقلل ضغط الدم، لو ثبت في دراستهم أن نسبة صحة الاحتمال الثاني ضئيلة، فسيقال إن بحثهم له دلالة إحصائية عالية، وكأنهم بذلك ينفون الاحتمال الثاني، ويأكدون فرضية أن الدواء (z) يقلل ضغط الدم 10 مم زئبق؛ لذلك لا يمكن الاعتماد على الدلالة الإحصائية فقط لإثبات صحة الفرضية، بل يجب أن تُؤكد الدراسة من فرق بحثية مختلفة، وألا تقتصر على بحثٍ واحد.
ب– بعض أشكال التزوير والفساد في الوسط العلمي:
كان عالم التخدير (Scott Reuben) من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يفبرك العديد من الأبحاث، وينشرها في المجلات الخاصة بعلم التخدير، مثل: الدورية المرموقة (Regional Anesthesia and Pain Medicine)، فسجن لستة أشهر بسبب ذلك، وسُحِبت أبحاثه، لكن علماء التخدير ظلوا يستشهدون بأبحاثه (حتى بعد سحبها) لمدة تصل إلى خمس سنوات! وكان ربع العلماء قد أقرّوا بسحب أبحاثه في استشهاداتهم، أما ثلاثة أرباع العلماء فكانوا يستشهدون بأبحاثه بوصفها علمًا نزيهًا![3]
– يوجد نداء بسحب حوالي 400 بحث اسُتشهد به في كثير من الأبحاث المتخصصة في مجال زراعة الأعضاء، هذه الأبحاث منشورة في دوريات، مثل: (Transplantation) و(PLoS ONE) من قبل معاهد أبحاث صينية؛ إذ كانت الأعضاء المستخدمة في هذه الأبحاث لسجناء من الصين تعرضوا للإعدام، وبالفعل سُحِب عدد من هذه الأبحاث! [4]
– الناشر الألماني الشهير (Springer) سحب حوالي 107 دراسات، استُشهد بها في العديد من الأبحاث في دورية Tumor Biology)) التي ينشرها، وهي متخصصة في مجال الأمراض السرطانية؛ وذلك لاكتشافه أن عملية مراجعة أقران هذه الأبحاث كانت مزيفة! [5]
– في روسيا يوجد حوالي 6000 دورية أكاديمية متخصصة في المجالات العلمية المختلفة، كالكيمياء، والفيزياء، والاجتماع، والاقتصاد، وعلم النفس، وغيرها. سُحِب منها ما يقارب 800 دراسة من الدوريات الأكاديمية الروسية لأسباب مختلفة، منها: سرقة الباحثين لأفكار بعضهم البعض، وتكرار نشر نفس الدراسات في مرات كثيرة، وتزوير أسماء كاتبي الدراسة، فعلى سبيل المثال كتب مجموعة من العلماء المجهولين كلامًا لا علاقة له بالعلم، ثم نسبوا هذا العمل لعلماء آخرين؛ وذلك بكتابة أسماء هؤلاء العلماء الآخرين على البحث بدلاً من أسمائهم! وبحسب منظمة روسية مهتمة بتنظيف العلم الروسي من أشياء كهذه تسمى (Dissernet)، فقد رصدت حوالي 4000 حالة سرقة، وتكرار لنفس الأفكار، وحوالي 150,000 حالة تزوير للأسماء في 1500 دورية من دوريات روسيا، وحسب شركة (Antiplagiat) وهي مهتمة أيضًا بضبط حالات تكرار نشر نفس الدراسات أكثر من مرة، من بين 4.3 مليون دراسة روسية وجدت هذه الشركة أن أكثر من 70,000 دراسة قد تكرر نشرها مرتين على الأقل، بل وجدت بعض الدراسات التي تكرر نشرها مايقارب 17 مرة، وفي عام 2019 طلبت الجمعية الروسية للعلوم من 541 دورية أكاديمية روسية أن تقوم بسحب ما يقارب من حوالي 2528 بحثًا![6]
– سحبت أكبر منظمة أبحاث لتطوير التكنولوچيا the Institute of Electrical) and) Electronics Engineers (IEEE)) ما يزيد عن 7000 بحث دون ذكر أسباب واضحة لذلك! وهي منظمة تزخر بأبحاث في العلوم الفيزيائية والاجتماعية والتكنولوچيا. [7]
– يعترف حوالي 40% من الباحثين بارتكاب ممارسات بحثية مشكوك فيها، بما في ذلك التلاعب بالدراسات للوصول لنتائج محددة وفق أجندة مسبقة، وخلط النتائج السلبية للدراسات بالنتائج الإيجابية؛ لإضفاء الشرعية على هذه النتائج السلبية، وفي استطلاع وطني للباحثين العلميين في المملكة المتحدة، قال ما يقارب من 60% من المتفاعلين مع الاستطلاع: إنهم تعرضوا لضغطٍ يَهدِفُ إلى الإخلال بسلامة دراساتهم ومعايير ممارساتهم العلمية، هذا النوع من خيانة الأمانة العلمية وانتهاك أخلاقيات البحث العلمي يُثبت فشل نظام مراجعة الأقران؛ وذلك بحسب تقرير منشور من مجلة الطب الأمريكية، ويضيف التقرير أن معدلات سحب الأوراق العلمية في تزايد متسارع! [8]
ج– عندما يتسبب هذا الفساد في إيذاء الناس:
– ذكرت دراسة منشورة في مجلة أخلاقيات الطب أن الدراسات المعيبة والخداع في مجال الطب يُعرض المرضى للخطر، ويستمر ضرر هذه الأوراق حتى بعد التراجع عن الدراسة، واكتشاف سوء السلوك، والفساد الأكاديمي فيها، لكن هذه الدراسات المسحوبة لا تزال تؤثر على نتائج الدراسات اللاحقة التي تستشهد بنتائجها. لقد رصدت الدراسة علاج أكثر من تسعة آلاف مريض اعتمادًا على 180 دراسة أولية مزيفة، ورصدت -أيضًا- علاج أكثر من 70 ألفَ مريضٍ اعتمادًا على 851 دراسة ثانوية استندت على دراسات مسحوبة مُتراجع عنها بسبب الاحتيال [9].
– كشفت دراسة أجراها باحثون من جامعة كاليفورنيا الأمريكية منشورة في دورية (PLoS Biology) أن مؤسسة أبحاث السكر (مجموعة تجارية تُعرف اليوم باسم “رابطة السكر”) قد دفعت أموالاً لثلاثة باحثين في مجال التغذية من جامعة هارفارد أكبر جامعات العالم؛ من أجل إخفاء أبحاث تُظهر علاقة السكر بأمراض القلب؛ إذ طلبت المؤسسة من الباحثين إلقاء اللوم على الدهون بدلًا من السكر فيما يتعلق بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب. وبالفعل نشر هؤلاء الباحثون تقريرًا في دورية (NEJM)، وأخفوا عنه ضرر الإفراط في تناول السكريات على القلب. هذا التقرير الذي نُشِر دفع الكثير من الأمريكيين إلى التخلُّص من الأطعمة الدهنية في نظامهم الغذائي، واللجوء إلى الوجبات الخفيفة الغنية بالسكر، في حين أثبتت الأبحاث الجديدة أن الإفراط في استهلاك السكريات يمكن أن يكون مدمرًا للصحة[10].
ما ذُكر في هذا المقال ليس سوى جزءٍ بسيطٍ من الفساد المرصود في المجتمع العلمي[11]، وما دُوّن في هذا المقال لا يعني أن العلم خرافة أو أن العلم ليس له فضل على البشرية، لكنه يؤكد على خطورة الثقة المطلقة في العلم، فبعض من الأبحاث المذكورة سالفًا كانت تخرج في وسائل الإعلام ومواقع تبسيط العلوم الشعبية تحت مسمى (أثبت العلماء) و(أوصى الأطباء)، والحقيقة أن كل المذكور كان تزويرًا واحتيالًا! فلا تجعل من العلم إلهًا يُعبد.
[1] https://journals.plos.org/plosmedicine/article?id=10.1371/journal.pmed.0020124
[2] المليمتر الزئبقي وحدة مانوميترية لقياس الضغط.
[3] http://retractionwatch.com/2015/07/14/half-of-anesthesiology-fraudsters-papers-continue-to-be-cited-years-after-retractions [4] https://retractionwatch.com/2020/04/15/journals-have-retracted-or-flagged-more-than-40-papers-from-china-that-appear-to-have-used-organ-transplants-from-executed-prisoners [5] https://retractionwatch.com/2017/04/20/new-record-major-publisher-retracting-100-studies-cancer-journal-fake-peer-reviews [6] https://www.sciencemag.org/news/2020/01/russian-journals-retract-more-800-papers-after-bombshell-investigation [7] https://science.sciencemag.org/content/362/6413/393 [8] https://www.amjmed.com/article/S0002-9343(18)31161-6/fulltext?mobileUi=0 [9] https://jme.bmj.com/content/37/11/688.full [10] https://www.ucsf.edu/news/2017/11/409116/sugar-industry-suppressed-evidence-health-risks-sucrose [11]https://www.sciencemag.org/news/2018/10/what-massive-database-retracted-papers-reveals-about- science-publishing-s-death-penalty