- عبد الرحمن بن عايض الغامدي
- تحرير: ريم الطيار
في زمنٍ مضى كان للمعلومات شيءٌ من الخصوصية، ففي كل فنِّ من الفنون يوجد عددٌ من العلوم والمعارف لا يصل إليها إلا المختصّ، وكان العلماء في كل فنّ يَقصُرون عرض وشرح دقائق فنّهم وفلسفته على المختصين، ليس احتكاراً أو ضنّا بالعلم، بل لمصحلة غير المختصّ؛ إذ لا يستطيع فهمه وإدراكه على وجهه، فيكون سبباً لتشويش ذهنه، واختلال تصوراته بمفاهيمَ خِداج.
وفي عصرنا الحاضر، ومع هذا الانفجار التقني المعرفي الهائل، أصبحت المعرفة حقاً مشاعاً لكل أحد، قراءةً، وفهماً، وتفسيراً، بل ومشاركةً وإنتاجاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
ولا شك أن هذا الانفتاحَ له أثر كبير في نشر العلم والمعرفة، وتوعية الناس وإرشادهم، وتسهيل سبل العلم لطالبيه.
ولكن أردت في هذا المقال أن أقرأ عدداً من الأعراض الجانبية لهذا الانفتاح، وأجتهدَ في تفسيرها وتحليلها، وهو من قبيل التعامل مع أمر واقع للكشف عن آثاره وتجلِيتها، ساعياً إلى اقتراح الحلول والمعالجات.
ومن أبرز هذه الأعراض:
أولاً: الثقافة الموهومة: هي ذاك الشعور بالثقافة والمعرفة على أرضية هشّة وضحلة، قد تنتج شخصاً يعرف ولا يفهم، وينقل ولا يدرك، يقتطف معلومات من هنا وهناك، ثم يبني عليها المعارف وينتج من خلالها الآراء، وكما قيل: ما بني على باطل فهو باطل، وهذا يفسر لنا ظهور الآراء الشاذة بل والمشوّهة، وقد قال الأوائل: أكثر ما يفسد الدنيا والدين: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي.
ثانياً: التخصص المشاع: فقد أصبحت التخصصات العلمية كلأً مباحاً ومشاعا لغير المختصين، فتجد كاتباً يرِد علوم الشريعة فينتقي منها الأقوال والأدلة، وينظّر لها ويدلّل ويحاجّ كما لوكان مختصّاً، بل تجد عامّياً يناقش عالماً في قول ابن عباس في المتعة، أو قول الحنفية في اشتراط الولي في النكاح! ليست مناقشةَ متعلمٍ طالبٍ للمعرفة، بل محاجّةً ومجادلةً وتقريراً! ومثل هذا لم يكن لولا سهولة الوصول إلى المعارف التخصصية، فقد كان الوصول لها سابقاً يتطلب بحثاّ وكدّا ينوء بحمله الكسالى والمتذوقون.
ثالثاً: فتنة الأهواء: تختص علوم الشريعة عن غيرها من العلوم بربّانيتها، فهي ربّانية المصدر والمقصد، ولذا كان اقتران التقوى بالعلم في أكثر من نص قرانيّ ونبويّ، قال الله عز وجل: ((واتقوا الله ويعلمكم الله)) [البقرة:282]، وقال تعالى: ((إنما يخشى الله من عباده العلماء)) [فاطر:38]، وجاء التشنيع بأقبح مثال على من يعلم ولا يتقي، فقد شبّهه الله بالكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، وقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتعوذ من علم لا ينفع.
وكانت هذه الخصيصة ظاهرةً في سَنَن العلماء في التربية والتعليم، فعلى قدر تعليمهم لطلابهم وتبصيرهم في علوم الشريعة يكون قدر تربيتهم لهم، وحرصهم على ترقّيهم في مراقي العبودية والتقوى، ولذا كانوا ضانّين ببعض علمهم عمن لا يستحقُّه، وهم بذلك ناصحين له، وحافظين لدينه من علم يكون فتنة لمن لا يفهمه على وجهه، أو لمن لا يحمل ديناً وتقوىً تعينه على وضعه في موضعه.
فمن هذا الوجه؛ كان سهولة الوصول إلى دقائق علوم الشريعة فتنةً للكثير من الناس، إذا وردت على عقولٍ لا تملك منهجية علمية ترقّيها لفهمها، وقلوبٍ لا تملك تقوىً وديانةً تؤهّلها لحملها، وهذا العلم عزيز شريف، يحمله من كل خلف عُدوله لا فُضوله.
رابعاً: تعويق العجلة العلمية: للعلم دورة حياةٍ متراكمةٍ ومنتظمة، وهي ظاهرة وجلية في تاريخ العلوم، بدءاً من بذرة التأليف الأولى ونشأة العلم، ثم البناء والتنظير، ثم الجمع والترتيب، ثم الاعتراضات والمناقشات، وصولاً إلى الإنتاج الإبداعي، وهكذا، حتى تصبح كثيرٌ من المعلومات والمعارف من قبيل المسلّمات العلمية، فقد أخذت حقّها من النظر والتمحيص والإنضاج على مدار سنين متعاقبة، وبعقول مختصين وعلماء.
ومع الانفتاح المعرفي الواسع، وولوج من لا يدرك تاريخ العلم، ونشأته، وخصوصيته، ومسلّماته، انشغل أهل الفن بمعالجة أفهامهم الضعيفة، واستشكالاتهم المتهافتة من أصلها -وليس المراد بذلك طالبي الحق والمتواضعين له، فتعليمهم وتبصيرهم من واجبات العالم – وهي استشكالات يدرك معها كل مختص أنها لا تستحق أن يُكتب في الجواب عنها حرفاً، فضلا عن أن يسطر فيها مقالا أو كتاباً، ولكنهم ينبَرون لذلك دفاعاً عن العلم وذوداً عن حياضه، ولما لهذه المقالات من انتشار واسع ومؤثر.
ولهذا أثر ظاهر في تعطيل عجلة الإنتاج والإبداع العلمي، الذي كان يسير بين أهله على سَنن ٍعلمي واضح، لولا تشغيب الفضوليين وتعكيرهم.
خامساً: عمومية الخطاب: من المسلمات العقلية؛ ضرورة اختلاف الخطاب في بِنيته ولغته حسب اختلاف المخاطبين، فللقضية الواحدة خطابٌ يخص العلماء، وخطابٌ يخص المثقفين وقادة الرأي، وخطابٌ يخص عموم الناس، ومراعاة ذلك من العقل والحكمة، كما قال علي_ رضي الله عنه_: حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله!
فتخصيص الخطاب يُعد ضرورةً لفهمه وإدراكه على وجهه في العديد من القضايا، وضرورةً لفاعليته وتأثيره في جميع القضايا.
وهذا من الآثار الظاهرة للانفتاح المعرفي والتواصلي، فالمقالات والمناظرات والمواد العلمية تُطرح للعموم، منشورةً لكل قارئ ومستمع، ويندر تخصيصها أو التحكم في ذلك.
وبعد هذا العرض الموجز لهذه الآثار الواقعة؛ أطرح عدداً من المقاربات العلاجية التي قد يجد معها المؤثرون وأصحاب الرأي خطواتٍ عملية في هذا الموضوع:
أولاً: توعية أصحاب الرأي والنخب في كل المجالات والتخصصات بالمتغيرات المعاصرة المتعلقة بالانفتاح الثقافي والمعرفي، في زمن لا حدود فيه ولا فواصل.
ثانياً: أولوية البرامج والمبادرات المتعلقة بالقضايا المنهجية، وتعزيز الوعي في التعامل مع الأفكار والمعلومات، وفي علم الشريعة تأتي الأولوية لفنّ أصول الفقه، فهو القاعدة المنهجية للنظر والاستدلال في علوم الشريعة، ويكون تفعيل ذلك من جانبين:
الأول: التركيز على أصول الفقه في البناء المنهجي لطلاب العلم، بما يكسبهم الملكة في التعامل مع المستجدات والنوازل الفكرية والثقافية، ويمدهم بالتأصيل النظري والفلسفي للمسلّمات العقلية والشرعية.
الثاني: تسهيل ونشر بعض فروع علم أصول الفقه التي تخص عامة الناس، كبعض مسائل الاجتهاد والتقليد، وأحكام المستفتي، ومنهجية التعامل مع الخلاف الفقهي، وبيان عظمة هذا العلم ومكانته وأنه شرط للاجتهاد والنظر الشرعي.
ثالثاً: تعزيز مبدأ التسليم لله _عز وجل_ ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_، وقد أمر الله برد الأمر إلى أهل الذكر والعلم، وهم العلماء العاملون الربانيون، فهم ورثة الأنبياء في العلم والبلاغ،
فسهولة الحصول على المعارف والمعلومات لا تغني عن المرجعية العلمية المعتبرة التي أمر الله_ عز وجل_ بسؤالها وبالردّ إليها، أفلا ترى الإنسان حريصاً على مراجعة الطبيب واستشارته ولا يكتفي بالقراءة في المصادر الطبية، فإذا كان هذا حاله في حفظ بدنه، فحفظ دينه وعقله أولى وأحرى.
رابعاً: العناية بالبرامج التدريبية المتعلقة بمهارات التفكير الأساسية والعليا، والمنطق العقلي، لجميع فئات المجتمع والأطفال خصوصا، بما يكسبهم ملكة ومهارة في فحص المعارف، والمعلومات، وفهمها، واتخاذ الموقف العقلي والمنطقي الصحيح، فالتفكير والمنطق السليمين يحميان صاحبها من الوقوع في المغالطات الفكرية والآراء المشوّهة.
خامساً: تسهيل ونشر أبجديات البحث العلمي، وطرق الوصول للمعلومة الصحيحة، من خلال التعامل مع مصادر المعلومات المختلفة، ومعرفة الموثوق والمعتمد من غيره، والدلالة على المصادر العلمية وإبرازها في كل فن، فلم يعد هذا خاصّاً بالباحثين والمتخصصين، بل الحاجة إليه عامة، فالجميع يمارس البحث في المصادر والأوعية المختلفة للحصول على المعلومات.
سادساً: الاقتصار في نشر المقالات والأطروحات المتخصصة على الملتقيات، والتجمعات الافتراضية للمتخصصين، والتخفّف من النشر العام على تويتر أو واتساب لمقالات ومسائل لا تنفع عموم الناس.
سابعاً: إقامة برامج وندوات لأصحاب الرأي والنخب في المجالات المختلفة، في موضوع الخطاب المعاصر ومستجداته وأساليبه، ومعرفة درجات الخطاب وأنواعه وأهدافه وسبل صناعة الرسالة الخطابية المناسبة، بما يمكّنهم من الخطاب العام بلغة مناسبة لفئات المجتمع المختلفة.
ثامناً: العناية بفقه الموازنات والمصالح والمفاسد في نشر المقالات والكتب، وخاصة التي تعالج مواضيع خاصة، أو تخص فئاتٍ محددة، أو تدرس وقائع نادرة، فقد يَرمِي إلى معالجةٍ خاصّةٍ فتحصل من المفاسد الكبرى ما يطغى على مصلحته المقصودة.
وختـــــــــــاماً: فإن هذه المقاربة المطروحة تعالج جزءاً يسيراً من المتغيرات المجتمعية الكبيرة التي نمر بها في واقعنا المعاصر، وهي تستلزم جهداً كبيراً في تصور هذه المتغيرات بمجالاتها المختلفة والوعي بها وبآثارها، ومن ثَمّ معالجتها ومواكبتها في المجالات المختلفة، فالتأخر عن المواكبة الواعية يسبب تشوهات معرفية تؤثر في المجتمع، وأفكاره، وسلوكياته.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
اقرأ ايضاً: في نقد الأفكار وفحص المعلومات الجديدة