- كريستفور براي
- ترجمة: سمية عبد العليم
- تحرير: إيثار الجاسر
يطالعنا في منتصف فيلم الرجل الثالث مشهدٌ للممثل أوروسن ويلز في شخصية هاري لايم -رجل العصابات الذي يغش البنسلين- مدافعًا عن ممارساته القاتلة للأطفال بخطبة عصماء قائلا: “عاش الشعب الإيطالي ثلاثين عامًا تحت حكم آل بورجيا في حربٍ وإرهاب وقتل وإراقة دماء، فخرج منهم مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وعصر النهضة. أما الشعب السويسري الذي عاش خمسمائة عامٍ من الديموقراطية والسلام في ظل المحبة الأخوية فماذا أخرج للبشريَّة ساعة الوقواق؟”[1].
لا أعلم إن كان ألفريد ليزلي روس قد شاهد فيلم الرجل الثالث، ولكني أعلم أنَّه -بعد صدور الفيلم بعدَّة سنوات- كتب جملة شبيهة في شكلها ومنطقها بهذه الشَّخصية: “يعرف إشعيا عدَّة لغات، فتجده طليقًا في الإنجليزية والروسية، ويعرف كل ذي قامة وقيمة في قارتين، ولكن ماذا أخرجت كل هذه المواهب والمميزات؟ كتابين من القطع الصغير”.
“فلسفة إشعيا برلين” كتاب لجوني لينوس بلومسبري
إشعيا: المقصود هنا بالطبع هو السير إشعيا برلين، وكان ذلك في منتصف الخمسينيات -حسب سجل يوميات روس- حيث كان إنتاجه قليلًا بالفعل. في عام 1939 وبعد سنوات من الحمل الفكري المتعسر خرج للنور كتاب برلين “كارل ماركس:حياته وبيئته”، ثم ظهر بعده بأربعة عشر عامًا كتاب “القنفذ والثعلب” الذي لولا انتباه اللورد ويجفيلد بضرورة تفخيمه بتجليد قيم لبدا أشبه بالكتيب؛ وكان هذا هو كل إنتاج برلين.
الآن وقد مرت ستون عامًا، يبدو نقد روس أكثر بعدًا عن الحقيقة. على الرغم من أنَّ برلين لم يترك تحفة نصِّية -حيث كان مشغولًا بمهنته ككاتب للمقال الطويل- فإنَّ الرفوف تنوء بما تحمل من كتب عنه. فيبلغ طول أربعة مجلدات بعنوان رسائل برلين بتنقيح هنري هاردي ما يقارب الـ 12بوصة/30سم، أمَّا بالنِّسبة للمقالات والمحاضرات والمداخل الموسوعية التي قام بجمعها هنري هاردي من أجل طبعة جامعة برينستون المعنونة بـ الأعمال الكاملة لبرلين، مجلدة فقط بغلاف ورقي، فتحتل 14 أو 15 بوصة/ حوالي 40سم.
وبالأخذ في الحسبان أنَّ ميل برلين للتكرار في كتبه -حتى أنَّ أشدّ مدافعيه سيجد صعوبة في نفي أنَّ بطله بعد تحمسه لموضوع معين، يعود لطرحه متحمسًا مرة أخرى- فلا يعدُّ ذلك إنجازًا بسيطًا.
إذا لم تصمد مقولة أن برلين أنتج قليلا أمام النقد، فإنَّ مقولة أن إنتاجه كان قليل الأهمية أولى بالانهيار. غالبًا ما ينظر لبرلين على أنَّه رجل دائم الثرثرة عمَّا كان بإمكانه كتابته، تُعلِّمُنا بذلك خطاباته ومقابلاته التي عقدها -هازئًا من نفسه- على مرِّ السنين، إضافة لغرامه بأحاديث النميمة على طاولات العشاء والغدر بزملائه؛ حيث استطاع برلين أن يرتِّب أكثر من مرة للتنكيل بكتاب خصمه على صفحات ملحق التايمز للأدب، كما كان أداة فاعلة في منع انتخاب روس عميدًا لكلية All Souls[2] وقد صوَّت ضد ترشيح أيزاك دوستر لمنصب محاضر في جامعة Sussex.
لا يخفي جون لينوس استياءه من انتشار سمعة برلين كشخص كثير الكلام. يوضح لينوس في كتابه “فلسفة إشعيا برلين” أن تناقل الألسنة لهذه الإدعاءات لم يكن بسبب ثرثرة برلين المتصلة، بل كان لأنه نفسه لم يعتبر كلامه تفلسفًل حقيقيًا طوال مدة طويلة. في وقت ما قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، هجر برلين الفلسفة بشكلها التقليدي مفضلا مجال تأريخ الأفكار قائلا “لقد نما إلى فكري قناعة أنه يجدر بي أن أؤثر مجالًا يأمل فيه المرء أن يصل في آخر حياته لمعرفةٍ أكثر مما بدأ بها”.
أعتقد أنَّ كلَّ من قرأ لبرلين لا يساوره شك في أنَّه قد عرف الكثير قبل نهاية حياته. على كلٍّ، يرى لينوس أنَّ برلين يبخس قدر نفسه، وتعريفه لنفسه بأنَّه مؤرخ للأفكار لا يعنى أنه توقف كليًا عن الفلسفة، بل رحلته في التأريخ المعرفي([3]) كانت مسلكا آخر لممارسة الفلسفة. يفسر لينوس ذلك؛ بأنَّ برلين لم يرد أن يضيع وقته فيما رآه تجريدًا جافًا في مذهب الوضعية المنطقية أو الفلسفة اللُّغوية اللتان كانتا الموضة السائدة عندما بدأ رحلته، ولذلك كان في حاجة إلى مسلكٍ جديد. لقد ظلَّ برلين على رأيه بأنَّ الفلسفة لا يجب أن تكون أحاديث كلامية مفرغة، بل يجب أن تكون عن الحياة والأحياء، وأن تكون ذات صلة وتأثير بالعالم الحقيقي.
لا يعني هذا أنَّ برلين كان مؤيدًا للمذهب المادي بأيِّ شكل، بل روس يذكرنا أنَّه كان من أنصار”المثالية المتعالية”، وهو المذهب الكانطي المذهل الذي رأى حقيقة وجود عالم خارج الذات، ولكنه أكَّد أنَّ خبرة الذات دائمًا وأبدًا مكبلة بحدود مستقبِلاتها الحسية؛ أي أننا لا نرى الأشياء كما هي في ذاتها بل نراها بالقدر الذي تدركه أعيننا. وبناءً على ذلك؛ فإنَّه مهما ادّعى متعصبو الاتجاهات العلموية فإنهم لم ولن يستطيعوا تفسير كلِّ شىءٍ، وإنهم مهما وصلوا لاكتشافات فإن الكون سيظل محتفظًا بأسراره. في ضوء هذا يصف لينوس “قناعة برلين التامة: “في أنَّ مشكلةً ما قد تكون ذات معنى حقيقي دون أن تكون قابلة للتحقق”.
حتى الآن، نجد الكثير من التاريخ بداخل مرجع للفلسفة؛ لكن برلين أزاد تعقيد ما أسماه كانط بثورته الكوبرنيكية[4] التي ذهب للقول بأنها قد هزت عالم الإنسانيات وعالم العلوم الطبيعية أيضا. بفضل قراءاته للمفكر النابولي جيامباتيستا فيكو، توصل برلين إلى أنَّ رؤيتنا للماضي ليست بعيدة عما ذهب إليه كانط؛ فكلِّ معارفنا وأفكارنا متأثِّرة بالتاريخ، فهي وإن لم تكن نتاجًا مباشرًا لموقعنا في ثقافتنا المعاشة (وبموقع ثقافتنا في التاريخ) فإنّها بلا شك محكومة بظروفها. إنَّ كلَّ فكر هو جزءٌ من منظور متكامل، وكل جدال إنما نشأ في سياق وخلفية. يستتبع ذلك في رأي برلين أنَّ أوَّل ما يتوجب علينا فعله عند قراءة أيّ مفكر كبير أن نحاول فهم العالم الذي عاش فيه. قد لا يزال ما قاله روسو عن البناء السياسي ملائمًا اليوم،
وقد يكون العكس صحيحًا، وأنَّ ما كتبه روسو عن الجسد السياسي[5] يبدو ملائمًا لأنَّنا نقرأه بعين الحاضر.
إذن، فمهمة مؤرِّخ الأفكار هي أن يتخيل أنَّ الزمن قد عاد به إلى عصر روسو ليبحث كيف نبتت ونمت بنات أفكاره في زمنها الأصلي. يعلق لينوس قائلًا إذا كان هذا يبدو صعبًا فلأنّه صعبٌ بالفعل، فحتَّى محاولات برلين بالخلط بين أفكار كانط وفيتو -باعتراف لينوس- لم تخلُ من المشكلات، ولكن نتائجها على الرغم من ذلك جاءت “مثمرة فلسفيًا”.
ولنأخذ طرح برلين لمذهب التعدُّدية القيمية الموضوعية مثالًا. فقد ذهب برلين، مهتديًا بميكافيلي، للقول بأنَّ قيمًا معينة -الحريَّة والعدالة على سبيل المثال- يمكن أن تكون حقيقية، وفي نفس الوقت في حالة صراع. معظم الناس تقدِّر قيمة الحرية، لكنَّهم يناصرون قيمة المساواة أيضًا. وبينما للمرء أن يتمنى اجتماعهما معًا، فإنَّه يستحيل عليه إدراكهما معا، (إلَّا إذا كان دونالد دوركين[6]) كما يعلق لينوس: “فرضُ الضرائب مثلا يمكنه أن يخلق مجتمعا أكثر عدالة، لكن تحقُّق ذلك يتطلب تسليم هؤلاء الذين اقتطعت أموالهم وإعادة توزيعها جزءًا من حريتهم، أي أنه أيًا ما تكن القيم التي نناضل لأجلها، فلا يسعها إلا أن تأتي على حساب قيم أخرى أو أناس آخرين”
الأسوء من ذلك -في نظر برلين- أنه وبداية من أفلاطون فإن معظم الفلاسفة كانوا يعملون متخيلين أنهم سيجدون في نهاية بحثهم ما يشبه نظرية تفسيرية موحدة للفلسفة السِّياسية يمكنها أن تحل أيَّ مشكلة لأيِّ شخص في أيِّ زمان. ويكمل قائلًا: “إن من يؤمن بهذا يؤمن أيضًا بذات الخيالات التي حرَّكت الثورات في فرنسا وروسيا وألمانيا النازية، خيالات لم تخلق مدنا فاضلة بل جحيمًا أرضيًا”.
كل هذا وأكثر يغطيه لينوس في كتابه المبهر. ( الأكثر إبهارًا، أن تعلم أنَّ لينوس هجر المجال الأكاديمي من أجل عالم التجارة منذ عشرين عامًا، وأنَّه على الأرجح قد قام بكلِّ هذا العمل المضني في وقت فراغه).
تمثل رحابة وتنوع مصادر ومراجع الكتاب -حيث تجده يقتبس لشعراء وكتَّاب وصحفيين إضافة إلى الطيف الواسع من الفلاسفة- مثالًا يُحتذى به في مجال الفكر الإنساني.
لا يعني هذا أنَّه عمل خال من العيوب؛ فالأكيد أن دفاع لينوس عن دفاع برلين لمفهوم الإرادة الحرة لا يرقى إلى درجة الإقناع. بالنسبة لي فإنَّ برهان برلين الشبيه ببرهان القديس أنسلم[7] في وجود إرادة حرَّة -أنه مهما قيل عن نفي وجودها فإننا نرفض التسليم بهذا- كقول مذهب الحتمية. وعلى كلٍّ، فإنَّ استشهاد لينوس بنقد جالن ستروسون اللاذع لمفهوم الإرادة الحرة (ببساطة، نحن لسنا أحرارًا في فعل غير ما نفعل لأننا لسنا أحرارًا لنكون غير أنفسنا) يجّبُ كل ما أيّد برلين فيه قبلًا.
لكن أيًّا كانت العيوب في أطروحات برلين، فإن تلخيصات لينوس لها جاءت -كما في سيرة حياة برلين لمايكل إجناتييف- جميلة الإيجاز ومباشرة. وهي أكثر إيجازًا ووضوحًا مما كتب برلين نفسه يومًا. فليس عليك أن تكون من مؤيدي روس الذي وصف برلين ساخرًا بأنَّه “كان مبهمًا بلسانين” لكي تقر أنَّ برلين كان ميَّالًا للاسترسال. وما يجعل إنجاز لينوس عظيما هو أنه أوجز وأوضح فكر برلين، وفتَّش عن الرؤى التراجيدية المستبطنة فيما وراء فكرته عن التَّاريخ.
[1] ساعة بندولية تصدر أصواتا كصوت طائر الواقواق عند رأي كلِّ ساعة. (المراجع)
[2] إحدى كليات جامعة أكسفورد بإنجلترا – مترجمة.
[3] فرع مستقل من العلوم يسعى لفهم أفكار ومفكرين الماضي بوضعهم في سياقهم- مترجمة.
[4] نسبة للعالم الفلكي كوبرنيكوس، الذي شكلت نظريته أنَّ الشمس هي مركز الكون وليس الأرض نواة ثورة علمية في القرن السادس عشر ميلاديًا- مترجمة.
[5] تشبيه قديم في الفكر الغربي للدولة ومؤسساتها بالجسد العضوي- مترجمة.
[6] فيلسوف وقاضٍ أمريكي- الترجمة.
[7] عالم دين لاهوتي وأحد فلاسفة العصور الوسطى، اشتهر بالحجة الأنطولوجية لإثبات وجود إله- مترجمة.