- كارل زيمر
- ترجمة : الجراح القويز
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: سهام سايح
العظام التي وجدت في الكهف تعتبر من أقدم الحفريات البشرية الحديثة المكتشفة في أوروبا، وهي تشير إلى أنّ البشر غادروا إفريقيا بوقت أبكر ممّا كنا نعتقد.
وقد قال العلماء في التقرير الذي صدر في مجلة (Wednesday) بأنّ شظايا الجمجمة المكتشفة في سطح الكهف الموجود في جنوب اليونان تعتبر أقدم الحفريات المنتمية للإنسان العاقل (Homo sapiens) التي اكتشفت في أوروبا.
وحتى تلك اللحظة كانت أقدم بقايا الإنسان العصري الموجودة في القارة يُقدّر عمرها بأقل من 45,000 عام. ولكن هذه الجمجمة عمرها أكبر بأربع مرات، فتاريخها يعود إلى ما قبل 210,000 سنة حسب ما قرّر الباحثون في مجلة(Nature).
من المرجح أنّ تلك الاكتشافات ستعيد تشكيل قصة انتشار البشر في أوروبا، وستجعلنا نعيد النظر في النظريات التاريخية لجنسنا البشري.
فالإنسان العاقل (Homo sapiens) تطوّر في إفريقيا منذ حوالي 300,000 عام. والحفرية الجديدة تعزّز وجهة نظر ناشئة مفادها أنّ الجنس البشري هاجر من إفريقيا بشكل جماعات متفرقة في بدايات التاريخ البشري.
لكن الجماعات الأولى من المهاجرين اختفت، فجميع البشر الذين ينحدرون من أصول خارج إفريقيا اليوم ينحدرون من جماعات هاجرت متأخرًا أي منذ حوالي 70,000 عام.
تقول كاترينا هارفاتي [1](Katerina Harvati) الكاتبة الرئيسية للدراسة: بأنّه من المستحيل الجزم بمدة وجود الأوروبيين الأوائل في القارة، أو معرفة سبب اختفائهم.
وعندما سئلت عن ذلك قالت: “إنه سؤال جيد للغاية، وليس لدي أي فكرة عن ذلك ، فهذه أول مرة نجد فيها تلك الحفريات”.
وقد ظهرت الجمجمة لأول مرة في عام 1978 ، عندما اكتشف علماء الأنثروبولوجيا من كلية الطب بجامعة أثينا كهفًا أسموه بـ (Apidima) يوجد في منطقة (Peloponnese) . فقد وجدوا أجزاء من جمجمتين في سقف الكهف.
الباحثون وجدوا الحفريات في صخرة في حجم حقيبة الظهر ولكنهم عانوا لسنوات حتى يستخرجوا العظام منها.
حفرية (Apidima 1) تبيّن أنّها جزء من مؤخرة الجمجمة . أما حفرية (Apidima 2) كانت تحتوي على 66 جزء من عظام الوجه.
وأشارت دراسة مبكرة لحفرية (Apidima 2) إلى أنّ الأجزاء الموجودة يُقدّر عمرها بحوالي 160,000 عام ، ولذلك من المحتمل أنّ (Apidima 1) قد تحجرّت في نفس الوقت تقريبًا.
وتقدير العمر جعل تلك الحفريات تبدو أكبر سنًا بكثير من أول دليل معروف للجنس البشري في أوروبا. فكان محتملاً أنّ الجماجم تنتمي إلى البشر البدائيين، الذين وصلوا لأوروبا منذ حوالي 400,000 عام.
فدعا المتحف الأنثروبولوجي في جامعة أثينا الدكتورة هارفاتي الخبيرة في شكل حفريات جمجمة الإنسان، لتفحصها. فأجرت هي وزملاؤها أشعة مقطعية للبقايا ثم حلّلتها بواسطة الحاسب الآلي.
عندما قام الباحثون بإعادة تجميع وجه حفرية (Apidima 2) توقعوا بأنّهم ينظرون إلى بقايا إنسان بدائي، ولكن عندما قام الفريق بتحليل مؤخرة جمجمة (Apidima 1) عرفوا أنّهم ينظرون إلى شيء مختلف.
فالبشر البدائيون وغيرهم من الأقارب البشرية المنقرضين، تكون مؤخرة الجمجمة بارزة للخلف أو بعبارة الدكتورة هارفاتي: “أنّها تبدو مثلما تُهذب المرأة شعرها على شكل كعكة”.
ولكن في جنسنا لا يوجد هناك هذا الانتفاخ مقارنةً مع أبناء عمومتنا، فمؤخرة جمجمة الإنسان العصري تكون مستديرة.
الذي فاجئ الدكتورة هو مؤخرة جمجمة (Apidima 1) أنّ لها أيضا خصائص تشابه الإنسان العاقل (Homo sapiens) من بين الأنواع الأخرى.
وقالت لورا باك [2](Laura Buck) ، وهي لم تشارك في هذه الدراسة: إنّ الدكتورة هارفاتي وزملاؤها قدموا أدلة مقنعة . وقالت بأنّ: “هذا الجزء المستدير للغاية هو شيء غالبًا لا نراه في المجموعات الأخرى”.
وبينما كانت الدكتورة هارفاتي وزملاؤها يقومون بتحليل الحفريات. قام الدكتور غرون[3] بدراسة جديدة لأعمار تلك الحفريات عن طريق تحليل عينات صغيرة من الصخور المستخرجة منها.
وتبيّن أنّ جمجمة الإنسان البدائي (Apidima 2) يبلغ عمرها 170,000 عامًا، أي أكبر قليلاً من التقدير السابق. لكن جمجمة الإنسان العاقل (Apidima 1) تم تقدير عمرها بـ 210,000 عام. فهو أكبر من سابقه ب 40,000 عام.
ذلك التاريخ يجعل أجزاء تلك الجمجمة أقدم حفريات الإنسان الحديث ليس فقط في أوروبا بل في أيّ مكان خارج إفريقيا. والآن التحدي الذي يواجه العلماء كيف يتناسب عمر حفرية (Apidima 1) مع تاريخنا القديم.
على مدار العشرين عامًا الماضية، جمع الباحثون أدلة كثيرة تشير إلى أنّ البشر الذين عاشوا خارج إفريقيا ينحدرون جميعًا من مجموعات صغيرة من المهاجرين الذين غادروها منذ حوالي 70,000 عام.
ويسجل الحمض النووي خط سير هذه الرحلة، وقد وثّقها علماء الآثار من خلال تتبعهم للبقايا البشرية وأدواتهم المنتشرة في إفريقيا.
ولكن في السنوات الأخيرة اكتشف الباحثون بعض الحفريات التي لا تتناسب مع ذلك السرد. وعلى سبيل المثال في العام الماضي، عثر الباحثون على فكّ للإنسان العاقل في فلسطين عمره 180,000 عام.
في عام 2017 ظهر دليل آخر إلى النّور، في أجزاء من حمض الإنسان البدائي النووي المحفوظة في الأحافير المكتشفة في أوروبا. ويبدو أنّ بعض المادة الوراثية قد ورثت من الإنسان العاقل، وليس من الإنسان البدائي. العلماء تكهّنوا بأنّ جنسنا البشري وصل إلى أوروبا قبل 270,000 عام على الأقل وتزاوج مع البشر البدائيين هناك.
تقول الدكتورة هارفاتي: بأنّ حفرية (Apidima 1) ودليل الحمض النووي يشيران إلى الانتشار المبكر للإنسان العاقل في أوروبا بعد إفريقيا وقالت: “أنّه من الغريب أن تكون كل الأدلة متناسقة”.
من الممكن أن تكون الحفريات التي وُجدت في فلسطين تنتمي إلى نفس مجموعة البشر المعاصرين من إفريقيا، أو ربّما تنتمي إلى مجموعة أعقبتها. في كلتا الحالتين، يبدو أنّ كلّ هؤلاء الناس اختفوا.
أحد التكهنات هو أنّ البشر البدائيين انتقلوا إلى اليونان وفلسطين، و أخذوا في منافسة البشر المعاصرين الذين واجهوهم. وإذا كان الأمر كذلك ، فقد سارت الأمور بشكل آخر أثناء الهجرة اللاحقة منذ 70,000 عام.
ربّما تكون تلك الجماعة البشرية قد ازدهرت خارج إفريقيا لأنّها تحمل أدوات أفضل. وقالت الدكتورة هارفاتي “إذا كان هناك تفسير شامل ، فتخميني أنّها كانت عبارة عن عملية ثقافية”.
اليونان قد تكون مكانًا جيدًا لفحص هذه الفكرة. فجنوب شرق أوروبا ربّما يكون بمثابة معبر وطريق لأنواعٍ مختلفة من البشر الذين انتقلوا إلى أوروبا، أو ملجأ عندما غطت الأنهار الجليدية في العصر الجليدي بقية القارة الأفريقية.
وحسبما تقول الدكتورة هارفاتي بأن: “هذه الفرضية يجب اختبارها مع البيانات على أرض الواقع، وهذا المكان يثير الاهتمام للبحث فيه “.
اقرأ ايضاً: التطور: نظرية فنّدتها الحقائق
[1] عالمة مختصة بالحفريات الانثروبولجية (paleoanthropologist) في جامعة توبنغن ، ألمانيا
[2] عالمة مختصة بالحفريات الأنثربولجية (paleoanthropologist) في جامعة كاليفورنيا ، مدينة ديفيس
[3] عالم مختص بالتقويم الجيولوجي (Geochronologist) في جامعة جريفث ، أستراليا