عام

عن الخوف

  • كمال عيسى
  • تحرير: سهام سايح

 

الشيء الوحيد الذي لابدَّ أن نخافه هو الخوفُ نفسه

         روزفلت

 

منذ البداية كانت قناعتي أنّ ما يختلفُ عن المألوف لن يكون إلاّ المألوف ذاته، هو ما نهرب منه إليه، أو إن شئت هو قدرٌ بأوجه متعددة، وكل محاولة لوسم التِّكرار بالرتابة هو إرساء لحالة خوف يصعب إجلائُها ولا العيش معها، تلك هي الإحالة إذًا وأعراضها، قياسًا على ما يشكِّل عبئًا وجوديًّا تجلّيه المكاشفة الحقيقية للذات بوعي لا وعيها.

تبدو المهمة ها هنا من الصعوبة بمكان، خاصةً وأنّ المُكاشفة تستدعي آليات الفهم لتلك التفاصيل الصغيرة والترسبات التي تستوطن المشاعر الفردية والجماعية في لحظة فارقة من الزمن، لكن من يدَّعي القدرة على الإمساك بتلك اللحظة؟ ثم كيف يتمُّ تفكيكها – إذا أمسك بها –وكيف يتم إعادة تركيبها بما يوافق معطى التحليل؟.

يكتب تولستوي في اعترافاته يقول: “ماذا دهاني؟ ما هذه الكآبة التي عرّتني بغير سبب؟ ما هذا التبرم، وما هذا الانزعاج؟ إنِّي لم أعد أجد في الحياة متعة، أو أشعر فيها بما يهز مني الحس والعاطفة ” ويضيف في موضع آخر وكأنّه يعطي نتيجة لتلك المقدمات :” يبدو لي دائمًا أنني سأموت قريبا”، هكذا يفتح لنا الكاتب الروسي الكبير نافذة على الذات المسكونة بالخوف، الخوف من كلِّ شيء والخوف من لا شيء، فالإنسان في رحلة بحث طويلة عن المجهول الذي يتحول في فترة ما إلى نذير هلع وجب الهروب منه بحثًا عن ملاذ آمن، وبين شغف البحث وحتمية الهروب تترسب فوق صفحات الوقت رتابة خشنة، ما تفتأ أن تستنسخ نفسها معلنة قيام دولة الضجر بسلطتها وقوانينها وأذرعها الأمنية، ولأنّ الشعور الإنساني غير ثابت فهو في مناكفة مستمرة مع هذه السلطة، لكن من سوء حظه أنّه ليس أمامه غير أدواتها يستعملها وكأنّه بهذا يقرأ حكم إعدامه بنفسه، والأمر في هذا لا يستثني أحدًا، ولا يعترف بالمستوى الاجتماعي أو الثقافي أو الطبقي، وهو تمامًا ما حدث مع صاحب ” الحرب والسلام”.

فقد كان ليو تولستوي أديبًا لامعًا وذو حظٍ وافرٍ من نعيم الدنيا، يملك من المال ما يجعله يصرف من دون أن يلقي بالاً لذلك، ويتمتع بجسد قويٍّ وبنية متينة يهابها المرض، وهو في الخمسين من عمره في أوج عطائه الفكري عصفت به أزمة نفسية قلبت حياته رأسًا على عقب برزت إليه كما ذكر مترجم اعترافاته إلى اللغة العربية من ظلام النفس لا من نور الحياة، جعلته يفقد لذة المتعة بما بين يديه وباتت حتى زوجته غريبة عليه، بل أصبحت نفسه ذاتها غريبةً عنه إلى درجة الخوف والرعب منها، يقول على لسان أحد شخصيات روايته الشهيرة (آنا كرنينا)  “لم يعد عندي شك أنِّي ككلِّ كائن حيّ لن أصيب في هذه الدنيا غير الألم وغير الموت والفناء، إنِّي لن أستطيع العيش على هذه الحال، فإما أن أجد للغز الحياة حلاًّ أو انتحر”.

إنّ ما يدعو للتأمل في حياة كاتبنا غير المستقرة هو ذلك التناقض الذي ظلّ يزحف إلى عقله الباطن ويبسط  سلطانه المتوج بالرعب، ويجعله يتقلَّب من حال إلى حال دون أن يلامس السقف الأدنى للرضا عن النفس، حيث يمكنه العيش بسلام، فمن كان مثله ذا شهرة ومال وحضور يُفترض أن يكون أسعد الناس وأكثرهم طمأنينة، لكن من قال أنّ الرفاهة المادية وتوفر سبل الترف تحمي الإنسان من الخوف الذي بداخله؟. أليست الحضارة الغربية التي تعيشها البشرية اليوم بكلِّ ما جاءت به من تطور جعلت حياة الإنسان في ظاهرها تبدو سهلة، هي نفسها الحضارة التي عقّدت أموره ودمرت فيه إنسانيته وجعلته عدوًا لذاته؟ ألم تلقي به إلى دوائر الخوف والهلع من سرعة الوقت الذي يفلت منه وتحولاته التي تمضى به عكس المأمول  والمتوقع ؟.

الواضح أنّ ظاهرة عدم الثَّبات على حقيقة ثابتة، والهوس الدائم بالتغيير، هو “الدينمو” المحرك للطبع  السائد اليوم، بغض النظر عن الوضعيات الاجتماعية، وهو نابع من خوف كامن يبرز إلى السطح عند أبسط هزّة تلوح في الأعماق و تتمظهر في الذهن، ويبدأ هذا الهوس من أبسط الأشياء التي لا يلق لها الناس بالاً كرغبة المرأة مثلاً في تغيير أثاث البيت، أو رغبة الشاب في تغيير تسريحة شعره، أو رغبة الرجل  في تغيير سيارته، وصعودًا إلى مستوى العلاقات الإنسانية مثل عدم ثبات العلاقات العاطفية التي جعلت مستويات الطلاق تشهد في السنوات الأخيرة ارتفاعًا مذهلا (الجزائر مثلاً قاربت حالات الطلاق لسنة 2019 وفق تصريحات وزارة التضامن الوطني والأسرة 70 ألف حالة) أو حالات الاعتداء على النساء والأطفال وقس على ذلك كل حالات الإجرام الأخرى، حتى تلك المتعلقة بإجرام السرعة المفرطة في الطرقات، معظمها تنبعث من رغبة ما بالتغيير هروبًا من خوف خفيٍّ أو سعيًا وراء ملاذ من خوف غير ظاهر لكنه حاضر.

وفي هذا يذكرنا زيغمونت بومان في كتابه “الخوف السائل”، أنّ الشرَّ بكل أشكاله والخوف بكلِّ تجلياته كالتوأم السيامية المتلاصقة، فما نخشاه هو شرٌّ وما هو شرّ نخشاه، لذا فكثيرة هي الوضعيات التي في جوهرها طبيعية  تبدو لنا غير ذلك، وتتحوَّل إلى شرّ نفرُّ منه إلى شرّ/طبيعي لا تطول ألفتنا له حتى نتركه فزعًا منه.

هذا اللااستقرار واللايقين  يمكننا أن نفهم بعض أسراره – وليس كلَّها طبعًا – باستحضار النموذج البشري في التجربة الحياتية في رتابة يومياتها، من خلال ما تمنحه لنا إرين بطلة رواية “الخوف” للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ (1881-1942)، يضعنا زفايغ في مطلع الرواية أمام إيقاعات سردية مشحونة بالصدمة توضّح لنا الوجود المأزوم لإرين: “عندما غادرت إيرين شقة عشيقها ونزلت الدرج، استبدَّ بها من جديد، بغتةً، خوفٌ مبهم”، لكن لماذا الخوف؟ ولماذا هو مُبهم؟.

إيرين هي سيدة غنية من طبقة أرستقراطية، متزوجة ولديها طفلان، لكنّها لا ترى وجودها المعنوي في بيت لا تهتم بتفاصيله، وليست معنية بها إطلاقًا  إلاَّ في الحدود التي تبرِّر به مرورها الفيزيائي العابر، حتى أولادها تشعر بغربتها عنهم، بل وترى في هذه الغربة مؤانسة لهم، فهي حتى إذا ما حاولت التدخل في شؤونهما تفسدها أكثر ممّا تصلحها، فأوعز لها هذا الأمر تركهما للخادمة التي بدت لها أنّها أقرب منها إليهما، وهو المبرِّر الذي تخترعه للاوعيها فيدفعها  إلى التمرُّد على صور الملل التي تتناسل في كل زوايا البيت بالخروج إلى  الحياة الرحبة المنطلقة على أمل اصطياد فرص للنَّجاة، غير أنّها لم يقع ببالها أنّ ذلك هو الحبل الخانق الذي سيلتف حول رقبتها ويهوي بها إلى دوامة الخوف.

ترتبط إيرين بعلاقة عابرة مع شاب موسيقي يعزف على آلة البيانو، تجرها رجليها مرارًا إلى بيته من دون اعتبار لوضعها كسيدة متزوجة أو للأعراف الاجتماعية، إلى أن تكشف سرّها إحداهن التي تبدأ في ابتزازها مقابل الصمت عن خيانتها الزوجية، ويأخذ ذلك الابتزاز منحًا تصاعديًّا فيتحوَّل إلى قنبلة موقوتة تسكن لحظاتها، تملؤها رعبًا وفزعًا، وتسلبها نعمة راحة البال وطمأنينة النفس وهدوء الحياة، فيلحظ ذلك عليها زوجها فريتز المحامي الناجح، ما يجعله يحاول جرّها للإفصاح بأدوات الإقناع الفرويدي الذي يستعمله عادة رجال القانون لاستكناه خفايا الفعل الإجرامي عند المتهمين، -الخوف البائس من الكلام، هو في رأيي أكثر مدعاة للرثاء من أي جريمة-، عندها تشعر إيرين أنّ زوجها ربما يكون على علم بما اقترفت من ذنب فتقرِّر الانتحار، وفي الوقت الذي تهم بتنفيذ الهاجس الشيطاني الذي يحركها يظهر زوجها لينقذها مما كانت على وشك القيام به، ويعترف لها أنّ كل ما حدث كان من تدبيره، وفي عودتها إلى حياتها الهادئة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الضياع تكتشف من جديد تفاهة ما كانت تأمل مقابل ما كانت تملك.

والغريب في القصة التي أوردناها للتدليل على الدوافع غير السليمة التي تحرك الإنسان الهش الذي أنجبته حداثة الغرب، لأسباب تُقرأ بين سطور الأحداث لا في ظاهر الحكاية، هو كون كثير من معانيها ينسحب على كاتبها الذي قرر التخلص من حياته في منفاه بالبرازيل سنة 1942 رفقة زوجته الثانية، بعد أن ودَّع أصدقائه وضيوفه ليلة قبل ذلك، لما أصيب به من شعور بانكسار وخيبة فاقمت انهياره العصبي وهو يشهد تهاوي السلم العالمي إبَّان الحرب العالمية الثانية.

إذًا، وكما هو واضح، دائمًا ما تكون هناك دوافع خفيَّة تحرك فينا هاجس الخوف، وغالبًا ما يرتبط هذا الخوف بمسألة الموت الذي يقول عنه هايدجر: “يجب على الموت ألاّ يكون هاجسًا وجوديًّا يقضُّ مضاجعنا”، ولكنه في واقع الحال هو كذلك، هو دائمًا يوغل بنا في أدغال الرهبة والفزع ويلاحقنا في معظم الوقت عند منعطفات حرجة، وهو ما يؤكده علماء النفس من أنّ 80% من مشاعرنا سلبية على مدار اليوم، ومهما حاولت الفلسفة أن توهمنا “بالتأمل في الحياة، لا في الموت” كما يدعونا إلى ذلك إسبينوزا نجد أنفسنا في كلِّ مرة في ضيافة حديث الخوف من الموت أو الموت بالخوف، وتاريخ البشر الحاضر حافلة صفحاته بهذا الزحف الذي تكتبه الحروب والدسائس والأوبئة، وأنظمة الاستهلاك الكاذب ووهم الحياة الآمنة، حتّى أصبح اليقين بالإنسان الإله الذي عملت الحداثة على ترسيخه مهزوزًا، بل ارتّد عليه وهو يكتشف عجزه في حل أبسط مشاكله اليومية التي راكمتها منظومة غير متزنة أطلقت وحوشها الضارية للاستثمار في هذا الخوف بكلِّ أشكاله، الخوف من الندرة باستحداثها وإدارتها كمصيدة للغريزة البيولوجية، ثم تطوير هذه الندرة لاختراع أنظمة غذائية منافية للطبيعة التي عاش عليها الإنسان الأول فمهدت لانتشار الأمراض المزمنة التي عجز الطب عن معالجتها، وأنعش الخوف من المرض سوقًا ضخمة للأدوية تديرها شركات كبرى توعز إلى مخابرها عبر العالم بوضع بحوث وتقارير تصبُّ في مزيد من الاستغلال للكرامة وتعليب الوهم، حتى منظمة الصحة العالمية وهي إحدى أدوات العولمة تمضي في هذا الاتجاه بحكايات قذرة مُحكمة الحبك.

اقرأ ايضاً: انقشاع الخوف بشهود المعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى