- د. كمال القطوي
- تحرير: مزنة حسين
(1)
قراءة في الرحلة والرحّال
يتربع كتاب “رحلتي الفكرية ” للمرحوم عبد الوهاب المسيري على عرش كتب المذكرات، إذ يُعتبر من الكتب الفريدة التي أرّخت للمشروع الفكري نموه ونضجه حتى استوى على سوقه، مع مرور طفيف لحياة المفكر، فكانت الفكرة هي المتن في السيرة والمفكر هو الهامش، بخلاف السير الذاتية التي ترصد حركة الإنسان.
والكتاب عبارة عن تقرير لرحلة فكرية استمرت نصف قرن، أنتج صاحبها أهم موسوعة عربية تتحدث عن اليهودية، وعشرات الكتب الأخرى، ثم قدّم للقارئ ثمرات تلك الرحلة، من خلال هذه السيرة الطريفة.
وقد كان صديقي أكرم بكاري ينصحني أن أكتفي بالمذكرات؛ لمعرفة خلاصة الموسوعة والوقوف على معالم رؤى مفكر قدير وباحث كبير بحجم المسيري، فوجدت المذكرات كما وصف. ثم ناقشت المذكرات مع الشيخ محمد الوشلي فاقترح لو يعاد تقديمها للقارئ ملخصة. فأحببت من خلال هذه المقالات تقريب قراءة السيرة، ومشاركة القراء خلاصة الرؤى والنماذج التفسيرية -كما تراءت لي- التي نفذ من خلالها المسيري إلى عمق الظواهر التي عكف على فهمها نصف قرن.
من الشك إلى الإيمان
المسيري ليس مفكراً قابعاً في صومعته، بل رجل تعرجت به الحياة وسار في دروبها وخاض تجربة ثرية بذاتيةٍ متأملة، فقد انتقل من الإيمان الفطري الذي اكتسبه في مسقط رأسه بدمنهور، وأيام قلائل مع الإخوان المسلمين، إلى الشك والتمرد، فالتحق بصفوف الماركسيين وتبنّى منظورهم المادي، وتلك تجربة يقول عنها: “كانت تجربتي الماركسية القصيرة لها جوانبها السلبية والمظلمة دون شك، فاستخدام الصراع الطبقي أو وسائل الإنتاج كمعيار نهائي، والبحث الدائب عن العمال والفلاحين بحسبانهم قوى فاعلة ستغير التاريخ (خصوصا العمال بطبيعة الحال) قد جعلا رؤيتي للفكر والأدب رؤية اختزالية إلى أقصى حد”[1].
ثم فارق مجموعة اليسار التنظيمية بعد تجربة يسيرة لم تطاوعه نفسه على تقبل تناقضهم الأخلاقي بين الممارسة والتنظير، غير أن المنظور الماركسي ظل معه فترة طويلة من خلال تأثره الكبير بمدرسة فرانكفورت، أو ما يسمى باليسار الجديد، الذي قدّم رموزه (هوركهايمر وأدونو وماركوز) نقداً ذكياً للحداثة الغربية، ثم تعرّف على مقولات عالم الاجتماع (ماكس فيبر) التي حررته من النظرة الأحادية المادية للحياة، وارتقت به درجة نحو التفسير الشمولي للإنسان، ثم رست سفينته على مرفأ الإيمان بعد رحلة طويلة قال عنها: “ولم يولد الإيمان داخلي إلا من خلال رحلة عقلية طويلة، ولذا فإيماني إيمان تأملي عقلي، لم تدخل عليه عناصر روحية، فهو إيمان يستند إلى إحساس بعجز المقولات المادية عن تفسير ظاهرة الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر ترکيبية“[2].
لقد استشعر المسيري أن التفسير المادي اختزال سطحي يعالج بعداً واحداً من أبعاد الإنسان، بينما الإنسان كائن أكبر من المادة. وساعده على العودة مكوثه مع الشعر الرومانتيكي الذي يقارع مادية حقبة التنوير الأوروبي وعقلانيتها، وينطوي على اهتمام بالجانب الإنساني للبشر.
ثم لفتت انتباهه قراءة المفكّر المسيحي أنور عبد الملك للشق الحضاري في الإسلام، إذ قال عنه:
“ومن الأمور التي تستحق الذكر أن الدكتور أنور عبد الملك كان كثيراً ما يتحدث عن الإسلام الحضاري، ويؤكد أنه لا يمكن فهم البعد الحضاري للإسلام إلا بالذهاب إلى جنوب شرقي آسيا، بحيث يرى المرء بنفسه الفرق بين المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية. وكان لهذا أعمق الأثر فيّ وفتح عيوني على الجوانب الحضارية في الإسلام وفي أمور كنت أعي بها دون أن أدركها بشكل واضح”[3].
رؤية وعزيمة
غير أن ما ميّز المسيري هو انخراطه المبكر نسبياً في مشروع معرفي محدّد المعالم، تمثل في فهم الحالة الصهيونية. فوجود “المشروع البوصلة” في حياة الفرد يمنحه نقطة تحّول هائلة إذا ما صاحب ذلك جدية وإصرار، إذ المشروع يجعل للحياة معنى، وذلك ما التقطه المسيري في وقت مبكر حيث يقول عن نفسه: “بدأت كتابة الموسوعة وأنا في الثلاثينيات من عمري، وكنت أعمل فيها ليل نهار. أبدأ أحيانا في السادسة صباحاً ولا أنتهي إلا في الثانية عشرة مساء. وعلى الرغم من تقدمي في السن، فإن حصتي من النشاط والصحة كانت آخذة في الازدياد بحيث كنت أكثر نشاطا في الثامنة والخمسين مني في الخامسة والثلاثين”[4].
ولم يكن المسيري كما يبدو لأول وهلة متميزاً من الصغر، فقد رسب في الثانوية وكان معدله متوسطاً، غير أن كلمةً من أستاذ له أعادت له الثقة بنفسه حين قال له: “أنت عبقري”، فتعبقر الرجل، وأخذ الملاحظة على محمل الجد.
ويبدو لي أن العامل الحاسم في مسيرة المفكر الكبير، الإرادة الصلبة التي كان يتمتع بها، فحين درس الماجستير بأمريكا، طلب منه الأستاذ أن يقرأ قائمة طويلة من كتب الأدب الرومانسي وكتب النقد الأدبي، فدخل المسيري في مارثون التحدي لثمانية أشهر متواصلة حتى أتى على تلك المجلدات، وقال عن التجربة: “خرجت من فترة الحضانة هذه وقد ملكت ناصية الخطاب النقدي بشكل يسمح لي بالدخول في حوار مع زملائي وأساتذتي، ولكنني اكتشفت أني أكاد أكون الطالب الوحيد الذي قام بهذه العملية شبه الانتحارية (إذ اكتفى الآخرون بقراءة الملخصات)، فذاع صيتي لدرجة أنني بدأت إلقاء الدروس الخصوصية على أصدقائي”[5].
وقد تعرّض مشروعه الفكري لعدة نكسات، فسُرق منزله في أمريكا حيث كانت نواة المشروع، وأدرك أن وراء ذلك عصابات استأجرها الصهاينة لكسر إرادته، ثم كانت هزيمة حزيران67 التي كسرت معنويات الكثير ولكنه لم يلتفت لها؛ إذ كان عليه أن يرابط في جبهة الفكر ويلتزم ثغرته حين سقطت ثغور العسكر. وفي أزمة الكويت والعراق كادت الحرب تعصف بكل أوراقه وبحوثه، لولا استبسال دفعه إلى السفر للكويت وشحن أوراقه وملفاته براً إلى مصر. وعندما ذاع صيت أعماله في الموسوعة، تلقى تهديدات عديدة من جماعات الصهاينة في فلسطين المحتلة، وقابل ذلك بأعصاب مسترخية عبر عنها بقوله: “لقد وضعت جهازي العصبي داخل ثلاجة مدة ربع قرن”[6].
وقد أدرك أن الوعاء الزمني شرط رئيس لإنجاز مثل هذه المشاريع الكبيرة، فاعتمد سياسة الانفصال المؤقت عن الواقع، فلم تلتهم الأحداث اليومية أوقاته، ولم يَنْبَتّ عن الواقع بالكلية، بل أبقى له نافذة نحو الأحداث ليجرب فيها نماذجه المتشكّلة في صومعة البحث، وقد قيّم هذه الطريقة بقوله: “ولعل هذه المقدرة على الانفصال المؤقت عن الواقع هي التي مكنتني من كتابة الموسوعة فيما يزيد على ربع قرن”[7]. بل وساعدته على بلورة رؤية كلية عن الواقع، فحين كتب للأهرام مقالاً عن الصراع العربي الإسرائيلي وتنبأ بهزيمة إسرائيل في 73، التفت له محمد حسنين هيكل قائلاً: “لقد استطعت رؤية الحدث أفضل من الصحفيين”.
وتبقى للحظات الانفصال عيوبها الخاصة عرضها علينا بقوله: “كنت في الولايات المتحدة عام ۱۹۷۰م أكتب كتاب “أرض الوعد” مستغرقاً تماماَ فيه، ثم اتصلت بي زوجتي وأخبرتني أن بعض اللصوص هاجموها واختطفوا حقيبتها وفروا وأنها ستتأخر حتى تنتهي الشرطة من التحقيق. وبعد ساعة وصلت إلى المنزل ولم أتحرك من مكاني واستمررت في الكتابة، فانفجرت باكية فأدركت جرمي، واعتذرت لها عما فعلت”[8].
وما كان لذلك المشروع الفكري أن يرى النور لولا ذلك الانفصال المؤقت، والتبتل في محراب العلم، ولكل مشروع ضريبة، إذ الحياة لا تُعطي إلا بقدر ما تأخذ.
(2)
نقد الحداثة الغربية
يتواصى جمهرة الحداثيين العرب بضرورة اللحاق بالحداثة الغربية، وركوب قطارها، واستيراد منظورها التقدمي، كي يبارح العرب مواطن التخلف، ويدركوا ركب العالم، غير أن المسيري يُلوّح لهم من بعيد أن ارْبَعُوا على أنفسكم، فإن موقفكم هذا “سيجعلنا بشراً من الدرجة الثالثة، وإن حثثنا الخطى أصبحنا بشراً من الدرجة الثانية، وهذا أقصى ما نطمح إليه، لأن الدرجة الأولى هي الغرب ذاته الذي يتحرك باستمرار في الاتجاه الذي قرره لنفسه”[9].
لقد شهد المسيري جدل الحداثة بشكل عملي داخل أروقة لجنة التعمير الحضاري، التي شكلتها مؤسسة الأهرام لدراسة المشروع الحضاري العربي بقيادة محمد حسنين هيكل وعضوية لويس عوض وتوفيق الحكيم والمسيري ونجيب زكي محمود وآخرين، وقد انقسمت النخبة إلى فريقين: فريق استبطن مقولة طه حسين القديمة، التي ترى أن نأخذ أنموذج الغرب بحلوه ومره. والفريق الآخر رأى “أن نتحفظ في استيرادنا للأنماط الحضارية الغربية حتى نحتفظ بهويتنا”[10]، وألّح المسيري على ضرورة التمييز بين التحديث الذي يعني جلب التكنولوجيا ونظم التدبير الإداري، وبين الحداثة بصفتها منظوراً للحياة يفارق منظورنا وقيمنا وهويتنا الحضارية، وكان يحاصرهم بأسئلته: “ما جاذبية مثل هذا النموذج الغربي؟ وما الذي يجعلنا نتبناه ونحن نعرف تكلفته الإنسانية العالية؟ وهل يجب أن نأخذ المخدرات مع الكمبيوتر، وفلسفات العبث والعدمية مع وسائل الانتقال السريعة؟ فكان رد توفيق الحكيم على كل هذا أنه لا يمكن تبني جزء من النموذج الغربي وحسب وإنما يجب تبنيه كله!”[11]، واستمر الجدل حتى تنبأ له لويس عوض بالردة عن الحداثة قائلاً: “ستكون زعيما لليمين الذكي”[12] وقد صدقت نبوءة لويس، فارتد المسيري إلى مسيرة الإيمان الشامل، بعد دهر من التيه.
لكن المسيري فارق اللجنة وفي نفسه لواعج من الألم على مصرع النخبة في وهم الحداثة المزيف، وكان يتساءل في مذكراته أنّى لعقل مثل نجيب محفوظ وهو الذي أبدع في تحليل النفس وسبر أغوارها أن يغتر بهذه الحداثة المزيفة!
لقد تميز المسيري عن جمهرة المنبهرين بقدرته على الاقتراب من جوهر الحداثة الغربية، وقد مكنته رحلته إلى الغرب ودراسة الأدب الإنجليزي مع انخراطه في عديد من الأنشطة الفكرية واقترابه من المثقف الغربي، أن يتعرّف بعمق على مكونات الحداثة الغربية ومالآتها، ومن ثم جاءت دراساته تحليلية تفسيرية ساهمت في تقريب كُنه الحداثة للقارئ العربي.
حضارة المادة
وقد انتهى به المطاف إلى أن جوهر الحداثة كامن في التجلّي المادي للحياة، وإخضاع كل شيء بما فيه الإنسان للمادة، فالمادة هي غاية الغايات في المنظور الحداثي الغربي، ولتهدر القيم ولتطوح العقائد وليهلك الإنسان من أجل التجلي المادي، يقول -رحمه الله-: “ويمكننا أن نقول كذلك إن جوهر الفكر الغربي العلماني الشامل في القرن التاسع عشر هو البحث عن «مطلق مادي»، أي نقطة داخل المادة يمكن عن طريقها تفسير كل الأشياء والظواهر. هذه النقطة هي صراع الطبقات ووسائل الإنتاج عند ماركس، وهي الجنس عند سيجموند فرويد، وهي مبدأ المنفعة عند چيرمي بنتام“[13].
ولكن هذه الماديّة تشوبها نزعة ميتافيزيقية تستبدل الميتافيزيقا الدينية بميتافيزيقا بديلة، وقد عبّر عن هذا البديل بقوله: “الحداثة الغربية هي حداثة تفصل العلم والتكنولوجيا والدنيا عن الأخلاق والهدف والغاية. والنتيجة هي الإيمان بما يسمى (ميتافيزيقا دون أخلاق)، كأن يؤمن الإنسان بالأطباق الطائرة، فهذا يعطيه اليقين الميتافيزيقي الذي يبحث عنه، ولكنه في الوقت ذاته لا يحمّله أي أعباء أخلاقية”[14].
كما رأى المسيري أن عقيدة الحلول والاتحاد بين الإنسان والطبيعة كما في المنظور المادي الغربي، تعطينا تفسيراً آخر لهذا الجوهر المادي للحداثة، لظاهرة تزاوج الخُرافة بجوار العقل في الحالة الغربية، فمن “المفارقات التي تستحق التسجيل أن العلمانية الشاملة قد تنزع القداسة عن المقدس، ولكنها في ذات الوقت قد تخلع القداسة على غير المقدس. ولذا نجد انتشار النزعات الإلحادية جنبا إلى جنب مع النزعات “الدينية” الحلولية “البهائية -العبادات الآسيوية- عبادة الأرض [جایا]-التنجيم- قراءة الطالع”؛ ولكن نموذج الحلولية والعلمانية الشاملة يعطينا المفتاح للفهم، فهو يعني رفع الحاجز بين المقدس وغير المقدس”[15].
وانتشار الخرافة في الغرب ومجلات التنجيم ليس ظاهرة شعبية، بل اخترقت كثيراً من النخب السياسية، فقد كان للرئيس الأمريكي (ريغان) مُنجِّماً خاصاً يستعين به في اتخاذ قراراته السياسية، ومن بعده بوش الأب الذي ساعده المنجمون على حسم قرار غزو العراق، والرئيس الفرنسي (ميتران) كان قصره مرتعاً للمنجمين، ولا تزال قوانين تلك البلدان تعتبر التنجيم وغيره من الشعوذات أعمالاً مشروعة[16]. وهنا يحار المتأمل في هذا التناقض بين العقلنة والخرافة، ولا يمكن تفسير ذلك إلا من خلال فهم طبيعة العقلنة المادية، وتمظهراتها الحلولية، وقلق المعرفة الجواني الذي يترجم عن نفسه بهكذا أساليب.
أما دعوى عقلانية الحداثة فقد فسّرها المسيري قائلاً: “اكتشفت بالتدريج أن العقلانية الغربية ليست شيئا مطلقا، وإنما يتخفى وراءها نموذج مادي يساوي بين الإنسان والطبيعة ومن هنا يساوي بين العقل الإنسان والطبيعة المادية.. وأصبح العقل يلهث وراء التجريب المنفصل عن القيمة الإنسانية والأخلاقية، يتلقف نتائجه دون تساؤل عن المعنى والغاية”[17]. ومن أشهر ما يُروي عن هذا التماهي التجريبي الذي لا عقلنة فيه، أنه حين سأل (أوبنهايمر) أبو القنبلة الذرية، عن أول شيء فعله بعد أن حقق اختراعه؟ فكانت إجابة (أوبنهايمر): “لقد تقيأت”. وهنا لاحظ المسيري العقلنة الغربية المتماهية مع متطلبات المادة دونما رؤية إلى ما يمكن أن يؤدي هذا التماهي، فإن أوبناهيمر “العالِم المحايد التراكمي اكتشف القنبلة. لكن أوبنهايمر الإنسان تقيأ وقضى بقية حياته يحارب ضد القنبلة ولكن دون جدوى”[18].
وهنا تفطّن المسيري إلى أن ربط العلمانية بالعقلانية والعلم، يقتضي أن يكون العقل والعلم “المنفصلين عن القيمة والغاية حتى يتسنى التحكم في الإنسان والطبيعة تحکماً کاملاً.. إذ لا يحكم على العقل من خلال أي منظور أخلاقي قبلي وإنما من خلال نتائجه العملية”[19].
ونتيجة هذا المنزع المادي الصِرف الذي يتدثر بالعقلانية؛ يتحول الإنسان إلى وسيلة، أو بحسب المصطلح الذي يبثه المسيري في كتبه “حوسلة الإنسان”، هذه الحوسلة تعيد قولبة الإنسان ليصبح كائناً استهلاكياً قدره أن يشبع نهم الآلة المنتجة، ويلاحق هذا الجوع المادي الذي يتضور بداخله ولا يقف عند حدود، فهو يعيش في الحياة باعتبارها الفرصة الأولى والأخيرة لإرواء هذا الظمأ المادي، فهذا “السعار الاستهلاكي ليس مسألة انحطاط خلقي وسلوك فردي واختيار حر، وإنما هو وضع اجتماعي شامل ونموذج ضخم يهيمن على الإنسان من الخارج ويستبطنه المرء دون أن يشعر”[20]. و”لا يمكن إيقاف هذا الاستهلاك على الإطلاق من داخل المنظومة المادية المهيمنة. فالعقد الاجتماعي الذي يستند إليه المجتمع الأمريكي ينطلق من فكرة الفرد المطلق، ومصدر الشرعية للنظام السياسي والاجتماعي هو تحقيق الرفاهية الاستهلاكية للمواطن، والفلسفة السائدة هي البراجماتية التي لا تتساءل عن الكليات والماهيات. وانطلاقا من كل هذا يكون من العبث مطالبة المواطنين بالحد من الاستهلاك، فباسم من سنطالب المواطن الذي يعيش في حواسه الخمس أن يمتنع عن الاستهلاك؟ باسم الأجيال المقبلة، أم الأخلاق الحميدة، أم القيم المطلقة؟. “اليوم خمر وغدا أمر” هذه هي عقلية الاستهلاك المادية، ولا يمكن إيقافها إلا بالخروج منها والبحث عن أساس فلسفي آخر”[21].
حضارة الإبادة
مثلما استشكل المسيري دَعَاوَى العقلانية حتى وقف على جوهرها المادي، فقد استشكل الخطاب الإنساني الذي يتغنى به الغرب صبح مساء، إذ رافق ذلك الخطاب الناعم عمليات إبادة واسعة، وكان المسيري يظن أن تلك حوادث استثنائية، فإبادة 112 مليون إنسان من السكان الأصليين في قارة أمريكا على يد الأوروبيين الغزاة[22]، واختطاف وترحيل 12 مليون عبد إفريقي وإرسالهم إلى مزارع أمريكا لتعظيم الإنتاج الزراعي، وتفجير حربين عالميتين راح ضحيتهما قرابة 80 مليون إنسان، ناهيك عما تضمنته من إحراق اليهود والبولنديين والغجر في معسكرات الاعتقال النازية، ثم زرع الصهيونية في قلب العالم العربي، ثم حرائق الحرب الباردة التي راح ضحيتها ملايين البشر حول العالم. كل تلك الحوادث كان يستشكلها المسيري وهو يقارنها بالخطاب الإنساني، حتى أدرك العلاقة بين تلك الظواهر وجوهر الحضارة الغربية فعبّر عن تلك التجربة قائلاً: “كانت هناك عناصر عديدة أخرى جعلتني أتساءل بخصوص بعض المسلمات التي يستند إليها النموذج الحضاري الغربي الحديث، من أهمها إدراكي أنني أفصل الحضارة الغربية والحداثة الغربية عن بعض الظواهر السلبية المصاحبة لها مثل الإمبريالية والنازية والصهيونية التي كنت أصنفها على أنها ظواهر استثنائية، ومجرد انحراف عن الجوهر العقلاني للحضارة الغربية الحديثة. وبالتدريج بدأتُ أرى هذه الظواهر بحسبانها جزءاً لصيقاً ببنية النموذج الحضاري الغربي الحديث. وهذا بالضبط ما أدركه الشيخ الجزائري الذي أخبروه بأن القوات الفرنسية إنما جاءت لبلده لتنشر في ربوعها الأمن والسلام والاستنارة. فقال باقتضاب شديد: “لم أحضروا كل هذا البارود إذن؟!”. وفي دراستي عن روجيه جارودي أقتبس كلماته حين يقول: “إن شرط ونمو الغرب إنما كان بالضرورة وليد نهب ثروات العالم الثالث ونقلها إلى أوربا وإلى أمريكا الشمالية، وبالمقابل فإن الغرب هو الذي جعل ما نسميه العالم الثالث متخلفا”. إن النمو والتخلف، عنصرا منظومة الرأسمالية… ببساطة شديدة، أدركت أن التقدم الغربي، هو ثمرة نهب العالم الثالث، وأن الحداثة الغربية لا يمكن فصلها عن عملية النهب هذه، وأن نهضة الغرب تمت على حساب العالم بأسره… وقد أوجز جارودي إنجاز الحضارة الإمبريالية الغربية في صورة مجانية رائعة إذ وصفهاً بأنها “حفرت قبرا يكفي لدفن العالم“[23].
لقد توصل المسيري إلى مفتاح فهم هذه الظواهر، فقال: “إن ثمة نمطاً إبادياً غربيا عاما موجها ضد الآخر المعوق“[24].
وهذا النمط لم يكن نزوة عابرة قارفها النازيون أو البوريتان من قبلهم أو المستعمرون أو الصهاينة، بل سبقه تمهيد فلسفي وفكري، يحتكر الإنسانية الكاملة للعرق الغربي، ويحتقر ما دونها، وهي ثقافة عنصرية راسخة في العقل الأوروبي، وقد اكتوى الأوروبي بنارها في الحرب الثانية، حين زعم النازيون (الألمان) تفوقهم على العرق السلافي (روسيا ويوغسلافيا)، وأقاموا المذابح الرهيبة، وقد دافع قادة النازية عن أنفسهم في محكمة نورمبرغ مؤكدين أن “نظرية التفاوت بين الأعراق هي جزء لا يتجزأ من الفكر الغربي”[25] مستدلين بكتابات “الاستعماري الإنجليزي كتشنر، وأن مصطلح الجنس المتفوق أو الجنس السيد مأخوذ من كتابات العالم الأمريكي الأنثروبولوجي ماديسون جرانت والعالم الفرنسي لابوج”[26].
وهنا يتوصل المسيري إلى أن سياسة الإبادة في مسيرة الحداثة الغربية لم تكن حالة استثنائية، وإنما آلية تلجأ إليها عندما يعوق اندفاعها أي شيء، فتعمد إلى إزاحته من الوجود لتكمل مسيرتها، حيث يقول: “بعد أن وضعت الإبادة النازية ليهود أوربا في سياقها الحضاري الغربي العريض، وضعتها في سياق أقل عمومية وهو السياق الألماني (تدهور الاقتصاد الألماني – الاتجاهات العامة للثقافة الألمانية آنذاك)، وبينت أن الإبادة لم تطل اليهود وحدهم وإنما طالت العجزة والأطفال والمعوقين والشيوعيين والغجر وأعضاء النخبة البولندية وأسرى الحرب، بل وأحيانا الجرحى الألمان، أي أنها جزء من موقف نازي عام، ليس موجها ضد اليهود، واليهود وحدهم، وإنما كان موجها ضد الآخر (أي آخر الذي قد يقف في طريق النازيين. وهذا يسقط احتكار اليهود للإبادة) “[27].
ويبقى السؤال ماثلاً هل اندثر عنصر الإبادة وما وراءه من ثقافة عنصرية محرّكة؟ الإجابة التي لمسها المسيري في أيامه بأمريكا أن هذا المكون لا يزال يعمل في العقل الغربي، وتظهر آثاره بين الحين والآخر وقت الحاجة. ولا غرو فإن الضمانة الحقيقية لحقوق الإنسان تكمن في الإيمان بالله واليوم الآخر، وبدون هذين العنصرين، لا ضمانة إلا للقوة، لأن إلغاء الآخر وقت الحاجة مسألة مبررة حين يغيب الجزاء والعقاب الأخروي، وطبيعي جداً أن يستمر مسلسل النهب الغربي، وإذكاء الحرائق في العالم، لأجل مصالح الغرب، فالذي يبقى هو الأقوى والأقدر على فرض هيمنته. وما توصل إليه المسيري يتقاطع مع ما قرره (ميشيل فوكو) الذي ظل ينقب في العقل الغربي حتى اكتشف أن “السمة الجوهرية المميزة للمجتمع الغربي ليست “العقلانية” أو تحققها فيه، بل إنكاره لكل ما لا يخضع له، أو يخرج عن نظامه الخاص”[28].
الإنسان وحيداً
قدمت الكنيسة الغربية الله -سبحانه وتعالى- في أشنع صورة، إذ كان مصدر التجبر والتسلط والإقطاع، وباسمه جثت أوروبا تحت عصور ظلمات لألف سنة، فلما ثار الأوروبيون على الكنيسة، عمدت فلسفة الأنوار إلى إزاحة الله من المركز، وإحضار الإنسان لينال حقه في الحرية وتقرير مصيره، ومن هنا يرى المسيري أن إحضار الإنسان الضعيف الهش إلى المركز بديلاً عن الله سيؤول إلى العدمية، وإلى غلبة قانون الغاب الدراويني (البقاء للأقوى)، ويشرح ذلك قائلاً: “حينما سئل فاکيلاف هافل -رئيس جمهورية التشيك- عن الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، أجاب قائلا: «هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش في أول حضارة ملحدة في التاريخ البشري»أ.ه. فلم يعد الناس يحترمون ما يدعى القيم الميتافيزيقية العليا، والتي تمثل شيئا أعلى مرتبة منهم، شيئا مفعما بالأسرار. وأنا لا أتحدث هنا بالضرورة عن إله شخصي، إذ إنني أشير إلى أي شيء مطلق ومتجاوز. هذه الاعتبارات الأساسية كانت تمثل دعامة للناس، وأفقاً لهم، ولكنها فُقدت الآن. وتكمن المفارقة، في أننا بفقداننا إياها نفقد سيطرتنا على المدنية، التي أصبحت تسير بدون تحكم من جانبنا. فحينما أعلنت الإنسانية أنها الحاكم الأعلى للعالم، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بعده الإنساني”[29].
ثم يستشهد المسيري على خطل الإنسانوية الملحدة بمقولة هوبز، قائلاً: “ولعل هوبز هو أول مفكر وضع يده على الأطروحات المظلمة في العقلانية المادية «ولذا فنحن نتحدث عن الاستنارة المظلمة»، حين أعلن أن حالة الطبيعة «وهي حالة الإنسان بعد انسحاب الإله من الكون» هي حالة من حرب الجميع ضد الجميع، فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان. وسيتم التعاقد الاجتماعي بين البشر لا بسبب فطرة خيرة فيهم وإنما من فرط خوفهم وسبب حب البقاء فينصبون الدولة التنين حاكماً عليهم حتى يمكنهم أن يحققوا قدراً ولو قليلاً من الطمأنينة”[30].
لقد انفرطت حبات المسبحة بعد إزاحة الإله من المركز، فلقد تبعه مباشرة إزاحة المجتمع وسلطته وإسناده بحجة النزعة الفردية التحررية، والنتيجة أن الفرد وجد نفسه وحيداً غارقاً في تحرريته المنفلتة، محروماً من نقطة إسناد علوية أو أرضية، وهي حالة مرهقة ومدمرة لهذا الكائن الضعيف وتجعله “يحمل عبئا ثقيلا يفوق طاقته”[31]. وعلى إثر هذا النزوع المادي والتحرر الفردي، تحول المجتمع من حالة التراحم إلى حالة التعاقد، فصار التعامل البشري جاف تحفه خشونة المصالح المتبادلة، رغم ما فيها من جوانب إيجابية “تضمن حقوق الإنسان وتقلل من التوترات بين الأفراد، برغم أنها تقوم بتقويض العلاقات الإنسانية الحميمة”[32].
وقد تعاضدت الدراسات التي تؤكد هذا التفسير الذي بينه المسيري، ففي دراسات الانتحار، وجدوا أن نسبة الانتحار في البروتستانت أكبر بكثير من الكاثوليك، وقد فسر (إميل دوركايم) هذه الظاهرة بسبب النزعة الفردية والاستقلالية عند البروتستانت، مقابل دفء جماعي وتضامن لا يزال يحف المجتمع الكاثوليكي إذ يقول: “فالإنسان ينتحر لأن المجتمع الديني الذي هو جزء منه فقد تماسكه.. ولأن عقيدته تخلخلت”[33].
وقد اختزل المشهد الفيلسوف علي عزت بيجوفيتش فيما فهمه عنه المسيري بقوله: “إن الإنسان لا يمكن أن يكون إنسانا إلا بوجود الله، فإن مات الله -كما يقولون في الحضارة الغربية- مات الإنسان، أو إن نسينا الله -كما نقول نحن- فإننا ننسى أنفسنا”[34].
ما بعد الحداثة
وإذا كان هذا هو مآل إزاحة الله من المركز وإحلال الإنسان مكانه، فما الذي سيحدث؟ هل سيبقى الإنسان على هشاشته في المركز، أم تحل المادة مكانه؟ يستشهد المسيري بمقالة (سيرج لا توش) في كتابه “تغريب العالم” الذي يعرّف الغرب بقوله: “الغرب له ليس بقعة جغرافية ولا حتى لحظة زمنية، وإنما هو متتالية نماذجية أخذت تتطور وتأخذ أشكالاً مختلفة إلى أن أصبحت كالآلة التي لا تكترث كثيراً بالإنسان، تدور لتفرم الجميع حتى صاحبها”[35]. ذلك ختام الرحلة، رحلة التيه الحداثي، التي ابتدأت بإزاحة الله، ثم سقطت صريعة تحت سطوة المادة، وآلتها الجبارة، ونهمها الذي لا يشبع.
وقد يستشكل البعض تشكّل هذا المآل بسوداويته، خاصة وهو يرى المؤسسات الديمقراطية تخفض وترفع القادة، ويرى الجمعيات الإنسانية تمد يد المساعدة في القارات الست، ويرى المؤسسات الدولية ترعى حوار الشعوب كأم رؤوم!. وهي نظرات عجلى لتلك الأشكال والهيئات دونما بصر نافذ للغاية الدافعة، والروح الكامنة، والنتائج المُرّة التي تذوقتها الشعوب جراء هذا النموذج المادي المتوحش، الذي لوث الأرض خلال الخمسين سنة الأخيرة، بما لم يلوثها أحد مذ سكنها الإنسان قبل 100 ألف سنة. ناهيك عن تحويل تلك المؤسسات إلى أدوات هيمنة ناعمة. أما على المستوى الداخلي الغربي فيذهب رهط من مفكري الغرب إلى أن جوهر الشمولية كامن في النموذج الديمقراطي إذ “يرى مفكروا مدرسة فرانكفورت أن تصاعد معدلات الترشيد في المجتمع أدى إلى اختفاء الفرد والقيم الثقافية والروحية والعقل النقدي القادر على التجاوز حتى أصبح الإنسان كائنا ذا بعد واحد «هربرت مارکوز» يرتبط وجوده بالاستهلاك والسلع «فهو إنسان من سلع متشيّئ»، عقله أداتي، ينشغل بالوصف والرصد وإدراك الآليات، عاجز تماما عن إدراك الأغراض النهائية. أما (هورکهایمر وأدورنو)، فقد ذهبا في كتابهما “ديالكتيك الاستنارة”، إلى أن الترشيد المتزايد للعلاقات الاجتماعية في العصر الحديث قد أدى إلى تناقص استقلال الفرد وإلى تنميط الحياة. وأدى في نهاية الأمر إلى الشمولية والعنصرية”[36].
ثم واصل المسيري تتبع مآلات هذا المنظور الحداثي، فاستوقفته ظاهرة السعار الجنسي في الغرب، وطفق يبحث عن جواب شاف لهكذا ظاهرة، خاصة في مجتمع مفتوح يستطيع الإنسان أن يشبع غريزته دونما حاجة للاغتصاب أو الإسراف المخل بقدر الحاجة!
فلم يجد أفضل من الجوع الميتافيزيقي لتفسير ظاهرة السعار الجنسي، فكأن الجنس طقس روحي يعوض الطقوس الروحية التي قررتها الأديان، حيث يقول: “وقد بدأت أشعر بأن ثمة علاقة بين بحث الإنسان عن المطلق ورغبته في التجاوز والنزعة الطوباوية من جهة، وتصاعد رغبته الجنسية من جهة أخرى. فكلما ضمرت النزعة الطوباوية وتوارت المقدرة على التجاوز، زاد السعار الجنسي كمحاولة لتعويض الإنسان عن اختفاء عالم الأحلام، بحسبان أن عالم الجنس هو البديل المادي والمباشر للمدينة الفاضلة «تحقق مؤقت ومادي للفردوس» …إنه ميتافيزيقا مَن لا ميتافيزيقا له.. وقد وجدت أيضا أن عدم إحساس الأمريكي بالطمأنينة وافتقاده المعنى يجعله دائما يحاول أن يصل إلى بعض اليقين أو إلى اليقين الكامل المؤقت، ويحاول أن يأتنس بالغير كي يتجاوز اغترابه. ولكنه في الوقت نفسه يخاف من الارتباط الدائم بالآخر، ففي هذا نوع من الثبات وهذا هو أخشى ما يخشاه. وقد وجد ضالته في الجنس العابر، فمن خلاله يمكنه أن يصل إلى اليقين والائتناس المؤقتين، فالعلاقة الجنسية علاقة أكيدة يمكنه أن يدركها بحواسه الخمس، فتحل محل المعنى المجرد، ومن هنا تُدخل شيئا من الطمأنينة على قلبه، ولكنها لا تضطره في الوقت نفسه للارتباط بالآخر”[37]. وأجدني ميالاً لهذا التفسير الذي نستأنس له من القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى قد ربط ربطاً موضوعياً بين هجر الصلاة والإقبال على الشهوات، قال تعالى: ﴿فخلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾[38]. فصارت النفس القلقة التي كانت تشبعها الصلاة، ترتوي بعد ذلك من خلال الانكباب على الشهوات. ثم يلحظ المسيري أن نهاية النفق الشهواني حالة اندثار تنتظر الإنسان، إذ يقول: “ومهما كان الأمر فإن قضية الجنس كانت من القضايا المهمة التي اكتشفت من خلالها بساطة الرؤية المادية الاختزالية وأنها تؤدي لا إلى تحرير الإنسان وإنما إلى تفكيكه”[39].
غير أن رؤية المسيري التركيبية للحالة الغربية تُميّز بذكاء بين النموذج المهيمن في الغرب، وبين الإنسان العادي الذي يعيش حياته في الغرب بكل إنسانية، إذ يؤكد على ضرورة التمييز قائلاً: “وأرجو ألا يفهم من قولي أنني أتصور أن كل الأمريكيين غارقون في النسبية أو بدون أي إحساس بالذنب، فهذا تبسيط مخل للأمور. فأنا أدرس الواقع على مستوى النموذج المهيمن، أما حياة الأفراد المختلفين فهي بلا شك أكثر تركيبا وأكثر إنسانية من النموذج، فالإنسان العادي لا يزال يستمد يقينه من المسيحية أو بقاياها أو مقولاتها وقيمها بعد علمنتها”[40]. ثم يستشهد لهذه الرؤية المنصفة بعديد قصص منها: “كانت حفلة التخرج لابنتي نور في كنيسة المدرسة. وحينما جاء دور تسلمها الشهادة وجائزة التفوق وجدناها عبارة عن كتاب باللغة الإنجليزية، ولم يكن الكتاب سوى القرآن الكريم أعطاها إياه كبير الرهبان. وأنا أذكر هذه القصص لأبين الفرق بين النموذج المهيمن من جهة، ومن جهة أخرى الأفراد الذين يعيشون جزءاً من حياتهم حسب إنسانيتهم المشتركة، لا حسب ما يسيطر عليهم من نماذج”[41].
ثم يتنبأ بفشل الحداثة في المشرق الإسلامي لعمق المنظومة العقدية والقيمية التي شكلت عقل الإنسان العربي وارتقت به عن السقوط في هوة الاختزال المادي بخلاف الإنساني الآسيويّ الوثني، إذ يقول: “وفشل الحداثة عندنا هو نتيجة هذا الخوف، فالإنسان العربي مسلما كان أم مسيحيا، يحتفظ بمنظومته القيمية التي تجعله إنسانا متعدد الأبعاد.. فهو لا يسقط في الأحادية المادية التي ترد العالم بأسره إلى مستوى واحد، أي المستوى المادي.. على عكس العبادات الآسيوية الحلولية التي تذيب الفرد في المجموع والجزء في الكل، وهي عبادات ليس لها منظومات أخلاقية واضحة، وتميل الأخلاق فيها إلى أن تصبح بروتوكولات. ولذا فهي تربة صالحة لأن تولِّد الإنسان ذا البعد الواحد، الملائم تماما للحداثة الغربية بعقلانيتها وواحديتها المادية” [42].
(3)
فهم الصهيونية
اهتم المسيري كأبناء جيله بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب المركزية، وشارك في مناظرات وحوارات بأمريكا للتعريف بالقضية وإيصال رسالتها للرأي العام الأمريكي، غير أنه لاحظ خطابا عربياً يفتقد للذكاء وهو يعرض القضية، خطاباً يسقط في وهدة الاختزال أو المؤامرة أو المنحى القانوني الجاف الذي يستعرض القرارات الأممية التي أقرّت الحق الفلسطيني. فصار الخطاب العربي يختزل اليهود في الصهاينة، وتطغى عليه نظرية المؤامرة التي تنسب لليهود كل شر في الأرض، وتفسر كل شاردة وواردة بخيوط التآمر اليهودي. دونما تفسير للظاهرة الصهيونية جذورها وأفكارها ومآلاتها، وعلاقتها باليهود. ومن هنا ابتدأ المسيري رحلته الطويلة التي قاربت ثلث قرن ليفهم الظاهرة الصهيونية، فخرجت موسوعته الشهيرة التي تعد أحد منجزات العقل العربي في القرن العشرين في بابها.
النماذج التفسيرية للموسوعة
وأدرك المسيري من أول وهلة أن مراكمة المعلومات لن تفيد القارئ في شيء، ففي الحواسيب غُنية عن هذا التجميع المعلوماتي، وإذا كان ثمة إضافة فهي العقل التحليلي الذي يستقرأ المعلومات المبثوثة، ثم يستخرج منها أنموذجاً تفسيرياً ثم يختبر هذا النموذج ويستشرف به المستقبل، للتأكد من مدى صلابته وتماسكه واطراده، فجوهر “البحث والإبداع هو أن يكتشف الإنسان علاقة بين شيئين أو ظاهرتين لم يكتشفها أحد من قبل ويربط بينهما، ثم يجرد بعد عملية الربط هذه خطا عاما يتجاوز الظاهرتين له مقدرة تفسيرية، ثم يرى الواقع من جديد في ضوء هذه العلاقة الجديدة”[43].
وهذا ما استطاع الراحل أن يوفق إليه كثيراً، فخلص إلى نظرية متماسكة لتفسير الحالة اليهودية، وقد لاقت نظريته قبولاً واسعاً، لولا ما شابها من إهمال للبعد الديني للصراع حيث جعله على الهامش، وكان موقعه في مركز التفسير لا هامشه، خاصة وأن الباحث قد عثر على جذور الصهيونية في الخطاب الإنجيلي قبل أن يولد (هرتزل) ويهذي بها، فالصهيونية فكرة إنجيلية بامتياز، بل بالغ في تهميش المحركات العقدية بقوله: “فمسألة التراث اليهودي – المسيحي هذه، وتعاطف الغرب مع اليهود، ورغبته في تعويضهم عما نالهم من أذى في الغرب بإعطائهم فلسطين، هي في تصوري ديباجات وتبريرات لا تصلح لتفسير مثل هذه الظاهرة واتساعها وشمولها، خاصة وأن الغرب لا يشغل باله بمسائل أخلاقية”[44]. وهذا تهميش من الراحل لفاعلية التأثير (الصهيومسيحي) في أمريكا على الأقل، التي تصل فيها نسبة المتدينين إلى 46%، وللكنسية الإنجيلية تأثير بارز في صوغ مثل هذا التعاطف مع اليهود، وهو تعاطف التقطه (نعوم تشومسكي) فبيّن أن سببه عائد إلى أن كتلة اليمين الأمريكي تخضع لنزعتها الدينية في دعم إسرائيل[45]. وقد كُتبت في هذا الباب كتب عديدة من أهمها ما كتبه يوسف الحسن عن “البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني”[46].
وعلى الرغم من تحليلات المسيري التي قادته إلى ملاحظة أثر عقيدة الحلول والاتحاد في صوغ العلمانية الشاملة، فطفق يترجم بلغة عقدية مكنونات العلمانية، فإنّ قصوره في مقارنات الأديان حرمته من رؤية التأثير العقدي إذ شواهده منتصبة أمامه، ويرفض أن يناوشها اتساقاً مع نظريته في تفسير الحضارة الغربية، رغم نقله لشواهد من المحركات الدينية من مثل “أن شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» قد تبناه كل من البيوريتانيين والصهاينة. وليس من قبيل المصادفة أيضا أن المجتمعين الإسرائيلي والأمريكي من أكثر المجتمعات عنصرية. ومما له دلالته وطرافته، أن مؤسسي الجمهورية الأمريكية بعد إعلان الاستقلال قد فكروا في جعل اللغة العبرية لغة الدولة الرسمية بحسبان أن الجمهورية الوليدة هي صهيون الجديدة، ولكن الاعتبارات العملية جعلتهم يعدلون عن تهيؤاتهم”[47].
لكنه جعل هذه الشواهد في سياق أنموذج الفردوس الأرضي لكلا الشعبين (الأمريكي والإسرائيلي)، دون أن يجعلها كذلك ضمن سياق ديني توراتي إنجيلي، حيث تتزاحم أشواق رجال الدين لأرض الميعاد، إذ هي في نظر البيوريتان (المتطهرون) تتجسد في أمريكا، بل كان المؤرخ الأمريكي (توماس ورتن) يطلق على أمريكا إسرائيل، ويجعل إبادة الهنود الحمر: «لقطع دابر العادات الشريرة في أرض إسرائيل». ويقصد هنا بأرض إسرائيل أمريكا[48].
وقد خلص المسيري إلى مجموعة من المقولات التفسيرية لفهم الصهيونية أهمها:
1- الصهيونية بنت الفكر الحداثي الغربي
فمن “المعروف أن مؤسسي الحركة الصهيونية كانوا ملاحدة، يدورون في إطار الداروينية والنيتشوية، أي الفلسفات الحاكمة في أوربا آنذاك. وهرتزل على سبيل المثال، كان لا يعرف الشعائر اليهودية، والحاخام الذي جاء لعقد زواجه غادر دون أن يكمل مهمته لأنه وجد أنه لا يمكن عدُّ هرتزل يهوديا”[49].
ثم يؤكد انتساب الصهيونية للإمبرالية الغربية قائلاً: “فالصهيونية -في تصوري- ليست جزءا من العقيدة اليهودية، وإنما هي نجل إمبريالي للعلمانية الشاملة. فالصهاينة ينزعون القداسة عن كل شيء ويلغون تاريخ فلسطين والفلسطينيين ويهود العالم ويوظفونهم “يحوسلونهم””([50]).
2- الكيان الصهيوني جماعة وظيفية، وقاعدة استعمار، وجبهة متقدمة للإمبريالية الغربية.
يستخدم المسيري مصطلح “الجماعة الوظيفية” لتفسير ظاهرة إسرائيل، باعتبارها دولة مستأجرة من قبل الاستعمار الغربي لتنفيذ مهمة محددة، وهي مهنة تَطبّع عليها اليهود مذ فقدوا قدرتهم على تشكيل دولتهم الخاصة، فتحولوا إلى جماعات وظيفية لدى الآخرين. والجماعة الوظيفية “هي جماعة يستجلبها المجتمع من خارجه أو يجندها من داخله «من بين الأقليات الإثنية والدينية أو حتى من بعض القرى أو العائلات»، ويوكل لها وظائف شتى لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة من بينها رغبة المجتمع في الحفاظ على تراحمه وقداسته. فقد تكون هذه الوظائف مشينة «البغاء – الربا – الرقص – التمثيل أحيانا»، أو أمنية وعسكرية «الخصيان – المماليك» أو لأنها تتطلب الحياد الكامل «التجارة وجمع الضرائب»”[51].
واشتغال اليهود في هذا الإطار الوظيفي، هو الذي ساعد مجتمعاتهم الخاصة على البقاء، بجوار وصايا التلمود التي تزعم لهم التفوق، فاشتغال “اليهود بالتجارة سبباً في استمراريتهم وفي احتفاظهم بنوع من الاستقلال العنصري والقومي. فقد ذابت وانصهرت كل شعوب الإمبراطورية الرومانية إلا اليهود، لأنهم كانوا يقومون بوظيفة محددة واستمروا في القيام بها بعد سقوط الإمبراطورية”[52].
وفكرة التوظيف الغربي لليهود ولدت بداخل المذهب المسيحي البروتستانتي في إنجلترا أواخر القرن السادس عشر، ثم تبلورت في صورتها النهائية على يد اللورد الإنجليزي (شافتسبري) أواسط القرن التاسع عشر، قبل ظهور اسم هرتزل على الساحة، وبالمناسبة فاللورد (شافتسبري) يَكِن لليهود كراهية مفرطة، ولكنه لم يمانع من استخدامهم لخدمة الإمبراطورية البريطانية، لحل المشكلة الشرقية، التي كانت تعني آنذاك تقاسم تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية)[53].
وقد كان زعماء الصهيونية صرحاء جداً مع الغرب وهم يعرضون عليهم هذه الخدمة فقد قال (هرتزل): “سنقيم هناك «في آسيا» جزءا من حائط لحماية أوروبا يكون حصنا منيعا للحضارة الغربية في وجه الهمجية”[54].
ولا يزال الصهاينة حتى اليوم يشعرون بعبء الوظيفة الملقاة عليهم، فالصحفي الإسرائيلي (ب.سبير) يقول: “إن الأمريكيين يدفعون لنا لأنهم يريدون أن تكون لهم دولة تابعة مجهزة بأفضل الأسلحة والجنود. وقد وصف “سبير” إسرائيل بأنها حاملة طائرات عليها أربعة ملايين نسمة في موقع استراتيجي فريد من نوعه قريب من الاتحاد السوفيتي وقريب من أوربا الشرقية وقريب من حقول النفط”[55].
3- الحركة الصهيونية نشأت لتحمي مكتسبات يهود وسط أوروبا وغربها بإخراج يهود شرق أوروبا من القارة حتى لا يشكلون عبئاً عليهم.
وقد لمح المسيري وهو يتتبع خيوط المشروع الصهيوني، أن حماس المرابين اليهود لدعم دولة صهيون ناشئ من رغبتهم في التخلص من الكتلة اليهودية في شرق أوروبا، وهي كتلة متخلفة، قد تثير كوامن المسيحية الغالبة -إذا ما استمر تدفقها على وسط أوروبا وغربها- فتنقض على مصالح المرابين. فقد عُقد “المؤتمر الصهيوني الأول في عام ۱۸۹۷م لأن الفائض البشري اليهودي كان قد تزايد في شرقي أوربا وبدأ يهدد المواقع الطبقية والمكانة الاجتماعية التي حققها يهود وسط أوربا وغربيها، وأنهم هم الذين أسسوا الحركة الصهيونية للتخلص من يهود شرقي أوربا “ولذلك لم يكونوا يتحدثون عن المسألة اليهودية، وإنما عن المسألة اليهودية الشرق أوربية””[56].
4- المنظومة الغربية تصرفت بعنصرية تجاه اليهود وإمبريالية تجاه العرب، فأرادت أن تطهر القارة الأوروبية من اليهود، وتضع شوكة في مؤخرة العرب كما قال: (ستالين)[57].
وقد تجلت العنصرية عند المعسكرين النازي والليبرالي، فالنازي حاول تطهير القارة منهم بالمحارق لعدم توفر مستعمرات يرسلهم إليها، والليبرالي البريطاني تخلص منهم بإرسالهم إلى مستعمرة من مستعمراته، وهنا يدمغ المسيري خطة الإجلاء الأوروبية بعنصريتها تجاه الطرفين (العرب واليهود)، إذ أن “مقولة تخليص أوربا من اليهود تمكنّا من ملاحظة أوجه الشبه بين (آرثر بلفور) و(أدولف هتلر)، فكلاهما يود تحقيق هذا الهدف. ولكن على حين حاول (بلفور) التخلص منهم من خلال إرسالهم إلى مستعمرات الإمبراطورية الإنجليزية، حاول هتلر التخلص منهم بطريقة غير بلفورية، بأن أرسلهم إلى معسكرات الاعتقال والغاز. وقد اضطر هتلر اللجوء لهذه الطريقة لأن أوربا كانت قد صادرت كل ممتلكات ألمانيا الاستعمارية وأجهضت مشروعها الاستعماري. وإن كان والحق يقال إن هتلر لم يكن يمانع قط في الطريقة البلفورية، ولذا تبنى عدة مشروعات صهيونية مثل مشروع موزامبيق، ولكن لم يقدر لها النجاح “[58].
5- الاستيطان الصهيوني استئصالي، وهو امتداد لروح الإبادة المتجذرة في الحضارة الغربية.
يضع المسيري الاستعمار الصهيوني لفلسطين في خانة الاستعمار الاستئصالي، الذي يهدف إلى إحلال شعب مكان شعب آخر، ويعتبر هذه الاستراتيجية الصهيونية جزءاً لا يتجزأ من الروح الغربية التي تستبطن الإبادة لكل ما يعيق تمددها، فإبادة “الشعوب الأخرى ليست مسألة انحراف «في الفكر والحضارة الغربية؟»، وإنما نمط عام متكرر: ملايين البشر في الأمريكيتين وأستراليا والجزائر وفيتنام وفلسطين”[59].
بل إن ما تعمله الصهيونية في فلسطين هو عين ما فعله الأمريكان في القارة إبان نزوحهم إليها، ومن هنا ندرك سر التفهم الأمريكي والحماس الأمريكي لما تفعله إسرائيل.
ومصدر هذا الاستئصال نابع من العقيدة العنصرية التي جاءت من فكرة الحلول، حلول الإله في الشعب الإسرائيلي فالصهيونية “تدور حول ثالوث حلولي يتكون من الأرض «اليهودية» والشعب «اليهودي» أما العنصر الثالث فأشرت إليه بأنه المبدأ الواحد، قد يسمى «الإله اليهودي» أو «روح الشعب» أو «العرق اليهودي» وهو عنصر رغم إطلاقه، غير مفارق للأرض والشعب، بل متحد بهما عضويا. والحلولية اليهودية هي الإطار الذي يتحرك فيه الصهاينة العلمانيون والدينيون والأرثوذكس. فقد نجم عن حلول الإله في الشعب والأرض أن أصبح الشعب مقدسا وأصبحت الأرض هي الأخرى مقدسة، يختلف الفريقان العلماني والديني في تسمية مصدر القداسة ولكنهما لا يختلفان البتة في أن القداسة هناك”[60]. ولأجل هذه الرؤية الحلولية التقديسية للشعب والأرض؛ يُصّر اليهود على فكرة يهودية الدولة، ويرفضون فكرة الدولتين، ويحثون الخطى لرؤية فلسطين خالصة للمقدس، وخالية مما دونه.
6- اليهود بشر
ومن الإضافات التي ساهم فيها مشروع المسيري، نزع هالة القوة الخارقة لليهود، فقد تأثر الخطاب العربي عقب هزيمة حزيران67 بنظريات المؤامرة التي تصوّر أن العالم لعبة بيد إسرائيل، وأن هنالك نفر من اليهود الأشرار الأخفياء يتحكّمون بمصائر البشر، ويرسمون مسارات الأحداث، وهي لعبة خداع نفسي انتحلها الخطاب العربي ليبرر هزيمته أمام عصابات الصهيونية، قال عنها المسيري: “ويخيل لي أن إدمان بعض العرب لهذا النموذج هو محاولة غير واعية منهم لأن يستعيدوا شيئاً من التوازن النفسي أمام عدو استولى على أرضنا ثم ألحق بنا الهزائم. ونحن ننسب له قوة خارقة، حتى يتم تسويغ الهزيمة، لأنه لو كان عاديا يمكن إلحاق الهزيمة به، فيظهر ضعفنا وهواننا أمام أنفسنا”[61].
وللأسف فقد تحول نموذج التفسير التآمري، إلى مكون رئيس في الذهنية العربية، حتى رأينا أنظمة عربية ترتمي في أحضان الصهاينة طالبة منهم الحماية وفتح الخط مع العم سام، بعد أن سلبهم الخطاب التهويلي القدرة على التمييز بين التابع والمتبوع، فصار الغرب بكل قوته وجبروته وترسانته ومؤسساته تابعاً، وصارت إسرائيل القزم متبوعاً، لأن الخطاب العربي عجز عن فهم طبيعة العلاقة بين حاملة الطائرات (إسرائيل) والحلف الأم (الغرب) ، فظننا أن حاملة الطائرات تتحكم بحلف شمال الأطلسي برمته، ثم عاضدت هذه التصورات الهزيلة كتب تصدر من الغرب تتحدث عن اللوبي الصهيوني، دون أن ترصد دور تيار محافظ ولهانٍ بالنبوءات الإنجيلية التي تتحدث عن عودة عيسىu إلى صهيون، وحينئذ إما أن يتحول اليهود إلى المسيحية أو يذهبون إلى الجحيم، في واحدة من أغرب التقليعات الكهنوتية[62]!
وقد تصدى المسيري لأسطورة اللوبي الصهيوني بقوله: “إن الكثيرين ينسون أن الدولة الصهيونية استثمار إستراتيجي مهم بالنسبة للولايات المتحدة.. وتنبع إستراتيجية الولايات المتحدة من الإستراتيجية الغربية العامة التي تحددت منذ منتصف القرن التاسع عشر «قبل أن يصبح أعضاء الجماعات اليهودية لاعبين أساسيين في كواليس السياسة الغربية» وقد قررت هذه الإستراتيجية المواجهة المستمرة مع العالم الإسلامي بدلا من التصالح أو التعاون معه..إن المدافعين عن نظرية اللوبي يهملون العلاقة الإستراتيجية بين الغرب وإسرائيل، ولا يدركون أن نجاح (هرتزل) لا يكمن في أنه جند اليهود « فمعظم أعضاء الجماعات اليهودية كانوا ضده»، وإنما لأنه اكتشف الإمبريالية كآلية لتنفيذ المشروع الصهيوني… وقد طرحت بعض الأسئلة لتدعيم وجهة نظري: لم صدر وعد بلفور من إنجلترا وليس من ألمانيا رغم قوة الجماعة اليهودية في ألمانيا وضعفها في إنجلترا؟ و هل حينما تزيد الأصوات اليهودية التي تعطى لرئيس أمريكي ما، تزداد درجة دعمه لإسرائيل، أو أن منحنى التأييد الأمريكي لإسرائيل آخذ في التصاعد بغض النظر عن حجم الأصوات اليهودية؟.. وهذا لا يعني بطبيعة الحال إنكار دور اللوبي الصهيوني، فهو لوبي منظم وقوي، والنظام السياسي في الولايات المتحدة يسمى ديموقراطية جماعات الضغط، وهو يمارس دورا كبيرا في توجيه سياسات الولايات المتحدة، ولكنه يظل يتحرك في إطار الإستراتيجية العامة المسبقة، ويستمد -كما أسلفت- نجاحه من تحرکه داخل هذه الإستراتيجية لا ضدها، ومن ثم لا يمكن الحديث عنه بحسبانه السبب، وإنما هو عنصر مساعد داخل إطار قد تحدد من قبل”[63].
ولم يكتف المسيري بتفنيد أسطورة اللوبي، إذ توجه لتفنيد أسطورة العبقرية المزعومة لليهود إذ يقول: “يمكننا القول بأن الحديث عن العبقرية اليهودية فيه شطط، وأن الحديث عن الجريمة اليهودية لا يقل عنه شططا، فكلا المفهومين يكتفي بالنظر لليهود من الداخل، ويراهم بحسبانهم كلا منعزلا عن محيطه الحضاري، ويری أن يهودية عضو الجماعة اليهودية هي المسئولة عن سلوكه، عبقريا كان أم إجراميا، وهنا يحق لنا أن نسأل إن كانت يهودية اليهودي هي المسئولة عن عبقريته، فلم لم يظهر (كافكا) أو (أينشتاین) بین يهود الفلاشا؟ وإذا كانت يهودية اليهودي مسئولة عن إجرامه فلم لم يظهر تنظيم مافيا يهودي في اليمن ” کما حدث بين يهود الولايات المتحدة في الثلاثينيات” إن دراسة المؤسسات والظواهر اليهودية يجب أن تبدأ بدراسة المجتمع الذي يعيش أعضاء الجماعات اليهودية بين ظهرانيه”[64].
ثم يختم حديثه بخطورة أنموذج المؤامرة على الصراع العربي الإسرائيلي قائلاً: “قد ينجح نموذج المؤامرة في مراحله الأولى في تخويف الجماهير وتوليد العداء للعدو الصهيوني، بل وفي تجنيدها ضده، ولكنه بعد قليل سيجابه الحقيقة المرة وهي أن الناس قد يصدقون ما يبشر به هو نفسه، وهو أن اليهود شياطين، قوة لا تقهر «مثل جيش الدفاع الإسرائيلي» وأنهم يحكمون العالم، وأن أيديهم الخفية موجودة حقا في كل مكان، ومن ذا الذي يريد التصدي لقوة هائلة مثل هذه تشبه القضاء والقدر، وتحكم العالم بأسره، وتمتد أيديها الخفية لكل مكان؟”[65].
أخيراً:
مثل هذه الكتب الزبدة، لا يصح في حقها التلخيص والعرض، ولكن ضرورة الكسل (الانشغال) المعرفي عند كثير من القراء ألجأتنا لإعمال مبضع التلخيص، إذ السِفر مدونة فكرية عالية المستوى، وهو يغني عن كتب كثيرة عالجت مسألة الصهيونية والعلمانية والحداثة والتغريب.
ولهذا العرض المطول هدفان أدناهما عرض أهم الأفكار التي دبجها يراع المسيري، وأعلاهما أن نشجع القارئ على شد رحاله إلى حيث المنبع، عازمين عليه أن اِقصِد البحر وخَلِّ القنوات.
اقرأ ايضاً: مراجعة لكتاب (رحلتي الفكرية)
[1] المسيري، عبد الوهاب: رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر. ط1. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة. 2000. ص102
[2] رحلتي الفكرية، ص91.
[3] رحلتي الفكرية، ص 236.
[4] رحلتي الفكرية، ص77.
[5] رحلتي الفكرية، ص 108.
[6] رحلتي الفكرية، ص78
[7] رحلتي الفكرية، ص 91.
[8] رحلتي الفكرية، ص91.
[9] رحلتي الفكرية، ص452.
[10] رحلتي الفكرية، ص 343
[11] رحلتي الفكرية، ص 343.
[12] رحلتي الفكرية، ص 343.
[13] رحلتي الفكرية، ص 427
[14] رحلتي الفكرية، ص 153.
[15] رحلتي الفكرية، ص 303.
[16] مجاهد، عماد: التنجيم بين العلم والدين والخرافة، ط1. بيروت:المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 1998. ص22.
[17] رحلتي الفكرية، ص 161.
[18] المسيري، عبد الوهاب: الحضارة والإنسان، ص 177.
[19] رحلتي الفكرية، ص 301
[20] رحلتي الفكرية، ص 200.
[21] رحلتي الفكرية، ص 202
[22] العكش، منير: أمريكا والإبادات الجماعية. ط1. بيروت: رياض الريس للكتب والنشر. 2002.ص 11.
[23] رحلتي الفكرية، ص 173.
[24] رحلتي الفكرية، ص 465.
[25] رحلتي الفكرية، ص 457
[26] رحلتي الفكرية، ص 457
[27] رحلتي الفكرية، ص 460
[28] طاهر، علاء: نهايات الفضاء الفلسفي. م1. ط1. القاهرة: مكتبة مدبولي. 2005 .ص70.
[29] رحلتي الفكرية، ص 167.
[30] رحلتي الفكرية، ص 167
[31] رحلتي الفكرية، ص 158
[32] رحلتي الفكرية، ص56
[33] دور كايم، إميل: الانتحار، ص194وما بعدها.
[34] المسيري، عبد الوهاب: رحابة الإنسانية والإيمان، ص143.
[35] رحلتي الفكرية، ص 289.
[36] رحلتي الفكرية، ص166.
[37] رحلتي الفكرية، ص 182.
[38] سورة مريم:59.
[39] رحلتي الفكرية، ص 192
[40] رحلتي الفكرية، ص 159
[41] رحلتي الفكرية، ص 178
[42] رحلتي الفكرية، ص 169.
[43] رحلتي الفكرية، ص260.
[44] رحلتي الفكرية، ص 175.
[45] تشومسكي، نعوم: السلطان الخطير. ص85.
[46] إصدار مركز دراسات الوحدة العربية،1990م.
[47] رحلتي الفكرية، ص 326.
[48] عامر، أحمد: سقوط الأندلس وبداية أمريكا. موقع ساسة بوست.
[49] رحلتي الفكرية، ص 475.
[50] رحلتي الفكرية، ص 471.
[51] رحلتي الفكرية، ص 454
[52] رحلتي الفكرية، ص 454.
[53] المسيري، عبد الوهاب: المدخل إلى القضية الفلسطينية، ص 137.
[54] رحلتي الفكرية، ص 427
[55] رحلتي الفكرية، ص428.
[56] رحلتي الفكرية، ص 246.
[57] لماذا صنع الاتحاد السوفييتي إسرائيل، برنامج “رحلة في الذاكرة” مع المستشرق ” ليونيد ميدفيدكو”. قناة روسيا اليوم. بثت الحلقة بتاريخ 26/06/2009م.
[58] رحلتي الفكرية، ص47.
[59] رحلتي الفكرية، ص 284.
[60] رحلتي الفكرية،
[61] رحلتي الفكرية، ص478.
[62] تشومسكي، نعوم: السلطان الخطير، ص 85.
[63] رحلتي الفكرية، ص 473،474.
[64] رحلتي الفكرية، ص 467.
[65] رحلتي الفكرية، ص 477