- مقابلة مع: أليساندرو بيزورنو
- ترجمة: تقي الدين بن فيفي
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: لطيفة الخريف
- ساساتيلي: لنبدأ بالسياق الذي كتبت فيه “مقال عن القناع” (بيزورنو، 2005) قبل 15 عاما. كنت في باريس، بعد فترة دراسة في النمسا…
- بيزورنو: نعم، كتبته بين ردهات مكتبة “متحف الإنسان“، وتحديدا في غرفة “خزائن الأقنعة“. وحينها طرحته في ندوة بمدرسة الدراسات العليا، أدارها إيغانس ميرسون، والتي شاركت فيها برفقة سبعة أو ثمانية مفكرين شباب آخرين، من بينهم جان بيير فرنانت. كان هناك أيضا أصدقاء خارج تلك الندوة معجبين بكل الجدل الباريسي الفينومينولوجي، على العكس من فرنانت وميرسون. وأعتقد أن ظهور بيرانيدلو في المسرح الباريسي كان سببًا أساسيا.
—
- ساساتيلي: من فضلك، اشرح أكثر…
- بيزورنو: بين عامي 1950 و1953 بباريس، كان بيرانيدلو معروفا للغاية، وقد أسهم كثيرًا في الحضور الثقافي الإيطالي. وقد شاهدت أيضا مسرحية “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” لأول مرة في فرنسا. في لحظة معينة، أراد طلبة مدرسة الدكتوراه الإيطالية دراسة بيرانديلو، وطلبوا مني أن أتولى تدريس فصلين، إضافة لعلمهم أني أحب المسرح، لذلك درست بيرانيدلو. في ذلك الوقت، كنت جزءًا من فريق ميرسون، الذي اتخذ اسمًا غريبًا “سيكولوجيا التاريخ” وهو سم قد لا يشكل اليوم أي معنى. إلا أنه كان هناك عنصرًا قويًّا اتخذ مسمى الأنثروبولوجيا أو سيكولوجيا الثقافة. كانت ندوة المدرسة جيدة للغاية، كانت تجربة لمشاركة الأفكار والأعمال، ولم أتعرض فيما بعد لعمل مكثف بهذا الشكل، بالإضافة أنها كانت تعقد مرة في الأسبوع وكنا نتشارك نفس الاهتمامات. كان فرنانت يعمل بالفعل على دراسة تراجيديا اليونان، وكان فرانسي Francés يدرس سوسيولوجيا الموسيقى، وآخر كان يدرس الرقص، وآخر جلجامش، موضوعات مختلفة إلا أنها متشابهة من حيث المنهج، ولم تكن منهجية تقليدية بل كانت إبداعية وتنطلق من وجهات نظر جديدة. قبل البدء بعرض أوراق أبحاثنا، يتوجب علينا قضاء ما بين ربع ساعة إلى عشرين دقيقة للتحدث عن قراءتنا طوال الأسبوع… شيء ما قد ابتُكر، كان هناك تبادل حقيقي… لم أفعل ذلك منذ تلك الفترة أبدًا، لكنني اقترحتها دائما لمن ينظم مثل هذا النوع من الندوات، وأن هذه اللحظات هي لحظات لمّ الشمل. حتى أنني كنت أنوي كتابة ورقة عن المهرجان، إلا أن ميرسون – هادم اللذات – قد أوقفني … ثم كان فرنانت والمسرح بعد ذلك. على أي حال، هاتان الفرصتان (الندوة في المدرسة وبيرانديلو) كانتا مصدر إلهام لي للاهتمام بـ “مقال عن القناع”.
—
- ساساتيلي: أهي صدف متعددة، أم شيء أكثر من ذلك؟
- بيزورنو: في نظري، كان واضحًا أن اهتمامي بالقناع له جذور أعمق. لطالما سألت نفسي كيف؟ كيف أصبحت متمسكا بهذا الموضوع؟ لاحظي أن من بين أمور أخرى، كنت مراسلًا لراديو RAI [الشركة الوطنية للبث العامة في إيطاليا]، وكنت عادة ما أرسل قطعًا عن المشاهد الفنية من كل المعارض. في مرحلة معينة، بدأت بكتابة شيء كان قد نُشر في مكان ما (لا أتذكر أين!) بعنوان “الرقص بوصفه حقيقة الجسم La danza come verità del corpo [Dance as Truth of the Body]، كانت مقابلة مع كاثرين دونهام. لقد كنت ممتنًا بالفعل لهذه المقابلة ! تعلمين أن كاثرين دونهام كانت راقصة بارعة، مع ذلك كانت خريجة قسم الأنثروبولوجيا، أصلها كاريبي وتخرجت بأطروحة عن الرقص الكاريبي. لقد حققت نجاحًا كبيرًا في باريس وطلبت منها إجراء مقابلة. سارت الأمور بصورة جيدة، أجريت المقابلة في الوقت الذي كانت تُحضٍّر فيه نفسها للصعود على الخشبة… ذلك الحين، كان اهتمامي بالمسرح والرقص قويا جدًّا. كان اهتماما بالجانب الفيزيقي للثقافة، هذا ما دفعني بالفعل. كنت جزءًا من جمعية تدعى “الرقص والثقافة” في باريس، والفضل يعود لهذا في امتلاكي تذاكر مجانية، دعوات وغير ذلك، ولم أفوت أي رقصة !، مع هؤلاء الأفارقة والراقصين الكاريبيين، سواء كان أداء استعراضيا، أو رقصا أخلاقيًّا. إذا يمكنك التخيل، كان هذا -بعامة- مزيجًا من اهتماماتي التي كانت تتحرك في ذلك الوقت في اتجاه معين، والتي كانت تعارض بالفعل دراساتي القانونية الأولى، والتي كنت قد تركتها من أجل الفلسفة. تذكري لقد تخرجت من قسم علم الجمال مع باريسون Luigi Pareson.
—
- ساساتيلي: إذًن كانت هناك استمرارية في الدراسات التي تابعتها برفقة ليغي باريسون Luigi Pareyson؟
- بيزورنو: نعم، بالتأكيد. لنقل إن الفكرة المركزية كانت معاداة الكروتشوية([1]) بشدة: لم يكن الفن تعبيرًا عن الإحساس، بل كان تواصلًا. إن الفن تواصل وتقنية للتواصل؛ لأن الرقص -على سبيل المثال- وُجد بالتقنية نفسها، وهكذا يؤدَّى الفن. هنا يظهر القناع، مع إضافة اهتمام مسرحي. إنه ليس على سبيل الصدفة والإثارة أن يقول بيرانديلو إن كل الشخصيات تُعرّف نفسها بقناع، لقد كان قناع بيرانديلو هو ما يعرفها على أنها نمط معين، بمعنى أنها قد تكون أقنعة الترف، أو قناع الأم، أو الأمومة… كانت أقنعة تمثل شخصياتهم. كان مسرح بيرانيدلو مسرح اعتراف. كانت الشخصيات الست أناسًا يبحثون عن شخص ليعترف بهم: إنهم غير موجودين حتى يعترف بهم. بالتفكير في ذلك مجددًا، أود القول إن ما كنت أبحث عنه أيضا يملك طبيعة أكثر عمومية. فكرت بطريقة إيجابية عن القناع (أعتقد أنني قلت إن هذه بداية العمل)، ليس كشيء يُخفي، ولكن كشيء يكتشف…
—
- ساساتيلي: كأداة لخلق هوية؟
- بيزورنو: هذا صحيح. إن القناع يُخفي ويَكشف في نفس الوقت. لكن يفعل ذلك بصورة مختلفة، بحسب الحالة وفي مختلف المراحل خلال الحياة. في البداية، تجد القناع في العائلة. إنك تعتقد أن لا أحد يملكه، بعد ذلك، تدرك أن الآخرين يضعونه. وإذا وضعوه، تستطيع فهمهم شيئًا فشيئًا عندما يكونون أمامك وجهًا لوجه. هكذا يبدأ المسار الطويل الشاق للتدرب على القناع. إنك مُلاحِظ وممثل، تسعى لفهم ما يكمن خلف القناع الذي يضعه الآخرون، وفي الوقت نفسه تحاول فهم من يخدمك بصورة أفضل حتى تحمي نفسك من الآخرين. وإنك تضعه وتزيله. وحينما تغدو مراهقا، وأنت لست على يقين بما يكمن خلف القناع فإنك تقرر ارتداءه، وأنت غير متيقن من الأمر الذي تحاول إخفاءه، فتبحث عن الأقنعة الأكثر غموضًا أو الأكثر إخافة، أو الشاذ منها، أو القناع الأكثر تضليلًا بصورة احتفالية لارتدائه. تترك مسافة بينك وبين كل الآخرين، بينما أنت تراقب نفسك، وشيئًا فشيئًا تكبر داخل القناع الذي صنعته بنفسك، لكن أنت مجبر على ارتدائه شئت أم أبيت. إن حقيقة أنني أنا أيضا، في ذلك الوقت كنت غير متيقن تمامًا مما أخفيه وما أظهره، ربما يكون هذا قد لعب دورًا في اختيار هذا البحث، من غير أن أكون مدركًا لذلك تماما.
—
- ساساتيلي: في هذه الدراسة، هناك لعب كثير بين الإظهار والإخفاء. فيما يُسمى الثقافة القبلية، فالقناع قد يكون له دور في حصر الأشخاص، أو بالأحرى، إخفاؤها لغرض إظهار شيء ما…
- بيزورنو: إن كان هناك شيء صحيح فيما يقوله علماء الأنثروبولوجيا، فيبدو أنه ينبع من الوظائف المؤسسية لأقنعتها. يتيح القناع لمرتديه أن يُعترف بهم. إضافة إلى الوظيفة الروحية، وفي بعض الأحيان الوظيفة السياسية أو الوظيفة العسكرية. في مجتمعاتنا التقليدية، التي عرفنا عنها مؤخرًا، فإن هذه الوظيفة تُنجز من خلال إشارات أخرى، الألبسة الموحدة، والأختام، ومختلف الرموز. في المجتمعات الفردانية الحديثة، فإن استعارة القناع تشير بوضوح أكثر إلى حوار الإخفاء والإظهار للفرد.
—
- ساساتيلي: على المستوى التجريدي، هل يعمل القناع على أنه تشبيه وجودي؟
- بيزورنو: نعم، يمكن أن نميل إلى قول إن كل من لم يشعر بالقدرة أو القوة الكافية لارتداء القناع أمام العامة، فإنه يميل للإخفاء، ومن ثم هناك إمكانية لتكون القناع داخله، حيث يرى صاحب القناع الآخرين يعترفون به، ووفقًا له فإن قبول هذا الاعتراف هو أوضح ما يمكن فعله، وأقل إرهاقا، وبذلك سينتهي إلى ارتداء تلك الشخصية التي صُنعت من خلال اعتراف الآخرين به، تماما مثل اختياره للقناع. إلا أنه لا يزال يعامله على أنه قناع. إنه شيء يكمن خلف ما يتخيل أنه يستطيع الحفاظ عليه كمكان “مخفي”، أو لاستعماله كاستراتيجية للاختفاء. من المحتمل أن تتوقف هذه التواصلات الداخلية المتخيلة مع وعي الفرد في سن الشيخوخة، ويصبح كل شيء قناعًا، ويتحول إلى صمت تجاه الآخرين، صمت متكرر ولامبالاة بهم. هناك أيضا من لديهم قناع الموت، فيصبح غير عابئ بالآخرين وهم يرونه عديم الفائدة. لذا، حيث إنهم عديمو الفائدة – باستثناء احتياجاتنا كأحفاد – فإنهم يصبحون كالبقايا التي يجلبها علماء الآثار من مواقع الحفر الخاصة بهم.
—
- ساساتيلي: تشير هنا إلى ما يذكره دي لا بورتا Della Porta وغريكو Greco وساكولساي Szackolczai بأن الهوية بوصفها تاريخًا للاعترافات، يحصل عليها المرء في مختلف السياقات التي يجد نفسه فيها. يمكن رؤية القناع على أنه استعارة لاعتراف مستقبَل أو على أنها ضعف للهوية التي يجري إنشاؤها…
- بيزورنو: بالضبط! تلك هذه هي النقطة بالتحديد، فإن الإلحاح على موضوع الهوية، وهو موضوع لم يأخذه علم الاجتماع بجدية على الإطلاق، بينما بالنسبة للأنثروبولوجيين فلطالما كان هذا الموضوع مركزيا للغاية. إن علم الاجتماع بدأ بأخذه بعين الاعتبار فقط في السنوات 1960 و1970… سيكون مثيرًا للاهتمام رؤية الاستعمال التاريخي لمصطلح “الهوية” من فرويد إلى دوركايم وفيبر. لم يستعمل أحد من الكلاسيكيين هذا المصطلح، لماذا؟ لقد بدأ علم الاجتماع بالوظائف. لقد كانت الوظائف أقنعة حقيقية، وبالتحديد، هوية. لكن لو تحدثنا عن تعدد الوظائف، حينها لم يتحدث أحد لسنوات عن تعدد الهويات، وهي مشكلة لا تزال تحظى بكثير من الاهتمام اليوم، أي ذلك المتعدد بالذات، مثلا، في مجموعة مقالات الذات المتعددة The Multiple Self التي حررها جون أليستر Jon Elester (1985).
—
- ساساتيلي: يُخفي القناع أثناء تكوينه، ويتكون بينما يُخْفي. وهذه الدينامية -التي تقع بين تحديد الهوية، وتثبيت الهوية في الزمان والمكان والسيولة، وهو ما يجعلها غير ثابتة أبدا- تنطوي على إمكانات إبداعية. يبدو القناع على أنه دينامي(سائل)، والذي أصبح في الحداثة متوطنًا ويوميًّا، ليس فقط من حيث المستوى قصير المدى Synchronic (لعبة الأوجه، أو لعبة الأدوار) بل أيضا على المستوى بعيد المدىDiachronic (بناء الذات على مر الزمن). بالفعل، فإنك تُلح على البعد الزمني. هنا يبدو أنك تشير إلى “الإيقاع” “Rhythm” – كمجموعة من الممارسات التي تخلق فروقات في تدفق الخبرة– بوصفه تقنية أساسية لحفظ توازن “الزمن” الاجتماعي Social Time…
- بيزورنو: إن مسألة الإيقاع كانت مهمة للغاية بالنسبة لي في ذلك الوقت، إلى جانب تجارب أخرى متعلقة بالمسرح والرقص. كان الأدب في المسرح بفرنسا في تلك المرحلة غنيًّا للغاية من هذه الجهة، أيضا بمعنى الحركات الكامنة، والصوت والرقص. كان هناك مركز تعليمات مسرحية حيث يُدَرَّب الممثلون على التمثيل بالأقنعة. وكان القناع هو من كان عليه التعبير عن نفسه بالحركة، والتغيير حسب رؤية الضوء. كان على القناع التحدث، كان عليه أن يقول شيئًا، لسبب واحد: حتى يكون القناع الذي يمكن رؤيته مستقلا تماما بالتحدث بانفتاح… حين تحدثت عن إيقاع، أو عن أشياء تتأرجح، أو عن ذلك القناع، كنت أشير إلى شيء مشابه. إن قدرة الممثل هذه على امتلاك الحرية ليصبح قناعًا كليًّا من جهة، ومن جهة أخرى ليستمر في الواقع، ليكون حرًّا بالمقارنة مع الآخرين، بواسطة الحركة والإيقاع.
—
- ساساتيلي: هذا يذكرني في تلك الفترة أو فقط بعدها بسنوات في نهاية سنة 1950 بكتاب غوفمان Goffman تقديم الذات في الحياة اليومية (1959)، متبوعا بكتاب أنسلم ستروس Anselm Strauss المرايا والأقنعة (1959) …
- بيزورنو: لم يسبق لي أن قرأت لستروس، علمت ذلك، ربما لم أرد الرجوع إلى القناع. فقد كان لي في تلك المرحلة قناعي مسبقًا! من جهة أخرى، يبدو أن غوفمان قد افترض أن الإشكال النظري قد حُل بالفعل… على هذا النحو، ونظرا لكون الأمور كانت كما هي عليه، فقد حلله بصورة مدهشة في الحياة اليومية على أنه مسألة احتفالات… في تقديم الذات (الذي كان أول ما قرأته): فإن الذات هي ما يجري تقديمه إلا أنها موجودة مسبقا. فهي تمتلك مسبقًا استراتيجيتها، وتدافع عن نفسها، وتدير الانطباع، ومن ثم فهي أحد ما موجود بالفعل بصفته شخصًا. هي ليست كمشكلة القناع، التي هي مشكلة الذات التي ليست موجودة بعد! يفترض غوفمان أن الذات قد شكلت مسبقا، ومن ثم يلتف حول الإشكال النظري، وهو ما أثار اهتمامي. لقد كنت بالتأكيد أكثر اهتماما بمسافة الدور (انظر غوفمان، 1961)، ومع أنها مسافة استراتيجية، فإنها هنا وضع ونزع للقناع، وضعه بحالة أو بأخرى، إلا أن اليد التي تزيله هي يد شخص واحد! إذا، مسافة الدور لم تكن كافية. إن الأمر المهم هو كيف ننأى بأنفسنا عنها؟ كيف يمكن للذات أن تخلق مسافة؟ إجابة غوفمان هي: “توجد كل هذه الطرق هنا…”. يبدو لي أن الإشكال النظري يتمثل في فهم كيفية جعل أنفسنا بمنأى عن خطر اعتراف سلبي معين أو تقدير غير مرغوب فيه من طرف الآخرين يهيننا، ويحزننا، ويلغي الإيمان الذي نملكه في أنفسنا. إن السلاح الذي نملكه هو مواجهة تلك الأحكام السلبية عن أنفسنا بالاعتراف، أي أن نحفظ ما خزناه شيئًا فشيئًا في ذاكرتنا، بعد عملية إعادة بناء أسطورية تغذي تقدير ذواتنا. لو حللنا العملية الداخلية لشخص ما، فقد نكون معرضين لخطر الحصول على صورة سريرية فقط. إلا أننا قد نفهم نفس العملية بصورة أفضل لو أشرنا إلى موضوع جماعي، مثل الأمة أو الدولة، أو حزب سياسي. الدولة الأوروبية الحديثة مبنية بفضل عملية الاعتراف المتقارب. فمن الداخل هناك القوى الإقطاعية، ومن الخارج هناك الدول الأخرى، والذي بلغ ذروته في صلح وستفاليا. إلا أنه توجب عليهم تغذية هذا الاعتراف، بانين أساطير منشأة من التاريخ، والأركيولوجيا، والأدب، والاختراعات العرقية… وحينها كانت احتفالات طقوسية، ومهرجانات، وآثار وغير ذلك. فالأمر سيّان في كيفية بناء كل فرد لنفسه من الداخل -إلى حد ما-. نستطيع أن نخلص إلى أن إنتاج الأقنعة هو وظيفة حالة اللايقين التي نشعر بها إزاء هويتنا. فكّر في التشنجات العصبية والتحسس الذاتي idiosyncrasies والهوس fixations بخصوص طقوسية بعض سلوكياتنا اليومية وما إلى ذلك…
—
- ساساتيلي: إذا، أنت تقول إننا سنأخذ بالاعتبار بُعد الهوية الذي يمكن أن نصل إليه من خلال القناع، وهو الأمر الذي لم يستوعبه غوفمان تمامًا، بعدٌ طويل المدى Diacronic ومتجاوز للموقف، أي ذلك الذي لا يعتمد مباشرة على الموقف ولا يمكن اختزاله فيه. نوعٌ من الهوية المجسدة في السيرة الذاتية. هل هذا صحيح.؟
- بيزورنو: سأصيغ الأمر كما يلي: الأمر يشبه إلى حد ما السيرة الذاتية التي نحاول كتابتها عن أنفسنا، لكي نمتلك أسلحة خفية، في كل مرة نلتقي فيها بالآخرين حتى نتمكن من تفادي عواقب أحكامهم عن التقدير الذي نملكه عن أنفسنا…
—
- ساساتيلي: أشار أيضا غوفمان بطريقة ما إلى هذه السيرة الذاتية. بالفعل فقد تحدث بالتحديد بهذه المصطلحات في “الوصم” “Stigma” (Goffman, 1936)، على أنها هناك، مقابِلةً مباشرة دلالات مدمجة، والتي لا يمكنك تحرير نفسك من تحديداتها واعترافها بسهولة. إنها تتشبث بك … هكذا تبدو بعض الملاحظات في “الوصم” على أنها ذات صلة بعض الشيء بما تقوله في المقال عن القناع. علاوة على ذلك، لأن القناع يظهر على أنه تقنية، إن أحببت، بدلا من أن يظهر على أنه استراتيجية. إنه تقنية لتثبيت الهوية الشخصية -مهما كانت عامة- مع مرور الوقت وداخل دائرة الاعتراف الخارجية. هذا إذًن قدر ضئيل من الهوية الخارجية، كما تسميها.
- بيزورنو: بالفعل، فإن الوصم هو أكثر ما أعجبني عند غوفمان… لقد أولته بدقة. إن أردت، أستطيع أن أجعل نفسي قويا في تلك اللحظة حين تُلبسني القناع مع كل الأقنعة الأخرى التي ارتديتها طول حياتي… هذه هي الحالة، إنني أمتلك قناعا يُثبّتُني، لكن إلى جانب هذا فإنني أمتلك أقنعة أخرى لا تعرفها.
—
- ساساتيلي: الأمر كما لو أنك تجمع سلسلة من الأشياء غير المعروفة للمتفرج المعتبر حقا! بغض النظر عن موقفه المفترض، فإن غوفمان يريد بوضوح النظر إلى الموضوع من الخارج محاولًا عدم النظر إلى الحوافز الداخلية الممكنة. فيحاول أن يضع كل شيء في الموقف الموضعي المحدد ويبدو أنه يخشى التطرق للأسئلة التي لها علاقة بعلم النفس، أو متخوف من الولوج داخل الموضوع، وربما بعيدًا عن التقدير والمشقة… مع ذلك، فإنه لا يبدو أنه يراودك هذا الخوف أم أنني مخطئة؟
- بيزورنو: قطعا لا!
—
- ساساتيلي: في الحقيقة، لطالما بدت كتابتك منفتحة على مقاربات من ميادين أخرى. وفي هذا الصدد، في عملك الأول عن القناع، الذي يتضح أنه أنثروبولوجي، فأنت لست بمنأى عن الأعمال الثقافية البريطانية الأولى، إنني أفكر في هوغرت Hoggart وويليام Williams الذين بدآ العمل في تلك السنوات…
- بيزورنو: لقد قرأت لويليام فقط مؤخرا، في حين أنني عرفت هوغرت جيدا حين كان طرفًا من أطراف العمل الجماعي العالمي عن وقت الفراغ، والذي انضممت إليه مرات عديدة. كان أيضا شخصا لطيفا، رجلا بريطانيًّا مثاليًّا من الطبقة العاملة، والذي كان بمقدوره الظهور بفضل نظام الدولة المدرسي، والرفقة الجيدة، علاوة على ذلك فإنه يشرب، يشرب كثيرًا. لقد أنقذ نفسه بالفعل من الكحول، حينها كتب “فوائد التعلم” (Hoggart, 1957). كان متألقا وأيضا حسن المظهر. إنني أتحدث هنا عن بداية 1960، بعد ذلك فقدت أثره…
—
- ساساتيلي: كما كنت تقترح، فإنك واجهت نفسك فوق كل شيء بالدراسة الأنثروبولوجية. في “مقال عن القناع” الذي يبدو من العنوان أنه شبيه بعنوان موس Mauss (1925) عن الهدية –وربما أقرب نظريا لهذا العمل من عمله عن الشخص (موس، 1938) الذي تذكره مرتبكا نوعا ما– إنك تولي قدرا كبيرًا من الأهمية لما يمكن أن نسميه ثقافة. فتتجاوز التفاصيل المادية مظهرا مدى تأثرها بالثقافة. أعتقد أن التأثير الثقافي على المادية هو أحد الخطوط الخصبة الممكنة لتفسير عملك على القناع، ومن ثم موضوع التجسيد بوصفه ظاهرة ثقافية…
- بيزورنو: نعم، بالرجوع للوراء، فإنني أرى الجسد كبناء ثقافي، إنني أفكر باهتماماتي في الرقص، ربما كانت أيضا رد فعل معادٍ للفكر، أليست كذلك؟
—
- ساساتيلي: بالفعل، ففي نقطة معينة من العمل، فإن الخصائص المادية والرمزية للقناع بوصفها موضوعًا “object” ، أو بالأحرى، مستعملة ألفاظك، بوصفها “شيئًا” “thing” تثير اهتمامك. أنت تبقي على مساحيق الأقنعة، وألوانها، وأيضا طبيعتها المقدسة، التي تُعزى إليها بفضل حقيقة أننا دائما ما نعتبر المواد التي يمكننا أن نُعرفها على أنها طبيعية، ومن ثم استحضار الوقائع خارج الموضوع… حينها، تنهي العمل متحدثا عن وسيلتين للخلق. وتقترح أن هاتين الوسيلتين عبارة عن شكلين من أشكال تواصل الكائن الإنساني تتجاوز القسمة الثنائية المادي/الرمزي، الأولى من خلال تحويل العالم المادي والثانية من خلال تحويل الذات. إن القناع بطريقة ما هو الرابط.
- بيزورنو: الفكرة المتضمنة – ويتوجب علي القول أنني لم أقرأ عمل ليفي ستروس Lévi-Strauss (1962) عن الطوطمية الذي ظهر في وقت لاحق بكثير- هي أن القناع كان جزءا من الوسائل التي يثبّت بها الأفراد هوياتهم حتى لا يُفكّر فيها مجددا، ومن ثم أصبحوا على ما هم عليه، بالنسبة لنا، فإن الحيوانات ليس لديهم شخصية فردية، إنهم متماثلون دائمًا. القناع دائما يكون هناك ودائما هو نفسه. إذا هذه هي الطوطمية. فكرت في الحيوانات على أنها واحدة من الأشياء التي تساعد الأفراد على رؤية أنفسهم بصورة نهائية. حتى لا يفكروا في أنفسهم مجددا… إني لا أستبعد حقيقة أن هذا كان جزءا من فترة نضوج الفرد الأولى، حينما كنا نخاف من أن نكون وحيدين، دائما مختفين خلف القناع محاولين فهم كيف يدير أولئك الانطباع حين يضعون القناع لمرة وللأبد…
—
- ساساتيلي: في كثير من الأحيان تمزج بين الملاحظات النظرية الأنثروبولوجية وتجاربك الخاصة… وعليه، فإن القناع سيغدو شيئا غير قابل للنزع مجددا. وفي المسرحية أيضًا، ليس ذلك خيالا، بل وسيلة، بطريقة أصيلة لبناء الذات، هل هذا صحيح؟
- بيزورنو: نعم، إضافة إلى ذلك، في سن الشيخوخة يغدو القناع ثابتا، بداية يزيله الأفراد، ثم يضعونه، وهكذا دواليك… لغاية الموت يمكن نزعه، في الموت لا يمكن نزعه مجددا. مع كل حركة للقناع، في كل مرة تُخلق هوية الفرد. هناك أشياء قليلة عن الأصل تحضر الذهن والتي أكتبها في كتاب آخر: إنني أعتبر أن هناك مفهومين أساسيين في أصل الديموقراطية، هذان المفهومان يتمثلان في العقد والتحويل. إن العقد والتحويل وسيلتان من خلالهما نأخذ مواضعنا في التواصل مع بعضنا بعضًا، كلاهما صُمم ليغير علاقتنا مع الآخرين، ولتغيير الآخرين أيضًا. فمع العقد، فأنت تؤسس لعلاقة مع فرد آخر، لكن كلتا الجهتين تتغيران. من خلال التعريف فأنت تغير وتحول. بالإضافة إلى أنني وجدت شيئا مشابها في مقدمة راولز Rawls في كتابه الأخير عن الليبرالية السياسية (راولز، 1993). يكمن الإشكال هنا في رؤية كيفية جعلنا لجماعة من الناس يتفقون، والذين تجاوزوا كلهم حاليا التبشير، تلك هي اللحظة التي يخلق فيها كل شيء… الآن، فصحيح أن الديموقراطية غير ممكنة إذا كان التبشير ممنوعا (إنني أفكر في أشكال معينة من الأصولية، والتي من الواضح أنها ليست ديموقراطيات، التي لا تعني استبعاد السعادة الخاصة). إن التحويل في الأساس هو عملية تغيير القناع: إنها لحظة انعتاق ! يمكن النظر للهوية من هذا المنظور كلحظة تمتنع فيها عن التحويل، والتحويل هو لحظة للتأسيس الأخير. ولهذا السبب، فإن الأمر ليس عقلانيا من حيث الغايات، بالنظر إلى أن تلك الغايات دائما عقلانية فيما يتعلق بالهوية. بالتأكيد، ففي العمل عن القناع، لم أتكلم عن التحويل ولم يجل في خاطري، إلا أنه انحراف لموضوع أساسي والذي كنت أفكر فيه بطريقة أخرى.
—
- ساساتيلي: بصفة عامة، فإن فكرتك الجوهرية في عملك “عن عقلانية الخيار الديموقراطي” (بيزورنو، 1993)، هي أن السياسة هي التوجه صوب تغيير الاحتياجات أكثر من تحقيقها. الآن، فإن ما قلته للتو، يستحضر في ذهني مظهرًا من مظاهر نظريتك في المشاركة، أو بالأحرى دور التضحية. إن جزءًا كبيرًا من نظرية الهوية الجماعية تنزع إلى رؤية الأمور بإيجابية، مؤكدة على اللحظات الخلاقة، في حين أنك تؤكد على أنك عندما تخلق هوية جماعية، فإنك بحاجة إلى إلغاء شيء ما، والتضحية بشيء ما. لذا نخترع، من بين مفاهيم أخرى، مفهوم الزمن، الماضي، والحاضر، والمستقبل. بعبارات أخرى، فأنت تُؤكد على الهويات الجماعية لا كاستجابة للاحتياجات الموجودة مسبقا، لكن من أجل اقتراح احتياجات جديدة تنطوي في الواقع هي الأخرى على التضحية. وعليه فإن هذا يربط ما يظهر في الطقوس المقنّعة: التضحية بهوية ما لفرض أخرى، عن طريق القناع، الذي يقترح كونًا مغايرا من المعنى والاحتياجات.
- بيزورنو: بأي معنى تقصدين احتياجات جديدة؟
—
- ساساتيلي: إنني أفكر في الاحتياجات المرتبطة بهوية جديدة، حتى الهوية الجماعية، وهما يبنيان من خلال التضحية بالهويات السابقة، لو أصبحت طرفا من جماعة استهلاكية متطرفة، فإنه يتوجب عليّ التخلي عن شيء ما لإفساح المجال لشيء آخر، على سبيل المثال منتجات التجارة العادلة أو إعادة التدوير أو الإنتاج الذاتي… فإنه من خلال هذه الاحتياجات الجديدة أثبّت هويتي الجديدة بوصفها هوية مختلفة عن الماضية، ومشروعًا يبني المستقبل.
- بيزورنو: لم أفكر في ذلك، لكن كما تعلمين، كنت مهتما أيضا بظاهرة الاستهلاك… يمكنني بالتأكيد رؤيتها بوضوح بالإشارة إلى الهوية، بمعنى أنه بفضل الاستهلاك بوصفه تواصلًا يمكن التعرف عليك في كل مرة بطريقة مختلفة. إنك تلبس بطريقة مختلفة، ثم يتوجب عليك الذهاب إلى حفل ما وتغيير ملابسك، وهذا التغيير يعبر عن كيفية اختلاف الأنا الجديدة عن الآخرين. ولكن بدلا عن الاستهلاك في حد ذاته، فإن المهم هو التغييرات في الاستهلاك…
—
- ساساتيلي: نعم، والأمر المثير للاهتمام في هذه التغييرات هو قراءتها لا على أنها عملية تواصلية إدراكية صرفة، لكن على أنها عملية تجسيد أدائي. ليست كاريكاتورًا لنموذج مسرحي أو رمز مكانة فيبليني([2])، لكن على أنها شيء يمر من خلال المزيد من الممارسات اللحظية، المادية والرمزية، ومن ثم ما تتضمنها… مفهوم التواصل المجسد بمعنى قوي، هو ما لا يمكن فصله بالكامل عن الموضوع. لكن ربما لم نعد بصدد الحديث عنك!
- بيزورنو: يبدو أنك تريدين الحديث عنك، لكن تحت كل هذا، أنت تتكلمين عني… لقد وضعت لي قناعا!
—
- ساساتيلي: وأنا بدوري أريد الحديث عما يكمن تحت كل هذا! أود أن أسألك شيئا آخر، بصورة أعم. المقال ممتاز من الجانب اللغوي، هو عمل يُنضج الأدب، بالإضافة إلى الفلسفة… ما هي برأيك العلاقة بين السوسيولوجيا والأدب؟ هذه المسارات المنفصلة كما بيّن ذلك ليبينز Lepenies (1985)، ستبقى بعيدة عن بعضها كما قد يجادل عالم اجتماع وضعي، أم أنها قابلة للتوفيق مثل ما يأمل بعض علماء الاجتماع المعاصرين تحقيقه، بطريقتهم الخاصة، في الدراسات الثقافية؟
- بيزورنو: من المؤكد أنها ليست علاقة سهلة بالنسبة لي، لأنني لم أواجه هذه المشكلة على الإطلاق، حتى أنني أتذكر أن من بين الإيطاليين كان هناك أولئك الذي يريدون امتلاك سوسيولوجيا أدبية أيضا، وتفهمت هذا. لم أفكر هكذا مسبقا على الإطلاق إلا أنني تفهمته الآن. لذلك، في الواقع حين لا توجد استقلالية للسوسيولوجيا بعدُ في إيطاليا، يكون الاتجاه للأدب أساسا بوصفه وسيلة لرؤية أمور معينة وقول أشياء ما. فكري كيف كان ذلك مهما في إيطاليا، حينما بدأنا الحديث عن السوسيولوجيا. إن كتبا مثل “توقف المسيح في إيبولي”Cristo si è fermato a Eboli ، لكارلو لوفي Carlo Levi، وكتاب دولتشي Dolci، وبحث سكوتلارو Cotellaro، وعلاوة على ذلك كله بحث دانيلو مونتالدي Danilo Montaldi، الذي كان سوسيولوجيًّا وأديبًا في ذات الوقت. إلا أن الترابط مع الأدب كان صعبًا بعامة، حتى السوسيولوجي الذي كتب إلى جانب غوفمان لم يحظ بالقبول من طرف مؤسسات علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، حين وصلت حينها إلى هارفرد Harvard، ضموني إلى لجنة لتوظيف ثلاثة أو أربعة أشخاص جدد. بصورة جزئية لتعريفي بالمحادثات، بصورة جزئية لأنني وصلت للتو من أوروبا. ذكرت أن كان في أوروبا عالم اجتماع أمريكي واحد نال شهرة بلا منازع، وكان هو إرفنغ غوفمان، إلا أنه قد أقصي كليا، وقد كنت معتقدا أنه قد عرض نفسه للخطر، لأنهم لم يكونوا يرغبون بوجوده هناك، لكونه جزءا من التيار السوسيولوجي. لقد كان الكشف revelation، في أغلب الحالات قادرا على تجاوز التحيزات السياسية، مع وجود خط سياسي، فعلى سبيل المثال، كانت هناك لحظة حين كان هناك مرشح محترم جدًّا، ومثير للاهتمام للغاية، إلا أنه ماركسي. في القسم، كان الشخص المتواجد على أقصى اليمين كان هاريسون وايت Harrison White، خبير تحليل الشبكات في أمريكا، وبعد فإنه كان مناضلا معي من أجل هذا الماركسي، لأنه استخدم نوعا معينا من الرياضيات، هل فهمت هذا؟ لقد كان هناك هذا النوع من العائق.
—
- ساساتيلي: وكيف اجتزت هذا النوع من العوائق؟
- بيزورنو: لم أكن مطلقا في عائق… ربما كنت قليلا، وقد أجريت أيضا بحثا تجريبيا، ودراسات مسحية، إلى غير ذلك، كما فعلتِ بذلك بالفعل. إلا أنني قد تحولت للنقيض تماما في هارفرد، وبالتحديد لأنهم كانوا بحاجة ماسة إلى شخص يتعامل مع هذه الأمور، عالم اجتماع التاريخ، وغير ذلك. أنت ترين، كانوا بحاجة إلى هذا أيضا. كان ذلك كافيا لإدارة القسم، بالنظر إلى أن كل الطلبة الأجانب الذين يريدون فعل أمور أخرى، كانوا مشَجّعين. في ندوة مع هاريسون وايت، الذي استحضر فيها كتابه الهوية والتحكم (1992) Identity an Control، طورت نظرية الهوية والاعتراف محاولا ربطها بمنهجية تحليل الشبكة، التي كان هاريسون بحق رائدها في السوسيولوجيا الأمريكية.
—
- ساساتيلي: لنعد إلى القناع، عُرض القناع في عملك كأنه وسيلة أو تقنية يمكن للإنسان استعمالها أو بالأحرى خلقها للاعتراف بالذات أو بالآخرين، وبصورة أفضل، إن استطعت الاقتباس من كلامك، “فن المرء الوحيد، للاعتراف بالذات”، هل أنا محقة؟
- بيزورنو: ربما تكون الصياغة خاطئة، لأن الذات ليست هي التي يعترف بها، يمكنني القول، إن الاعتراف بمرء، يعني أن يكون مقدما علانية. إن من الصعب الحديث عن “الذات” في هذه المرحلة. وفقا لمن هو مقبول عند الآخرين في نهاية المطاف، ربما بصعوبة، ينتهي به الأمر إلى أن يكون مقبولا من طرفهم، حتما، من غير استثناء، لا محالة.
—
- ساساتيلي: هذه العبارة الأخيرة مهمة للغاية لأنها تقلب مفهوم الأداء كشيء سطحي صرف وتقدم سؤال القوة والهيمنة… فتصبح إن لم يكن الأمر تقنيات ذاكرية نيتشوية Nietzschean mnemotechniques، بعدها على الأقل تقنية فوكو الذاتية.
- بيزورنو: نعم، نعم، دون ريب… هل يمكنني أن أخبرك بشيء روبيرتا؟ لا أعتقد أنني شرحته بشكل جيد في عملي لأنني علمت بذلك لاحقا. هناك مدارس معينة لتأتأة الأطفال، أو بالأحرى هناك أطفال مصابون بالتأتأة في مدارس معينة أنشئت ليوضع لهم القناع فيها. وحين يكونون تحت القناع، يتوقفون عن التأتأة. هل رأيتِ.؟ إنه شيء استثنائي، قد أتتأتأ، لكن حين أضع القناع لا أفعل..
—
- ساساتيلي: إلا أن القناع ثقيل… فكرة الهوية بوصفها تضامنًا عبر الزمن، من خلال الوسائل المتاحة والتي يمكن أن تكون معروفة عند الجمهور، تتضمن كلفة –ولهذا السبب نحن بالقرب من فوكو لكن أيضا لم نبتعد عن زيمل، كلاهما بطريقته الخاصة قد بيّن تناقض ضرورة البناء الذاتي. ألا يشعر المرء على نحو ما بثقل القناع الذي لم يعد قبليا بعد الآن، أليس كذلك؟
- بيزورنو: لا أذكر أنني فكرت بذلك في ذلك الحين. حتى إن كانت هناك إشارة، ومع ذلك فقد فكرت بالأمر… نعم، صحيح لا أستبعد رؤيتي له، في الأساس، هذه هي الطبيعة المزدوجة للقناع، حين يصبح قناع شخصٍ يريد التأكيد على استقلاله الخاص والعيش في شكل من أشكال الوحدة. قناع يخفي أيضا، مستمر في العمل عليك حتى الموت، مع الموت، لا يمكنك الاختباء بعد (حتى ولو كنت اعرف امرأة متعلقة بجمالها الفتّي وحين توفيت وضع على قبرها تاريخ ميلادها الذي جعلها أكبر بعشر سنوات)، ولكن مع الموت مباشرة، فإن أجزاء صغيرة من هذا الاختباء تُجلب معك. ربما هو شيء جيد وسيء في نفس الوقت، لكن بالنسبة لمن هو كذلك في النهاية؟
اقرأ ايضاً: أكثر من الحب وأكثر من الخمرة
[1] – نسبة إلى بندتو كروتشه، وكان متأثراً بشكل واضح بهيجل ومثاليين ألمان آخرين مثل شيلنغ، وقدّم كروتشه ما سماه فلسفة الروح، وكانت التسميتان اللتان فضلهما هما «المثالية المطلقة» أو «التاريخانية المطلقة». يمكن النظر إلى أعمال كروتشه على أنها محاولة ثانية (على عكس محاولة كانط) لحل المشاكل والنزاعات بين التجريبية والعقلانية. وقد دعا منهجه باسم الحلولية (بالإنجليزية: immanentism) (المترجم)
[2] – نسبة إلى عالم الاقتصاد ثورستين فيبلين (المترجم)