محمد بن عبدالله القرني
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فقد ذكرتُ في خاتمة الجزء الأول من هذه المقالة أنَّ اعتماد العالمانيةِ مقولةَ استقلال الإنسان عن السلطة الإلهية = نتَجت عنه أزمةٌ حادَّةٌ جدًّا.
وسيكون هذا الجزءُ الثاني من المقالة في التعريف المختصـر بها.
ولا بد قبل شرح هذه الأزمة من بيان قضيةٍ أوليةٍ عنها، وهي أنها جزءٌ من أزمةٍ كبرى تعانيها الحداثة الغربية، لا فيما يخصُّ تأسيس موقفها من الدين فقط – وهو ما تقوم به العالمانية – بل في جميع مجالات التأسيس التي أسندتها الحداثةُ إلى العقل البشري، بعد طرحها مرجعية الوحي الإلهي، كما سيأتي.
مما يعني أن أزمة العالمانية ينبغي فهمُها في هذا السياق الفكري العامِّ، وهو ما يُوجب التأكيد على قدرٍ عالٍ من التداخل والاشتراك في التأثُّر والتأثير بين أزمة العالمانية بخُصوصها وبين بقية أزمات الحداثة.
فما أزمة العالمانية ؟
سبق في الجزء الأول من المقالة بيان أن الاحتياج البشـري الضـروري للدين مركبٌ من معنيين: من معنىً فرديٍّ يتأسَّسُ عليه تحصيلُ الفرد لمعنى وجوده ومن معنىً جماعيٍّ يتأسَّسُ عليه تدبيرُ الجماعة لقواعد الحياة المشتركة.
فكان لا بد للعالمانية – وقد أسقطت سلطةَ الدين – من إشباع هاتين الحاجتين الضروريتين في النفس البشـرية: حاجتُها لمعرفة الغاية من وجودها , وحاجتُها للحياة الكريمة في جماعةٍ متوائمة.
فما الذي قدَّمته العالمانية لتحقيق هذين المطلبين بعد تنحية الدين ؟
لا بد أولاًّ من التنبيه إلى ضرورة التفريق بين مسارين اتخذتهما العلمنة في أوروبا يتعلَّقُ الأول بعالمانية الدولة، ويتعلَّقُ الثاني بعالمانية المجتمع المدني.
والفرق بينهما أنَّ الدولة في العالمانية ( كيانٌ لا دين له.. إن الدولة (لا تفكِّر) فهي ليست دينيةً ولا مُلحدةً , إننا في حضـرة نوعٍ من اللا أدرية المؤسسَّية )(1) بينما عالمانية المجتمع المدني (.. ديناميِّةٌ، فعَّالةٌ، سِجاليَّةٌ، ترتبط روحُها بروح النقاش العُموميّ، أي بالاعتراف المتبادَل بالحقِّ في التعبير، بل إنها تتحدَّدُ أكثرَ بمقبولية حُجَج الغير.. الاعتراف بالطابع المعقول للأطراف المتواجهة )(1).
وهذه الطبيعةُ المركَّبة للعالمانية أوقعتها منذ البداية في مشكلة كيفية التأسيس الصحيح لمقولتها على أرض الواقع , كيف ذلك ؟
يمكن صياغة هذه القضية في السؤال التالي: إذا كانت الدولةُ العالمانية تريد أن تلتزم الحيادَ التامَّ أمام جميع المرجعيات الدينية واللادينية , فهل يمكنها تحقيقُ ذلك الحياد من دون الرجوع إلى مرجعيةٍ مُحدَّدةٍ ؟
إنَّ هذا السؤال يستظهرُ عجز العالمانية وفشلها التأسيسـي من أول خطوةٍ ؛ بما يؤكِّده من استحالة عدم انحياز النفس البشرية إلى مقولةٍ تأسيسيةٍ ( فكلُّ من حاول التفكير انطلاقًا من نقطة الصفر وجَدَ نفسه مُلزَمًا على تصوُّر براديغم سابقٍ يستند إليه )[2] وذلك لأن أسئلة الوجود الكبرى تتطلَّبُ من كُلِّ إنسانٍ إجابته عليها بحيثُ يكون موضوعًا في الوجود في مقام استحالة الهروب منها (بل إننا إذا رفضنا أن نتخذ منها موقفًا مُعيَّنًا , فهذا الرفضُ نفسه ينطوي على موقفٍ فلسفيٍّ )[3] ولا فرق هنا – كما هو بيِّنٌ – بين الإنسان الفرد والدولة ذات الكيان.
والمقصود أنه لا مجال للقول بإمكان بناء المجتمع الإنساني دون افتراض سرديةٍ كبرى لا بد للمجتمع من أن يؤمن بها , وما يجري في الواقع إنما هو صراعٌ لا ينتهي بين السرديات ( فلا تموت سرديةٌ كبرى، إلا وتحلُّ محلَّها سرديةٌ أخرى ).[4]
وعند النظر في حالة العالمانية بخُصوصها، فإنا نجدها وريثةَ سردية التنوير الأوروبي، بحيث إنها لا تقبل من (الدين) – الذي تزعم أنها تتعامل معه بحيادٍ – إلا المفهومَ المعين للدين الذي صنعته فلسفة التنوير ( فقبلَ عصر التنوير كانت دلالةُ الدين تشمل القيمَ العامَّة التي أصبحت في حوزة العلمانية اليوم )[5].
فهي تقبل الدينَ ما بقي وجدانًا خاصًّا بصاحبه، لا يسعى إلى فرضه على غيره أو الاحتكام إليه في شؤون حياته العامَّة.
وهذا المعنى وإن كنتُ أقصد به هنا عالمانيةَ الدولة بالاعتبار الأول، فهو شاملٌ كذلك لعالمانية المجتمع المدني الغربي (ومهما كان تعريفنا للعلمانية حياةً والعلمانية مذهبًا.. فالأمرُ يشمل الدينَ، وذلك إما بتغييبه، أو السيطرة عليه، أو التعامل بطريقةٍ واحدةٍ مع أشكاله المختلفة، أو أن نستبدل به القيمَ الاجتماعية الشائعة في أسلوب حياةٍ علمانيٍّ.. فليست العلمانيةُ نفسُها محايدة )[6].
وبالتالي فدعوى العالمانية أنها محايدةٌ مع الدين = إنما حقيقتها أنها محايدةٌ مع الدين الذي تقبل به هي، بحيث إنها لا تُواجه الدينَ مكتوفة الأيدي أول مَرَّةٍ، بل تمارس ( التنظيمَ المستمر للشكل الديني الملائم من سواه، وتعيينه، وتحديد حُدوده يُساهمُ في هذا المؤسساتُ الحكومية وغير الحكومية )[7].
وأكتفي بهذا القدر في إبطال دعوى العالمانية الحيادَ، وإلا فإنه يمكن مَدُّه وتصعيدُه فيما يخصُّ موقفَ الدول العالمانية من الإسلام خاصَّة.
ومن أجل الاقتراب إلى حدود أزمة العالمانية، لا بد أولاًّ من الفهم العميق لهذا التناقض الجوهري في أصل فكرتها = التناقض بين الرغبة في تأسيس حياةٍ دنيويةٍ كريمةٍ، وبين الرغبة في الإحجام عن التدخُّل في حريات الناس قدر الإمكان , بما يكون حاصلُه النظريُّ استحالةُ الوصول إلى صورةٍ مُكتملةٍ للتأسيس، أو صورةٍ مكتملةٍ للإحجام، وبالتالي: اصطناعُ تلفيقٍ بين صورتين ناقصتين.
ولك أن تنظر في مشاريع هابرماس وجون رولز وغيرهما لتجدها لا تخرج بالعالمانية من إشكاليتها ؛ لأنها تريد أن تعالج هذا الاضطراب دون أن تضع يدها على مكان الجرح الفلسفي الأعمق في العالمانية = وهو دعوى كفاية العقل البشـري في تحصيل الحقيقة والسعادة دون الحاجة للوحي الإلهي.
والحقُّ أنَّ هذا الجرحَ الفلسفي الأعمق في العالمانية هو جرحُ الحداثة كُلِّها، وهو السبب الرئيس لأزمة الحداثة الشاملة، التي وصلت بالفكر الغربي إلى مستوى معايشة اللايقين في جميع شؤون فكره وحياته.
تقول جاكلين روس ( إننا نحيا في زمنٍ زالت فيه المرجعياتُ التقليدية.. ما الذي يُتيح لنا اليوم أن نقول عن قانونٍ إنه عادل ؟ إننا نجهل ذلك.. إن أزمة الأسس التي تميز كوننا المعاصر بأسره، أزمة بيِّنةٌ في العلم , أو الفلسفة , أو حتى في الحقوق , تمسُّ كذلك.. الأخلاق النظرية )[8].
ذلك لأنَّ الاحتكام إلى العقل البشـري احتكامٌ إلى أساسٍ هشٍّ من ثلاث جهاتٍ: الأولى قُصوره الذاتيُّ ؛ بحيث إنه يؤسِّسُ مع عدم إحاطته الكاملة بما يؤسِّسُ له، أيًّا كان. والثانيةُ من جهة تعدُّديته المفرِطة ؛ بحيث يستحيلُ أن تجتمع العقولُ المستقلَّةُ على قانونٍ واحدٍ ترضى به.
والثالثةُ من جهة عدم نزاهته الكاملة ؛ إذ كما يحتوي البصيرةَ والفضيلةَ فهو يحتوي نقائضها، وهذه النقائضُ قابلةٌ للتحرُّك في أيِّ وقتٍ بأيِّ سبب.
ولذلك كان من أبرز سمات الحداثة أنها فاقدةٌ نعمةَ الإجماع – وهي نعمةٌ عقليةٌ ونفسيةٌ لا يستهينُ بها إلا جاهلٌ – يقول تيري إيغلتن ( من السمات اللافتة للحداثة أن نجد أنفسنا عاجزين عن الاتفاق حتى على الأساسيات. فالجميع تقريبًا يرون أن محاولة خنق الأطفال الصغار .. ليس بالعمل المحمود، ولكننا لا نستطيع أن نتفق على سبب اتفاقنا ذلك، وربما لن نتفق أبدًا )[9].
ويشرح محمد أسد مشكلة فقد الإجماع فيما يخصُّ العالمانية بقوله (.. لا يوجد في الدولة العلمانية الحديثة مفهومٌ ثابتٌ يمكن به التمييزُ بين الخير والشـرِّ، والعدل والظلم. إنَّ المقياسَ الوحيد في مثل هذه الدولة هو (مصلحة الأمة)، وفي حالة عدم وجود ميزانٍ ثابتٍ للقيم الخُلُقية فإن الأفراد.. ستصبح لديهم.. وجهاتُ نظرٍ متباينةٌ كُلَّ التباين حول ما يخدمُ مصالحَ الأمة على أحسن وجهٍ.. لقد أصبح واضحًا أنه ليس في وُسْع نظامٍ من الأنظمة السياسية الغربية المعاصرة.. أن يُحيل هذه الفوضى السائدة في العالَم إلى شيءٍ يُشبه النظام، ولذلك سببٌ واحدٌ هو أنَّ أيةً منها لم تُحاول محاولةً جِديَّةً دراسةَ المشاكل السياسية والاقتصادية في ضوء مبادئ خُلُقيةٍ مُطلقةٍ.. لقد شادت هذه النظُمُ أجهزتها السياسية والاقتصادية على أهواء الناس ومطالبهم المادية وحدها، هذه المطالبُ التي هي في تغيُّرٍ دائمٍ لا يفتر.. ويستحيل الوصولُ إلى مثل هذا الاتفاق.. ما لم تتعارف هذه الأمة على التزاماتٍ خُلُقيةٍ مُنبثقةٍ من قانونٍ أخلاقيٍّ دائمٍ مُطلقٍ، ومن الواضح أن الدين والدينُ وحده هو القادر على أن يقدِّم لنا هذا القانون المطلوب )[10]. (وأعتذر عن طول النص)
وهنا نصل إلى بيان أزمة العالمانية = بإيضاح أنها فشلت في إشباع الحاجتين الضـروريتين لكُلِّ نفسٍ بشـريةٍ – حاجتُها لمعرفة الغاية من وجودها، وحاجتُها للحياة الكريمة في جماعةٍ متوائمةٍ – وأنَّ سببَ فشلها هو منهجُها القائمُ على الاعتماد على العقل البشري المستغني عن الوحي الإلهي.
وسأتطرق لبيان فشلها في القضيتين السابقتين بإيجاز.
فأما مطلبُ معرفة الفرد الغايةَ من وجوده فإن العالمانية نظرت فيه على أنه شأنٌ شخصـيٌّ، وأحالت الإجابة عليه إلى الفرد نفسه.
فقالت بلسان حالها: إن شئتَ أيها الإنسانُ أن تكون مُلحدًا تقول إنه لا معنى من وجودك، أو إنَّ لوجودكَ معنىً محدودًا بالدنيا هذه فقط = فهذا مُناسبٌ لي وأهلاً وسهلاً بك، وإن شئتَ أن تكون مُتديِّنًا تعتقد بأن لوجودكَ ارتباطًا بإلهٍ مُتعالٍ على هذه الطبيعة، وسيجازيكَ في آخرةٍ مُتجاوزةٍ لهذه الدنيا، لكنكَ ستجعلُ ذلك شأنًا وجدانيًّا خاصًّا بك = فهذا مُناسبٌ لي، وأهلاً وسهلاً بك.
ذلك أن العالمانية كما ترفضُ سلطة الأديان فهي ترفضُ سلطةَ الإلحاد، حرصًا منها على الحياد، وسبقَ بيانُ هشاشة هذا الموقف واضطرابه، لكنه هنا يظهرُ لكَ في إحدى أكبر تجلياتِ هشاشته واضطرابه ؛ ذلك لأنَّ العالمانية في الحقيقة لا تغضُّ الطرفَ مُطلقًا عن إلحاح سؤال المعنى، لكنها تريدُ اصطناع طريقةٍ تُمكِّنها من تجاوز هذا السؤال الجدليِّ غير القابل للحلِّ الوفاقيِّ، وتنظر فيما يمكن استثمارُه.
يقول لينين ( إن وحدة هذا النضال الثوريِّ.. نضالُ الطبقة المقموعة التي تُقاتل لخلق جنة الأرض , يهمُّنا أكثر من وحدة رأي البروليتاريين حول جنة السماء )[11].
وما الذي أثمرته إحالةُ العالمانية الإجابة عن سؤال المعنى إلى الفرد ؟
الذي أثمرتُه أنها نقلت الإجابة عن سؤال المعنى من حيِّز المفهوم الجاهز إلى حيِّز المفهوم المصنوع، مع أنَّ حقيقةَ معنى وجودنا يجب أن تكون سابقةً علينا لا مُبتكرةً مِنَّا، هذا من وجهٍ ، ومن وجهٍ آخرَ فإنَّ حقيقة معنى وجودنا يجب أن تتجاوز حدود حياتنا ليكون لها قيمةٌ موضوعيةٌ، وهو ما لا يمكنُ مُواءمته مع نُزوع العالمانية إلى حصر الهمِّ والعمل على حياتنا الدنيوية.
وهذا الفراغُ التأسيسيُّ لهذا المطلب بهذه الصفة أنتجَ شعورَ الفرد الغربيِّ بالقلق الوجوديِّ، حتى وصلَ إلى درجة أن يتعالجَ بالمعنى.
وأما مطلبُ الحياة الكريمة في جماعةٍ مُتوائمةٍ، فيمكنُ القولُ إنَّ مشـروعَ العالمانية كُلِّهِ يدورُ حول تحقيق هذا المطلب.
فكيف فشلتِ العالمانية في تحقيقه ؟
فشلت لأنها استبدلت فيه الإنسانَ بالله، أصلاً مُؤسِّسًا وغايةً نهائيةً، فألغت بذلك قضيةَ العبودية لله، كما ألغت قضيةَ الاستعداد للآخرة، وكرَّستْ نظريتَها في تأسيس الإجابة عن هذا المطلب بالتشديد على الخضوع لرأي العقل البشـريِّ في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، في السياسة والاقتصاد والقانون والأخلاق والعلم والتربية وغيرها، بما يعود ريعُهُ على تحقيق السعادة الدنيوية حصرًا، هنا والآن.
فجعلت ما ليس بأصلٍ في ذاته أصلاً، وما ليس بغايةٍ في ذاته غايةً، وفاقدُ الشيء لا يعطيه ؛ إذ ابتدأت بالإنسان وهو ليس الأولَ، واختتمت بالدنيا وهي ليست الآخرةَ، فقطعت حبالَ الوصل المشدودة بين أول الحق وآخره، كما يقرِّرُه الدينُ المرتبطُ في أوليته بآمرية الإله، والمرتبطُ في آخريته بالجزاء على الموقف منها.
وقد تمثَّل فشلُ العالمانية في هذا المطلب في كونها قدَّمتْ نفسَها بكونها علاجًا راشدًا للبشـرية، من ضمن مُسلَّماته أنه يتجاوزُ ما تراه عددًا من أغلاط الدين في تدبير الحياة، ومن أهمِّها ما يتصفُ به الدينُ من أوصافٍ سيئةٍ، مثل العنفِ والخرافةِ، وهي تقومُ بذلك بالاستناد إلى العقل البشـريِّ على جهة الاستقلال التامِّ والذي تراهُ على قدر هذه المهمة.
فالمفترَضُ إذًا: أن تستطيع تقديم رؤيةٍ عقلانيةٍ مُوحَّدةٍ من جهةٍ، وخاليةٍ من سيئات وأغلاط الدين من جهةٍ أخرى = هذا الحدُّ الأدنى من المفترَض عليها.
لكنَّ هذا الحدَّ الأدنى من المفترَض على العالمانية لم تنجح في أن تأتي به، لا جزؤه الأول ولا الثاني، مما هدَمَ الثقةَ في صلابة مشروعها، وأصبحت الدعوةُ إلى استحضار ما يُكمِّلُ نقصَها من الدين = دعوةً واردةً، بل واقعةً وبخطاباتٍ مُتنوِّعةٍ سواءً من اتجاهات ما بعد الحداثة، أو الاتجاهات الحداثية.
أما الجزءُ الأول – وهو فشلُ العالمانية في تقديم رؤيةٍ عقلانيةٍ مُوحَّدةٍ – فإنه لا ريب في أنَّ جميعَ الاتجاهات العالمانية يجمعُ بينها قدرٌ منهجيٌّ مُشترَكٌ، وهو اعتمادُ العقل البشـريِّ مصدرًا للتأسيس المعرفيِّ في جميع مجالاته، بما يُحقِّقُ عند هذه الاتجاهات حريةَ الإنسان الكاملة، وسعادته الشاملة.
يقول سمير أمين ( لا شكَّ أنَّ هذه الخطابات الكبرى قائمةٌ على مقولةٍ مُجرَّدةٍ واحدةٍ وهي مقولة التحرُّر.. ومن أجل إنجاز التحرُّر يطرحُ كلُّ واحدٍ من هذه الخطابات مشـروعًا خاصًّا له هو تصوُّره للتحرُّر المطلوب. وتُثبتُ فلسفةُ التنوير علاقةً وثيقةً.. بين مفهومَي العقلانية والتحرُّر، فالعقلانيةُ لا معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرُّر، والتحرُّر مُستحيلٌ دون الاعتماد على العقلانية )[12].
لكن عند التطبيق يُدهشكَ التعارضُ الشديدُ بين هذه الاتجاهات فيما يُوجبه العقلُ البشـريُّ المتحرِّرُ، وهو تعارضٌ يصل إلى درجة التناقض، وذلك في جميع أصول المسائل العلمية والعملية بلا استثناء ! مما يعني أننا أمام مجموعة عقلانياتٍ – أو بالأحرى جهلانياتٍ – لا عقلٍ واحدٍ، كما هو مُفترَض.
ولا أريد التعرُّضَ هنا للمسائل الخلافية بين الاتجاهات العالمانية في أصول مبادئها، ولكني سأشيرُ إليها بأسئلةٍ عامَّةٍ، تكفي في بيان مقصودي، من قبيل: ما الموقفُ من الدولة ؟ ما مصدرُ المعرفة؟ ما الأساسُ الصحيحُ للأخلاق؟ ما المسلكُ المناسبُ في الاقتصاد؟ ما قيمةُ الفنِّ والأدب؟ إلخ….
وكان هذا الموقف العالمانيُّ – أي تنحيةُ الدينِ دون تقديم بديلٍ راسخٍ – سببًا في أن يعيش المجتمعُ الغربيُّ أزمةً حادَّةً في التأسيس، وهي أزمةٌ يمكنُ عَنونتها بأنها:
أزمةُ اللايقين للمعيار البشـريِّ
ولا أصدقَ في وصفها من قوله تعالى ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص:50].
يقول هابرماس في وصف هذه الأزمة ( أما اليوم، فإننا نشهدُ داخل المجتمعات الصناعية المتقدِّمةِ – وللمرة الأولى – فقدانَ الأمل بالخلاص والنعمة هذا الأملُ الذي ظَلَّ ينبعثُ من التقاليد الدينية المستبطَنة في السـريرة حتى بعد الانقطاع عن الكنيسة. وفقدانُ الأمل هذا يبدو ظاهرةً عامَّةً، فللمرة الأولى يبدو السوادُ الأعظمُ من الناس مسجونينَ، بعد أن اهتزَّ عُمْقُ ما كان يُؤمِّنُ هويتهم، في وعي الحياة اليومية التي تعلمنت كُليًّا، وعاجزين عن الاستناد إلى اليقين المؤسسـيِّ أو على الأقلِّ اليقينِ الراسخ في أعماق الذات )[13].
ويقول إدغار موران عن هذه الأزمة ( إننا نعيش في التيَهان، ولن نخرج من الترحال.. مبدأُ اللايقين يضرب في كُلِّ فعلٍ، وبالخصوص في كُلِّ فعلٍ سياسيٍّ.. لن نُقصي اللايقينَ والصدفة، سنتعلَّمُ كيف نعملُ ونتصرَّفُ بهما.. لا وجود ليقينٍ وبالخصوص لا وجود ليقينٍ بالنسبة للأفضل، لكن أيضًا بالنسبة للأسوأ، وفي الليل وفي الضَباب يجبُ علينا أن نُراهن )[14].
وكما قال باومان في وصف مُخيفٍ لهذه الحال (وهكذا يحلُّ الانشغالُ بإعادة تدوير الهوية مَحلَّ الانشغال بالأبدية )[15].
وأما الجزءُ الثاني – وهو السلامة مما نسبته العالمانية للدين من سيئاتٍ – فالشأنُ فيه ليس خافيًا، وأكتفي فيه بالإشارة إلى قضيتين:
الأولى: أن التعصُّب والعنفَ الذي عابتُه العالمانيةُ على الدين لم تسلم منه، بل وقعت في أشدِّ مما وقع فيه الدين بمراحل.
يقول طلال أسد (ربما يعود الشعورُ بأنَّ الأفكار العلمانية تتفوقُ على الأفكار الدينية من حيث عقلانيتها إلى الظنِّ بأن المعتقدات الدينية أكثرُ تصلُّبًا، ولكن ليس ثَمَّةَ من أدلةٍ حاسمةٍ تدعو إلى هذا الظنِّ.. إنَّ الممارساتِ العلمانية بزَّت الممارساتِ الدينية في قسوتها )[16] وبراهينُ ذلك معروفةٌ في التاريخ والحاضر.
وفي كتابه (قصور الاستشراق) بيَّن (وائل حلاَّق) الارتباطَ العُضويَّ المفاهيميَّ بين منهج الفكر الحداثيِّ ومسلكه الإمبرياليِّ، وأنَّ الرابطَ بينهما ليس مُصادفةً عابرةً بل عائدًا إلى فهم هذا الفكر لحقيقة الإنسان والحياة، وموقفه من الطبيعة.
الثانية: أنَّ الخُرافةَ التي عابتها العالمانيةُ على الدين لم تسلم منها، بل أتت بخُرافةٍ مُركَّبةٍ لم يأتِ بمثلِها دينٌ من الأديان، وهي (خُرافةُ التقدُّم).
يقول إدغار موران عن فكرة التقدُّم (.. الإنسانيةُ العلمانية وفلسفةُ الأنوار وأيديولوجيةُ العقل قد بنت على أنقاض العناية الإلهية فكرةً للتقدُّم، وعملت على أقنَمتها، وتشييئها في صورة قانونٍ وضرورةٍ للتاريخ الإنساني.. لقد تصوَّرت النموَّ الصناعيَّ كعاملٍ للتنمية الاقتصادية، والتنميةَ الاقتصاديةَ بدورها كعاملٍ للتقدُّم الإنسانيِّ. وهكذا فالنمو مُقدَّرٌ عليه أن يتقدَّم بلا حدٍّ، وأصبحَ هو الدليلَ والمقياسَ والوعدَ بحُصول تقدُّمٍ شُموليٍّ ولا متناهٍ )[17].
ولا يخفى ما لحق فكرة التقدُّم هذه من انتكاسٍ مُريعٍ على جميع أصعدتها، وما أثارته من المشكلات العميقة , لا في ناحية التقدُّمِ العلميِّ التقنيِّ , ولا في ناحية التقدُّمِ الاقتصاديِّ الاستهلاكيِّ، مما أصبح النقاشُ فيه والنظرُ للخروج منه أحدَ أهمِّ موضوعات علم الاجتماع المعاصر.
وخذ مثلاً على ذلك مجموعةَ الكتب التي وضعها (زيجمونت باومان) في فحص أنواع المفاهيم السائلة في المجتمع الغربي، تبعًا لسقوط خرافة التقدُّم.
والخلاصة أنَّ ( الإدراك العقليَّ لأي مجتمعٍ دنيويٍّ , القائمُ دون الإشارة إلى أيِّ مصدرٍ مُتسامٍ، والمستمدُّ شرعيته تمامًا من تقرير المصير الذاتيِّ للإنسانية بدأ يفقدُ فتنته.. أصبح إفلاسُه مكشوفًا تمامًا.. الثقةُ القديمة في العقلانية العلمانية مُنسحقةٌ)[18] وسببُ ذلك ( عدمُ القدرة الواضحة للعقل في أن يُقدِّم التبرير النهائيَّ والحافزَ للنظام )[18] وهو ما أسماه (مارسيل غوشيه) (مديونيةُ المعنى): أي التبرير الأعلى الذي يجعل الفردَ أو المجتمعَ قابلاً أن يخضع لسُلطةٍ ما ويُطيعها، وانظر مقالته بعنوان (دَين المعنى وجذور الدولة) في كتاب (في أصل العنف والدولة) من ترجمة علي حرب , فهي مهمَّةٌ جدًّا.
وأنبِّهُ في ختام هذه المقالة إلى قضيتين مُهمَّتين:
الأولى: رغم تعثُّر مقولة العلمنة فإن من غير المتوقَّعِ لها أن تندحر قريبًا إذا كان ما يواجهها دائمًا هو الدينُ الفردانيُّ، بل الأرجحُ أنه سيزيد من قوتها، بحيث إنها ستأخذ منه ما لا تجدهُ فيها، مع بقائها مُستأثرةً بفَرْض سلطانها ولا يُوجدُ دينٌ يُقدِّم ُمشروعَ حياةٍ مُتكامِلٍ في زماننا، كفيلٌ بمُنازلة العالمانية = إلا دينُ الإسلام.
والملحوظُ أنَّ الخطاب الدينيَّ الأقوى في العالم كله – من مُختلف الأديان – خطابٌ مسكونٌ بالتقرُّبِ إلى العالمانية وعدم مُصادمَتها، وهو ما يجعل مُهمَّةَ الناهض لمقاومة العالمانية مُضاعَفةً بحيث إنهُ ينبغي عليه نقدُ العالمانية ونقدُ الخطاب الدينيِّ المتمسِكن لها.
الثانية: أنه يجبُ على طالب العلم في زماننا عامَّةً والدارسُ لعلم الاعتقاد خاصَّةً أن يقرأ عن العالمانية حتى يفهمها بدقَّةٍ؛ ويعرفَ اكتساحاتِها المباشرة وترسُّباتِها غير المباشرة في كُلِّ مناحي الحياة؛ ويقفَ على المفاصِلِ الرئيسةِ الكاشفة عن خطرها وضررها ؛ ويضبطَ وُجوهَ نقدها الكُلِّيةِ والتفصيلية؛ لأنها الشيطانُ الأكبرُ لعصرنا، والجهلُ بها جهلٌ بكيفية التمثُّلِ الأقوى للكفر بالله في هذا الزمان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش:
[1] الانتقاد والاعتقاد (ص44) بور ريكور، ترجمة: حسن العمراني، دار توبقال للنشر.
[2] المرجع السابق (ص13).
[3] المسألة الفلسفية (ص16)، محمد عبد الرحمن مرحبا، دار عويدات.
[4] حالة الأزمة (ص86)، زيجمونت باومان وكارلو بوردوني، ترجمة: حجاج أبو جبر، والكلام لباومان الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[5] أسطورة العنف الديني (ص54)، وليام ت.كافانو، ترجمة: أسامة غاوجي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[6] إعادة النظر في العلمانية (ص15)، مجموعة محررين، ترجمة: شكري مجاهد، الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[7] هل النقد علماني ؟ (ص177)، مجموعة مؤلفين، ترجمة: إبراهيم الفريح، جداول.
[8] الفكر الأخلاقي المعاصر (ص13)، جاكلين روس، ترجمة: عادل العوَّا، دار عويدات للنشروالطباعة.
[9] المادية في ذكرى ليو بايل (ص143)، تيري إيغلتن، ترجمة: عبد الإله النعيمي، دار المدى.
[10] منهاج الإسلام في الحكم (ص22 – 25)، محمد أسد، ترجمة: منصور محمد ، دار العلم للملايين.
[11] نصوص حول الموقف من الدين (ص90)، ترجمة: محمد الكبَّة، منشورات الجمل.
[12] ما بعد الحداثة , تحديدات (ص53)، ترجمة: محمد سبيلا وعبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر.
[13] الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي(ص46)، هابرماس، ترجمة: نظير جاهل، المركز الثقافي العربي.
[14] إلى أين يسير العالم ؟ (ص93)، إدغار موران، ترجمة: أحمد العلمي، مقاليد.
[15] الحياة السائلة (ص30)، زيجمونت باومان، ترجمة: حجاج أبو جبر. الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[16] جينالوجيا الدين (ص295)، طلال أسد، ترجمة: محمد عصفور، دار المدار الإسلامي.
[17] إلى أين يسير العالم ؟ (ص34)، إدغار موران، ترجمة: أحمد العلمي، مقاليد.
[18] عصر ما بعد الإيدلوجية (ص17) ديفيد وولش، تر. سامية الشامي، مكتبة مدبولي.
مقالة تتميز بالدقة والوضوح والبعد عن التعقيد المعهود في هذه الموضوعات؛ جزى الله كاتبها خير الجزاء.