- يوسف سمرين
- تحرير: سهام سايح
حين كانت فلسفات الحداثة تعِد النّاس بالتقدّم، وبأنّ العلم سيقضي على الأمراض، ويزيد من وفرة المنتجات وتقضي الأنظمة الاقتصادية الحديثة على الفقر، من هذا الأمل تفاءل كانط حين كتب [مشروع للسّلام الدائم] بين البشر، وبشّر هيغل بالمستقبل حيث ستتحدّ الفلسفات لتشُكِّل غدًا أفضل للبشرية، ذلك الغد الذي اخترق هدوءه أزيز رصاص الحرب العالمية الأولى.
ومن بين بقايا آثار فلسفة هيجل كانت الماركسية ترى أنّ المشكلة تتمثَّل في الأنظمة الرّجعية التي شاركت في الحرب العالمية الأولى، وكلمة مثل [رجعية] كلمة متفائلة حيث تفترضُ أن المحكوم عليه خلاف تلك الأنظمة التي ستكون [تقدميّة] وتضمن التقدم العلمي، الذي يجري معه تقدم أخلاقي، وفكري، والأهم اقتصادي -لا زال هناك من يعطي الأمل- وبحقٍ انسحبت روسيا التي أضحت بلشفية من الحرب العالمية الأولى، بتكلفة كبيرة دفعتها في صلح بريست مع ألمانيا؛ الذي خسرت فيه مناطق من أراضيها لصالح ألمانيا مقابل انسحابها من الحرب، وفضحت اتفاقية سايكس- بيكو، ودعت إلى السلم بين الشعوب، لقد كانت تبشِّر بفجر جديد.
لكن ذلك الفجر أطلّ على الحرب العالمية الثانية، التي بدأت بالرصاص وانتهت بأول استعمال للقنابل الذرية على البشر في 1945، من هنا أعلن ليوتار بأنّ فلسفات الحداثة انتهت في معسكر أوشفيتز [معسكر نازي أباد العديد من البشر لمجرد الاختلاف العرقي بنظر النازية] مدشنةً بذلك فلسفات (ما بعد الحداثة).
ومع حكم ستالين، بدأ الشّك يتسرّب إلى العديد من الماركسيين، هذا الوضع عبّر عنه من الشك، وانهيار النماذج، أو ما اصطلح عليه بانهيار [السرديات الكبرى] عبر عنه ميشيل فوكو حين رأى بأن وظيفته تتمثل في تحطيم العقل الكوني، بمعنى تعطيل الإطلاقات الفلسفية، [العقل الكوني] أي ذلك التعميم لنموذج فكري على الكون، أو معايير أخلاقية مطلقة، لا يوجد صواب واحد في كلِّ العالم بل ما تراه صوابًا، يتَّبع تاريخ وظروف كل مجتمع على حدة، لا يمكنك أن [تحكم] على غيرك، يمكنك أن تصف ما يُفعل، لا أن تحكم عليه من وجهة نظرك، فلا مكان للعقل الكوني، حتى لا يقع العالم بشبح مرعب مرة أخرى، كما سبق من النازية، أو معسكرات غولاغ الاستالينية، ومن هنا قال بعض الفلاسفة: الكل: هو غير صحيح.
صار هناك نفرة من التعميم والحديث عن معايير عالمية، بل وتسرَّب الشك إلى النظرة إلى العلم، وذلك لا يحوي قدرًا كبيرًا من الغرابة بما أنّه لا يمكن إخفاء أنّ الحرب العالمية الثانية قامت على أكتاف العلماء الذين زوَّدوا دولهم بأفتك الأسلحة، وأشدِّها شناعة، وحتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تمّ إعطاء حصانة للعلماء اليابانيين [عدم محاكمتهم بتهم جرائم حرب]، مقابل تسليم أبحاثهم التي أُجريت على البشر خلال الحرب العالمية الثانية إلى الولايات المتحدة، وكذلك نال علماء ألمان الحصانة نفسها مُقابل خدماتهم في الولايات المتحدة، مثل فيرنر فون براون، الذي كان يعمل في برنامج الصواريخ النّازية، ثم نال الحصانة بعد أن بدأ العمل بعد الحرب على برنامج الصواريخ الأمريكية.
ومع إطلالة شبح الحرب النّووية التي وصلت إلى مؤشرات خطيرة، بلغت ذروتها في أزمة [كوبا]، صارت مفاهيم تعزيز السّلام هي الشغل الشاغل للكثير من الفلاسفة، وحتى الأفكار الليبرالية التي جرى بثُّها مرارًا، باحترام معتقدات الآخر، كانت أرضيتها في الواقع والتي باتت مكشوفة: الخشية من الحرب مع الآخر، وبالتالي تُوزع الخسارة على الجميع؛ لم يكن احترامًا لأفكار الآخر بقدر ما كان حديثًا عن شرٍّ يمكن تجاوزه باسم حرِّية المعتقد، لصالح حرية السوق.
لم تكن الليبرالية مُغرية للجميع، حيث بدت زائفة، متصنّعة، متحكِّمة، فعندما تحترم من تخشى منه الحرب، ستسحق من لا تخشى منه شيئًا وبالتالي فليبراليتك لن تكون إلاّ مع القوي، ومن هنا ظهرت العدمية، وانتشرت بين فلاسفة، وكُتاب، عديدون الذين رددوا تلك المضامين؛ سينمائيون، مسرحيون، رسامون، نحّاتون، حيث تهافتت النماذج التي كانوا ينظرون إليها كحلول للبشر وفقَد هذا القطاع الإيمان بأيّ معتقد وأمل وبأيّ معايير للخير والشر، وما إن انهار الاتحاد السوفيتي، حتى بدا الحديث عن القيم شيئًا من مُخلفات [الحرب الباردة]، لقد زال الخطر وجاء الوقت لاحترام أيّ ثقافة كانت، وعدم الحكم على أحد، أو بعبارة أدق: عدم احترام أي ثقافة، وعدم النظر للبشر على أنهم بشر، بل أرقام، فالمهم هو تراكم الثروة، في مطحنة الصراع المفتوح، في الأسواق الحرّة، تعمّم النظام الرأسمالي على العالم، والذي تحرك في إطار فلسفته البراغماتية، قيمة الأفكار بنتائجها الملموسة، لا صدق لها بذاتها!.
وفي عالم كان الحديث فيه عن أخلاق كونية ومعايير عامة قد أضحى غريبًا، استفاق العالَم على أخبار فيروس كورونا 19، الذي أظهر مماطلة العديد من دول العالم المتقدمة اتخاذ إجراءات لحماية مواطنيها حتى لا يحدث ضرر للاقتصاد، وألحَّ الحديث مرة أخرى عن أخلاق كونية وضرورة التعاون بين البشر وعن إجراءات مهمة لأهداف طبيّة مثل النظافة، غسل الأيدي. ليس الموضوع مجرد حدث طبي، بل يُنبئ بالكثير من الأبحاث الخارجة عن التخصص الطبي، على سبيل المثال جرى الحديث حتى عن أكل الخفافيش! لا يمكن للطب أن يقرِّر ما الذي يمكن أن يأكله الناس، وما الذي هو محرّم عليهم، هنا يحتاجون إلى معايير أخلاقية، لا إحداثيات علمية فحسب.
لقد ظهرت ضريبة الأفكار التي جرى تسييج حمايةٍ عليها، باسم حرية الرّأي والمعتقد. كنيسة في كوريا الجنوبية تتلكأ في التعاون مع السلطات فتكون النتائج كارثية في الإصابات، عادات خطيرة مثل لعق الأضرحة والقبور، حرص على طقس التناول من المتزمتين النّصارى، حيث يتناول العشرات من ملعقة واحدة! ولك أن تتخيل ضريبة هذا على المجتمعات عمومًا.
عادت فكرة الإطلاق، أو ما عُبّر عنه بالكونية إلى الواجهة بقوة، مراجعة العادات والتقاليد والأديان التي يمكن أن تتسبب بكوارث للبشرية، بسلوكيات تبدأ (أخلاقية) لا يفطن لمآلاتها كثيرون إلاّ حينما تصبح ظواهر (طبيّة)، وبين هذا وذاك، تجد مفاهيم الإسلام، وفقهه أصيلة في مثل هذه المشكلات المعاصرة، متميّزة عمّا سواها، لا مكان فيه لهذا الإغضاء عن المعتقدات والسلوكيّات لأهداف ربحية، والحال اليوم يؤكد على ذلك المفهوم المذكور في صحيح البخاري:
“مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا“.
فالمعايير الأخلاقية ليست في الإسلام حالة طوارئ تعلن فحسب حين تظهر الكوارث المحسوسة للعديد من السلوكيات للعالم أجمع، والأفكار الباطلة لا حصانة لهَا بحجة الحرِّية، وهي تعبث حتى بمصير من لا يؤمن بها، ولو بعد حين. إنّ حدثًا مثل فيروس كورونا 19، يعيد كثيرًا من مفاهيم الليبرالية إلى موضع النقد، كاشفًا عن معاناتها لأزمة سواء على صعيد تغليب الجانب الرِّبحي، أو عن الضمانات التي تمنحها لمعتقدات كثيرة، فتنفجر في أول أزمة مساهمة في اشتعالها.
مقال ممتاز
متألق كالعادة
مقال مفيد من شأنه اظهار جانبا إسلاميا غير مألوف للدارسين..سلمت يداك
رووووعة ماشاء الله!