عام

أوهام الذاكرة الحزينة

  • عبدالله الوهيبي twitter1
  • تحرير: عبد الله الهندي

 

في عام ٢٠٠٥، أجريت دراسة عن ذكريات الأفراد الشخصية، ضمت ألفَيْ مشارك، أعمارهم تتراوح بين إحدى عشرة سنة حتى سبعين سنة، من الولايات المتحدة وهولندا. وكان من نتائجها: أن الناس لا يذكرون أي شيء تقريبًا قبل سن الخامسة، كما تبين أن أكثر الذكريات رسوخًا هي ما يقع بين سن العاشرة وسن الثلاثين، وأبقاها لدى الجنسين تلك التي تقع عند أواخر المراهقة؛ ربما لكونها تصادف ذهنًا خاليًا فتتمكن. تُعلّق المختصة النفسية والباحثة في شؤون الذاكرة جوليا شو (١٩٨٧م): «هذه هي الذكريات التي تحدد من نكون، والتي جعلتنا ما نحن عليه، وهي الذكريات التي يبدو أننا نقدسها ونتذكرها بوضوح شديد، بصرف النظر عما إذا كانت قد تشوهت من قبل التصورات وتحيزات الذاكرة أم لا». تشكك الباحثة في ثقتنا المبالغ فيها بذاكرتنا الشخصية تجاه الماضي، وتؤكد من واقع خبرتها البحثية «أن كل واحدة من ذكرياتنا -حتى أكثرها وضوحًا- تشتمل على عيوب في التصور وانحرافات من بدايتها».

ومن أبرز الملاحظات الجديرة بالتأمل في طبيعة عملية التذكر نفسها: «ففي كل مرة تُسترجع فيها ذكرى ما فإنها تُسْتَرد بفعالية وتُفْحَص، ثم يعاد تشكيلها من البداية لتخزينها مجددًا. وهذا يكافئ عملية حفظ ملف لبطاقات الفهرسة، وإخراج بطاقة لقراءتها ثم التخلص منها، وبعدها يجري نسخ واحدة جديدة لحفظها في الملف مرة أخرى. ويُعتقد أن هذا ما يحدث في كل مرة نسترجع فيها أي ذكرى»، فكما ترى بعض الدراسات التجريبية أن «كل حدث -في كل مرة يجري تذكره فيها- عرضة للتحريف والنسيان من الناحية الفسيولوجية».

وتشير الباحثة إلى إحدى النظريات التي تفسر لماذا نقع في الوهم والغلط عند استدعائنا لذكريات الماضي؟ وهي نظرية «الأثر الغامض»، وتفترض هذه النظرية: أن أوهام الذاكرة ممكنة؛ لأن كل تجاربنا تُخزَّن في صور شذرات متعددة، وهذه الشذرات يمكن أن يعاد تجميعها بطرق لم تحدث في الواقع قط. ومن جهة ثانية، تؤكد دراسات عديدة -كما تنقل الباحثة في كتابها عن الذاكرة-: أننا نقلل من مقدار ما سننساه، ونبالغ في قدرتنا على معرفة هوية الجناة حال عرض المشتبه بهم… إلخ. وفي مبحث مثير، تسجل الباحثة تجربتها في زرع الذكريات الزائفة عبر تقنيات منهجية على عينة الدراسة، كما تشير إلى دراسات كثيرة تؤكد ذات النتائج في الإمكانية الكبيرة التي يمكن أن نتعرض لها كأفراد ونتبنى -بقناعة تامة- ذكريات شخصية وأحداث محددة لم تقع قط.

يحدد بعض الباحثين بعض تشوهات الذاكرة في:

  • سرعة التلاشي، وشرود الذهن. ربما حدث لك مرارًا أن تدخل غرفة لغرض ما، ثم تنسى ما الغرض الذي دخلت لأجله!
  • الحظر أو المنع؛ وذلك حين تبدو المعلومة على طرف اللسان ومع ذلك تعجز عن تذكرها.
  • العزو الخاطئ؛ فلا تذكر أين سمعت أو قرأت معلومة ما.
  • القابلية للإيحاء؛ فإذا أوحي إليك بطرق ما -يتقنها المختص- بأنك شاهدت شيئًا ما؛ فربما تعتقد حدوث ذلك.
  • تحيزات السياق؛ كالانفعالات والحالات المزاجية وغيرها، فترى بعض الأبحاث: أن الأشخاص الذين يمرون بمزاج اكتئابي= يمكنهم -بسهولة- استرجاع الذكريات المتعلقة بخبراتهم الحزينة، والتي من شأنها أن تكفل استمرارية الاكتئاب، كما أن الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب يجدون صعوبة في تكوين الذكريات.

 

وفي سياق نقد الحقيقة في السير الذاتية -كحقل أدبي-، يشير جورج ماي إلى تعذر قول الحقيقة؛ لعدة أسباب، منها:

أن مؤلف السيرة الذاتية لا يستطيع -مهما فعل أن يتخلص من الحاضر الذي يكتب فيه ليلتحم بالماضي الذي يرويه، إما تبريرًا، أو تفسيرًا، أو أي شكل من أشكال التأثر.

وهكذا، فما لم تبلغ من العمر عتيًا؛ فإن «حياتك تتطور باستمرار (غالبًا)، وإذا ما توليت كتابتها مرات متعاقبة فلسوف تتأمل المشاهد خلفك، وتتولى تركيبها من جديد كي تنسجم مع تحولاتك»، كما يقول الباحث الفرنسي الأبرز في حقل السير الذاتية فيليب لوجون (١٩٣٨م).

ويشير إلى جان بول سارتر (ت١٩٨٠م) -مثلًا- الذي روى ذكريات طفولته مرتين، بفارق زمني بلغ خمس عشر سنة. ففي ١٩٤٠م، رسم سارتر صورة ضاحكة فرحة لطفولته في كتابه [دفاتر الحرب العجيبة]، بينما ظهرت طفولته قلقة ومأساوية في كتابه [الكلمات] عام ١٩٥٤م، وحوّل كل نجاحاته الطفولية إلى هزائم!

كما يؤثر الفقد -مثلًا- (فقد الأحبة، أو الزمان المتخيل الجميل) في المبالغة في تقدير محاسن المفقود، فكما قيل: «الغياب وهّاب»؛ لما يهب من المحاسن للغائبين. كتب جان جاك روسو -بصراحة شفافة- في حديث له عن [اعترافاته]: «كنت أكتبها معتمدًا على الذاكرة، وهذه الذاكرة كثيرًا ما كانت تخونني أو تمدني بذكريات ناقصة، فكنت أسدّ الفراغ بتفاصيل كنت أتخيلها زيادة على هذه الذكريات، ولكني لم أكتب ما يضادها قطّ. وكنت أحب أن أتوسع في وصف أويقات السعادة من حياتي، فكنت أزينها أحيانًا بزخارف تمدني بها عواطف من حنان يثيرها الأسف».

أما ثاني الأسباب: فهو أن المؤلف مضطر اضطرارًا لا مناص له منه إلى أن يفرض على الواقع شكلاً يُشوّهه لا محالة، فهو يفرض نسقًا محدداً يجعل الذكريات متسلسة ومتسقة زمانيًا، ويفضي بعضها إلى بعض بمرور السنين، وقد يفرض تصوراته الذاتية في محيطه الضيق على السياق العام للأحداث. وقد صدق جوليان جرين إذ قال: «إن الروائي الذي يكتب مذكراته (إن صح التعبير في هذا السياق) غالبا ما يميل إلى الربط بين ذكرياته برباط منطقي أمتن مما هو عليه في الواقع، أعني أنه لا يطمئن إلى ما يكتشفه في حياته من فراغات فيسعى إلى ملئها. أما أنا فعليّ أن أعترف بأني لم أحتفظ من شبابي إلا بنتف متفرقة لا أستطيع في كل الأحوال أن أضع بعضها بسبب من بعض».

وهكذا، تجد أن الذاكرة تحتوشها حُزمةٌ وافرةٌ من الثقوب والتحيزات، وتقع قسرًا وباستمرار في العديد من الخطايا والأخطاء، وعلى الرغم أنه ليس بأيدينا إلا أن نعتمد عليها في تدبير هويتنا الذاتية، إلا أن هذه الدراسات تقترح ضمنًا التأني الطويل وخفض الثقة بها، لا سيما في ما يتعلق بذكرياتنا القديمة؛ التي ربما نبني فوقها أنقاضًا أو ناطحات سحاب، وقد يكون أنها لم تحدث -كما نتخيل- أبدًا، أو وقعت بطريقة مغايرة لما تقوله ذاكرتنا، ربما من كثرة استعادتها لم يبق منها إلا ما يدعم واقعنا الحالي، من يدري؟! الأشخاص -كما الدول- تستعين بالتاريخ، وتشوهه وتقطعه -إذا لزم الأمر- لتجعل واقعها الحالي أمرًا مشروعًا ونتيجة منطقية، أو حركة تصحيحية، أو أيا ما يكن. والأسوأ أن تكون تلك الذكريات -غير الموثوق بها- مصدر تعاسة مستمرة، وشعور متكرر بالحزن أو الشفقة على الذات، أو الغضب المكبوت، أو الألم الدفين!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى