- الكاتبة : إليزابيث كنج
- ترجمة: الجراح القويز
- تحرير: ريم الطيار
من الصعب جداً ألا نؤمن بشيء عندما تكون أنفسنا مرتبطة بالإيمان.
في طفولتي، تحدثت بلغات غامضة[1]، وكنت أذهب إلى الكنيسة مع والديّ وأشقائي الخمسة مرتين في الأسبوع، كنت أصلّي قبل كل وجبة، وقبل النوم، وفي أوقات متفرقة من اليوم، كان لدي إيمان بالكتاب المقدس، وكنت أخاف النار، كنت تلك المسيحية المتيقنة والمولودة من جديد، أحب الله بكل ما فيني.
في منتصف مراهقتي تغير كل ذلك حتى أصبحت ما عليه أنا الآن؛ ملحدة، وليس عندي شيء أريد إثباته.
قصة ابتعادي عن الكنيسة تشبه قصص الكثير ممّن ابتعدوا عنها، حينما كان عمري 16 عامًا بدأت تساؤلاتي تكثُر، تساؤلات ليست مجابة من قبل القساوسة الشباب جهلًا أو امتناعًا، كنت أسأل: لماذا من الخطيئة أن تكون مثلي الجنس؟ لماذا يعتبر ضرب الأطفال شيئًا عاديًا؟
ما هو الدليل في الإنجيل على تحريم الجنس قبل الزواج؟ حتى أخبرني قساوسة كنيستي بشكل فظَ بأنهم حتى لو أجابوا عن أسئلتي بالكامل سيكون لدي ذلك الصراع في قلبي بسبب اهتمامي بهذه الموضوعات، بعضهم أشار إلى مقطع من الكتاب المقدس، ولكنه كان مبهمًا، وبعد إصراري أخبروني بأنه يكفي أن أتحلى بالإيمان فقط!
الحقيقة لم أسمع كلامهم، فتدريجيًا بدأت بعدم الإيمان بوجود إله، أو جنة ونار، أو على الأقل ظننت أني كذلك.
وعلى الرغم من إلحادي لعقد من الزمان، دائما كان الإله بطريقة ما يجد طريقًا إلى عقلي، لكنه ليس الإله الذي خلق السموات والأرض الموجود في الإنجيل، بل كان إلهًا يصعب وصفه، قد تكون أفضل طريقة لوصفه أنه كتلك الشخصية التي نشاهدها بالأفلام مرارًا وتكرارًا، أو كتلك الذكريات مع أول أصدقائنا، فهو ليس ملموسا بالشكل المادي، لكنه موجود .
فكرة وجود الله تزعجني، وتجعلني أفكر أني لم أعطي معتقداتي حقها كما يجب علي وكما أحب. ربما من دون وعي أخاف من النار، و أريد الذهاب إلى الجنة عند موتي ، ولكن شعوري بشيء لا أؤمن به يجلب لي الحيرة والإحباط! و الذي يزيد ذلك أن شخصية الله تكون حاضرة غالبًا عندما أكون محبطة مسبقًا.
فدائما إذا كنت أسوّف لشيء، وجاهدت نفسي لأنهيهِ قبل موعده، وبدأت أشعر بالإحباط، أقول: “لماذا يا لله لماذا؟”.
وأيضا عندما يأتي رجل ويظنني لا أفهم، أغضب، وأقول في نفسي: “أقسم بالله. . . “! علما بأني لا أقولها كمزحة، أو لأني أتكلم بلهجة عامية، لكنها عادة لا أكثر، فبعد أن قضيت الكثير من حياتي وأنا أؤمن بالله فأنا أتوقع وجود إجابات لهذه الأسئلة، بالرغم من اعتقادي في عدم وجود إله في السماء ليجيبني، ولكن لا يسعني إلا السؤال!
من الأشياء المريحة لي أنني لست الوحيدة التي أشعرُ بهذا الشعور؛ فوفقا لاستطلاع أجراه مركز “بيو” للأبحاث حول الدين والإلحاد في العام الماضي، كان 8 % من الأشخاص الذين يتعبرون أنهم ملحدون كانوا يؤمنون بالله، أو “بروح عالمية”، صحيح أن النسبة ليست كبيرة، ولكن إذا عرفنا أن الشخص الملحد هو الذي لا يؤمن بوجود إله فهذه النسبة تسلط الضوء على شيء مثير للفضول عن الاعتقاد!
إذا سألني أحد عن إيماني بوجود إله فسأجيب بسرعة، و بشكل مؤكد بالرفض، ولكني سأرسل دعواتي إلى السماء لو كنت في رحلة طيران مضطربة، أو اطلب بصمت أن يحرِس أبناء أخي الصغار آمنين، فأنا مقدرة لوضع بعض الملحدين إذ ليس لديهم نزوع في التعبير عن معتقداتهم.
قد يكون حضور الله في نفسي نتيجة لوظائف العقل البشري الطبيعية، فأدمغتنا تظهر استجابة جسدية لأي نشاط روحي، وفي إحدى الدراسات التي أجريت على راهبات، فرنسيسكانيات، ورهبان تبتيون، وأفراد خمسينيون[2]، أظهروا جميعًا نفس النشاط بعد إجراء مسح للدماغ أثناء الصلاة، أو التأمل، أو التحدث بلغات غامضة؛ ومن تلك الأنشطة تغير تدفق الدم بين فصوص الدماغ المختلفة، مما يعزز وينتج عواطف جيّاشة، وقد عقّب إندرو نيوبيرغ (Andrew Newberg) وهو الباحث الذي أجرى الدراسة بقوله : “يبدو بالتأكيد أن الطريقة التي خلقت بها أدمغتنا سهلت للإنسان التدين، وخوض التجارب الروحانية”.
وأيضا وفقًا لباسكال بوير (Pascal Boyer) الأستاذ الأكاديمي في جامعة واشنطن الموجودة في مقاطعة سانت لويس، يقول في مقال نشر عام 2008 في مجلة (Nature) : أن الأبحاث تشير إلى أن نُظمنا المعرفية تطورت بطريقة تسهل للشخص الاعتقاد، وأن العديد من خصائص أدمغتنا تجعلنا مهيئين للاعتقاد بالأديان، ومن بين النوازع النفسية التي تكمّلها، أو تشبعها المعتقدات الدينية القدرة على الارتباط بشخصيات ليست واقعية أو غير مرئية؛ (كالأصدقاء الوهميين، والأقارب المتوفين)، وأيضا وجود الرغبة في تجنب الخطر، وقدرة الإنسان الفريدة بالحفاظ على هيكل اجتماعي ضخم، وكونه جزء منه.
تشير أبحاث بويير أيضًا إلى “أن الناس يتذكرون بشكل أفضل القصص التي تشتمل على مزيج من الأعمال البطولية الخارقة، والسمات النفسية المعقولة، وهذا ربما يجعل هناك نجاح ثقافي للآلهة والأرواح نابع من تحيز الذاكرة لهذه القصص”.
ويفترض بوير أنه لا يوجد جزء واحد محدد من الدماغ يعتبر هو المسؤول عن المعتقد الديني؛ بل يوجد تداخل لعدة أنظمة معرفية، وهذا يجعل الاعتقاد الديني صوابًا، وسهلَ القبول في العقل البشري، ويوضح نقطة أخرى وهي عندما نختار الإلحاد فإننا نقوم بعمل مضنٍ من أجل مخالفة الاعتقاد الذي تميل عقولنا له، ومصممة لقبوله.
بالنسبة لي اعتبر هذه الفرضية صحيحة؛ لأن الإيمان شعور طبيعي جدًا، والخطوط الحمراء الداخلية حول المنطق، والعواقب الأخلاقية لإيماني لم تبدأ في الظهور إلا عندما قاربت سن الرشد، مما جعلني أبدأ في العمل الصعب للتفكير من خلال معتقداتي.
هذا يعني البحث، والنقاش، والتفكير النقدي؛ حتى فهمت العالم من وجهة نظر إلحادية.
فالأمر لا يقتصر على كونه مهمة عقلية مرهقة؛ بل يعتبر تجربة مؤلمة بالنسبة للأشخاص الذين ينتقلون من الإيمان إلى عدمه.
أنا أتذكّر تلك اللحظة التي أدركت فيها أني ملحدة، وعلى الرغم من معارضتي لعقيدة الكنيسة في وقت سابق، إلا أني لم أدرك ذلك حتى سنتي الأولى في الكلية عندما سألني أحد زملائي في مساق الفلسفة، وكان الموضوع عن ديكارت: “إذا هل أنتِ ملحدة؟” فعدلت جلستي، وأومأت برأسي، وقلت: نعم “أنا كذلك”. كان هذا التعريف بمثابة راحة عظيمة، ولكن يرافقها عبء جديد؛ فمن المؤلم إدراكي أن معتقداتي التي كنت أؤمن بها منذ فترة طويلة الآن تعتبر (في رأيي) خاطئة تمامًا!
أيضًا يؤلمني أنني ربما آذيت آخرين نتيجة إخلاصي الديني، وذلك يجعني أشعر بالخجل والندم، فتلك التأملات ذات المعنى ليست دائمًا سارّة.
حتى في القضايا التي لا تحتمل إلا خيارين مثل: التدين، وعدم التدين، أو وجود إله وعدمه، يوجد فيها اختلافات دقيقة معتمدة على الطريقة التي نؤمن بها، ففي عام 2015 م، ذكر مركز “بيو” للأبحاث أن 89% من الأمريكيين مؤمنين بالله، و 63 % كانوا متيقنين بوجوده من دون شك (وهذا يوضح انخفاض نسبة الأشخاص الموقنين بوجود الله؛ فقد بلغت 71% في عام 2007) ، ووجدت الدراسة نفسها أن 97 في المائة من الأمريكيين معتنقي الأديان يؤمنون بالله؛ وهذا يعني أن 3% ممّن يصنفون أنفسهم أنهم من معتنقيها لا يؤمنون بالله، وأنا كذلك بالرغم من أني ملحدة لا يمكنني منع نفسي عن الصلاة من حين لآخر، ولهذا قد تجد أحدهم على مقعد الكنيسة راكعًا وحانيًا رأسه، ولكن عقله لا يؤمن بوجود قوة عليا “إله”، ولذلك يقولون أن الإيمان غامض.
صراحة لا أعرف ما الذي أفعله مع فكرة وجود الله، ربما لو اكتشفت طريقة أبعد فيها هذه الفكرة سأفعل، ولكن علم النفس لا يساندني في ذلك؛ فبعد أن كنت مؤمنة بالله لسنوات عديدة، ورغم أن دماغي مصمم للإيمان، سأظل عالقة في ظل ذلك الإله، وبينما أنا باقية على لا إيماني، أشعر بأنه لا مناص من قبول أني ملحدة ترافقها فكرة وجود الإله دون أن يؤثر ذلك على معتقدي، ربما أني لا أجد لفهم نفسي بشكل أفضل.
—
[1] تقليد مسيحي بالكلام بلغة غير معروفة يدّعون أنه هبة من الله. المصدر : التكلم بألسنة (المترجم)
[2] حركة تجديدية للطائفة البروتسانتية المسيحية . المصدر : الخمسينية (المترجم)