- مايكل كلون
- ترجمة/ ذيب عبد الله الأكلبي
- تحرير: أمل عربي عبد الوهاب
متى وكيف بدأت؟
في أوائل سبعينيات القرن العشرين بدأت الليبرالية الجديدة، كانت الحكومات الغربية والأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام قد فهمت العلاقة بين الدولة والسوق، وفقًا للإجماع الليبرالي نفسه الذي كان قائمًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أثناء ما يسمى “بالعصر الذهبي للرأسمالية”، توصلت الحكومة ورأس المال واليد العاملة إلى اتفاق مضطرب مفاده: أن الأسواق تنتج الخراب الاجتماعي عندما يترك لها الحبل على الغارب دون تحكم بها. كانت هناك حاجة للدولة لتخفيف عدم المساواة، لتوفير الخدمات الأساسية – من خلال مزيج من الوسائل المالية والنقدية- ولموازنة دورة الانتعاش والكساد الرأسمالية.
بحلول أوائل الثمانينات، تغيرت المفاهيم لدى البريطانيون والحكومات الأمريكية، بالإضافة إلى قطاعات كبيرة من وسائل الإعلام والمثقفين، أعلنوا أن الدولة هي أصل الشرور الاجتماعية، وأن الأسواق الحرة يمكن أن تفعل كل شيء بطريقة أفضل من الحكومة، وأن الأزمات الاقتصادية في الماضي كانت نتيجة لتدخل من الدولة.
“الليبرالية الجديدة”
مصطلح استخدم أولاً في أوروبا ما بين الحربين العالميتين ومن خلال علماء الاقتصاد والفلاسفة البريطانيين لوصف عقيدة اقتصادية تفضّل الخصخصة وتخفيف القيود وصناعة أسواق حرة غير مقيّدة على المؤسسات العامة والحكومية. رأى هؤلاء الفلاسفة أنهم أنصار توجه يُعلي القيم الليبرالية الكلاسيكية في فترة منتصف القرن العشرين، الذي يتعرض فيه العالم إلى تهديد متزايد من سلطة الدولة، تهديد تجسد بشكل واضح في المجتمعات الشمولية مثل ألمانيا النازية وروسيا الستالينية
رأى مؤلفون مثل “لودفيج فون ميزس وكارل بوبر” أن هناك أمل في الليبرالية التي أتى بها كل من “جون ستيوارت ميل وآدم سميث”، واتفقوا مع الفلاسفة القدامى على الشك في قدرة العقل البشري في صنع نظام اجتماعي أخلاقي يعمل بكفاءة. كانوا ملتزمين بعمليات التحرير أو التبادل المفتوح لصنع المعرفة وتوزيع الثروة.
لقد خلق معنى هذا المصطلح جدلاً عظيمًا. تشير كلمة “جديد” عند مفكرين اليسار إلى أن الليبرالية القديمة قد أفرغت من مضمونها الذي أكسبها مصداقية وقابلية.
على سبيل المثال: قامت دراسة حديثة عن آدم سميث بإيضاح مدى ما قام به المفكرون الليبراليون مثل فريدريش فون هايك بالتركيز على احتفاء آدم سميث بالتنظيم الذاتي للأسواق في كتابه “ثروة الأمم”، بينما قام بإهمال محاجته في كتابه الآخر “نظرية المشاعر الأخلاقية” حول أهمية القيم غير الربحية في استدامة النظام الاجتماعي. بالفعل، إيمان النيوليبرالية بإمكان نشوء عالم اجتماعي مبني بشكل كلي على علاقات السوق يميّزها بشكل واضح عن الليبرالية التقليدية، والتي بدورها تشجع الرأسمالية المنضوية تحت منظمات المجتمع المدني واقتصاد يخضع لسلطة الدولة.
قيام فلسفة الأسواق الحرة
هناك روايتان شائعتان عن كيفية قيام فلسفة الأسواق الحرة والحد الأدنى من الحكومة بتحديد السياسات الاقتصادية للولايات المتحدة. بالنسبة “لليمين”؛ بما في ذلك ورثة “ميلتون فريدمان” وأتباعه، انتهى فشل كل من الدولة الاشتراكية ودولة الرفاه الكينزية إلى جعل الانتصار السياسي للأفكار اليبرالية الجديدة أمرًا حتميًّا. وبالنسبة “لليسار”؛ بما في ذلك شخصيات مثل الجغرافي الماركسي “ديفيد هارفي” والصحفية الناشطة “نعومي كلاين”، كانت السياسات النيوليبرالية تعبر عن مصالح رأس المال التي تسللت بشكل منهجي إلى الحكومة لتغيير لوائح ما بعد الحرب.
في كتاب “ أسياد الكون: هايك و فريدمان ومولد السياسة النيوليبرالية”، يصرح المؤرخ الاقتصادي “ستيدمان جونز” بأن هاتين الروايتين المشهورتين خاطئتان وهذه رواية أكثر دقة. لم يكن هذا الانتصار النيوليبرالي بسبب فشل دولة الرفاه، ولا بسبب “خطة ممتازة”. ويبدو أن صعود الليبرالية الجديدة هو نتيجة لسلسلة من التحركات الخاصة من جانب السياسيين والفئات النشطة في المجتمع استجابةً لسلسلة من الصدمات السياسية والاقتصادية التي بدأت في السبعينيات. إن صورة المواجهة الدراماتيكية بين النيوليبراليين ومؤيدي إجماع يسار الوسط بعد الحرب هي إلى – حد كبير-كذبة تروجها الدعاية اليمينية بتكرار والتي يبدو أن اليسار قد قبلها في معالمه الأساسية.
الخطوط الرئيسية لسردية “ستيدمان جونز” هي كما يلي: ظهور الركود التضخمي في السبعينيات وعجز الحكومة الاقتصادية عن تقليل هذا الركود أو معرفة أسبابه، جعل الحكومات اليسارية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة منفتحة أمام بعض التعديلات في السياسة الفنية، المعروفة باسم “النقد”، لمكافحة التضخم. يعتقد مناصرو السياسة النقدية أن السيطرة على عرض النقود يجب أن يكون الوسيلة الرئيسية التي تستخدمها الحكومات لتخفيف تقلبات الاقتصاد الوطني، على عكس وجهة النظر (المستمدة من جون ماينارد كينز) بأن التدخل النقدي والمالي ينبغي أن يستخدم لترويض دورة العمل.
يميل الرعاة الفكريون لهذه السياسات النقدية، “ميلتون فريدمان” وأتباعه في مؤسسة التراث ومعهد أمريكان إنتربرايز وقسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو إلى الإيمان بقوة الأسواق الحرة في تنظيم المجتمع بكفاءة أكبر من الدولة. لكن إذا قبلت إدارتي “جيمي كارتر” الديمقراطية وإدارات “جيمس كالاهان” العمالية، السياسات النقدية وبدأتا في تنفيذها فقد رفضتا فلسفة السوق الحرة.
تطبيق هذه السياسات النقدية أدى إلى ترويض التضخم، ولكنها قامت بتعميق الركود والمساهمة في الإطاحة بالديمقراطيين وحزب العمال. ادعت الحكومتان المحافظتان لمارغريت تاتشر ورونالد ريغان اللتان خلفتا ذلك أن عقلية السوق الحرة الليبرالية الجديدة أنقذت أمريكا وبريطانيا، وأنه ينبغي تنفيذ هذه الأفكار بشكل منهجي لحل مجموعة من المسائل الاقتصادية والاجتماعية القائمة. لقد حصلت الرواية التي تقول إن الليبرالية الجديدة خرجت منتصرة من عجز الكينزية عن التعامل مع الركود على قبول واسع.
في مقابل هذا النظرة المهيمنة، فكك ستيدمان جونز النزعة الليبرالية الجديدة لأساطير اليسار واليمين إلى عدة عناصر منفصلة من الناحية المفاهيمية والتاريخية، والتي قام بإظهارها، لتتناغم بطريقة “محظوظة” في لحظة معينة من التاريخ.
هذه العناصر هي:
أ) شبكة من المثقفين يجمع بينهم الإيمان بقوة الأسواق الحرة، التي تركزت في بادئ الأمر على جمعية مونت بيليرن التابعة لـ فريدريش فون هايك، واستخداموا القوة من خلال مراكز البحوث ذات التوجهات الليبرالية والمحافظة وقسمي الاقتصاد في جامعتي شيكاغو وفرجينيا.
ب) تطوير ميلتون فريدمان لمنهج “النقد” إلى سياسة اقتصادية قابلة للحياة بل ومنافسة للنهج الكينزي السائد.
جـ) الأزمات الاقتصادية في سبعينيات القرن الماضي، بدءًا من انهيار اتفاقية بريتون وودز، إلى صدمات أوبك النفطية والتي بلغت ذروتها في التضخم، والبطالة المرتفعة.
يقتبس ستيدمان جونز من تصريح فريدمان بأن “دور المفكرين […] هو في المقام الأول إبقاء الخيارات مفتوحة، لذلك عندما لا يكون هناك مفر من التغيير بسبب القوة الغاشمة للأحداث يكون هناك دائمًا بديل متاح”. عندما فقدت العقيدة الكنزية مصداقيتها بعد أسوأ أزمة اقتصادية حدثت بعد الحرب العالمية، كان فريدمان جاهزًا بحل فني جذاب. بدورها، كانت شبكة من المثقفين والصحفيين عبر المحيط الأطلسي- شخصيات مثل ادوين فيلنر من The Heritage Foundation وسامويل بريتان من صحيفة The Financial Times وبيتر جاي من قناة BBC – على استعداد للتمييز بين هذه السياسات، ليس فقط من الناحية الفنية، ولكن أيضًا كخيار تاريخي بين دولة الرفاه والسوق الحرة.
لم يكن ظهورها نتيجة لـ “خطة مدروسة”، بل كانت في الواقع سلسلة من الخيارات المحلية – في مواجهة التضخم الثابت وتعيين إدارة كارتر لبول فولكر كرئيس لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في عام 1979، أو القرار المتردد من أنصار السوق الحرة لإحلال سلام غير مستقر مع المحافظين الاجتماعيين – التي أدت إلى انفراج ليبرالي جديد.
يتتبع ستيدمان جونز صعود الليبرالية الجديدة إلى قرار الحكومات ذات الميول اليسارية بتبني سياسات نقدية. توصيفه لهذا القرار ربما كان الجانب الأكثر تميزًا في روايته. لفهم كيف تتحدى حجته ما نعتقد أننا نعرفه عن الليبرالية الجديدة، نحتاج إلى التراجع إلى الخلف وإلقاء نظرة فاحصة.
مناقشات الليبرالية الجديدة على اليسار واليمين:
تعاني -الليبرالية الجديدة – مما أطلق عليه بول كروغمان وآخرون “الأفكار المبعوثة من مرقدها” zombie ideas وهي المفاهيم الاقتصادية التي فقدت مصداقيتها منذ فترة طويلة، لكنها تواصل الزحف. على اليمين، تقضي إحدى الأفكار المركزية تلك بأن تقليل الدولة لتدخلها في الأسواق يؤدي إلى نمو اقتصادي مستدام. إن كنت تؤمن بذلك، فإن صعود الليبرالية الجديدة أمرًا واضحًا. الليبرالية الجديدة هي ببساطة الفلسفة الاقتصادية الناجحة. ولكن لماذا ينبغي لأحد أن يصدق هذا؟ إن الفكرة التي تقول بأن إطلاق العنان للأسواق الحرة يؤدي بعد ذلك إلى أوقات اقتصادية جيدة هي فكرة ما كان ينبغي لها أبدا أن تنجو من الكساد العظيم، وكان يجب بالتأكيد أن تقتل إلى الأبد بسبب الركود العظيم وما تلاه.
في الوقت نفسه؛ اكتشف جيل جديد من الاقتصاديين اليساريين أن إخوانهم التقدميين يعانون من فكرة أخرى خاصة بهم. على سبيل المثال، جادل مايك بيجز مؤخرًا بأن الاقتصاد الماركسي الذي لا يزال يجد جاذبية عند اليسار لديه عيب قاتل. لقد آمن ماركس بنظرية قيمة العمل، وفكرة أن قيمة السلعة مساوية للعمل الذي ينطوي عليها. لقد بنَت أجيال من المفكرين الماركسيين على هذا الأساس لتشكيل صورة للطريقة التي يعمل بها الاقتصاد العالمي. استخدم مفكرون مثل ديفيد هارفي هذه النظرية لإنشاء تفسير متطور لليبرالية الجديدة كرد فعل طبيعي لرأس المال على الظروف المتغيرة. إذا اتفقت مع نظرية هارفي الماركسية، فإنه صعود واضح لليبرالية الجديدة. لكن كما يشير بيغز، فإن المفهوم الكامن وراء النظريات المماثلة لنظرية هارفي قد تم دحضه بشكل حاسم منذ أكثر من قرن من الزمان، ولم يأتِ أحد من قبل برد مقنع على هذا.
بمجرد رؤية التفسيرات غير العقلية للنيوليبرالية هي في الواقع من الأفكار “المبعوثة”، فإن السؤال يصبح مثيرًا للاهتمام حقًا. كيف اتفقت حكومات العالم الغربي على فلسفة السوق الحرة الراديكالية هذه؟ ستيدمان جونز يجيب بأنهم لم يفعلوا ذلك. وما فعلوه هو أنهم قبلوا النظرية النقدية. الفكرة النقدية – الفكرة القائلة بأنه يمكن تلطيف الدورات الاقتصادية من خلال التحكم في عرض النقود – هي فكرة اخترعها النيوليبرالي “ميلتون فريدمان”. يربط كل من اليسار واليمين بين النظرية النقدية والالتزام النيوليبرالي بالأسواق الحرة. ولكن، كما يقول ستيدمان جونز: فإن هذين أمرين مختلفان للغاية، والتاريخ يعتمد على هذا الاختلاف.
مفهوم النظرية النقدية
هي سياسة حكومية للتلاعب بالاقتصاد. فالأسواق الحرة هي الرؤية التي تشجع تحرير الاقتصاد من سيطرة الدولة. إن فهم كيف تم تحديد نهج السياسة التقنية إلى حد ما مع حب الأسواق الحرة يفتح نهجًا جديدًا للتحول الاقتصادي والسياسي الأساسي الآن. فَهم كيف بدأت مقاومة هذه الهوية يسمح لنا بفهم سبب استمرار وجود أكبر فكرة بالية وهي: الميل إلى إلقاء اللوم على الحكومة في كل ما هو خطأ في الاقتصاد.
تبدأ قصة النقد مع الطريقة التي أصبحت بها الأرثوذكسية الكينزية هي المسيطرة على السياسة الاقتصادية في الدول الديمقراطية الناطقة بالإنجليزية. المنطق الأساسي لهذه العقيدة مألوف. أوضح الكساد العظيم ميل الرأسمالية إلى الانهيار بشكل دوري، ولكن المشكلة لم تكن فقط أن الكساد الدوري كما يبدو يزداد سوءًا وأن البطالة الناتجة عنه، تهدد الاستقرار الاجتماعي. بل حتى التعافي في نهاية المطاف لا يمكن الاعتماد عليه لتوظيف السكان بشكل مثمر كما يقول كينز. لقد رأى فجوة أساسية بين الأهداف الاجتماعية والنتائج التي تنتجها الأسواق. من خلال السياسة النقدية الفضفاضة والإنفاق من قبل الدولة يمكن للحكومة التغلب على هذه الفجوة، ويمكننا مواجهة الانخفاض الدوري في الطلب، واستعادة معدل التوظيف بالكامل. ثم، عندما ينبئ الاقتصاد بالتضخم، يمكننا رفع الضرائب وتشديد المعروض من النقود للسيطرة على التضخم.
أدى الإنفاق الشاسع في زمن الحرب إلى تغيير مشكلة البطالة في الولايات المتحدة وأذكى مكانة النهج الكينزي. نهضت “النخبة التكنوقراطية” الكينزية للسيطرة على أدوات السياسة المالية والنقدية، على أمل ضمان ألا تعاني البلاد مرة أخرى من الكساد المدمر. هذا الإيمان الكينزي بسلطة الحكومة في حل المشاكل الاجتماعية مرتبط بأهداف ليبرالية أوسع – الاستثمار في البنية التحتية للبلاد، وإنشاء شبكة أمان للرعاية الصحية، وهزيمة الفقر- التي تتبعها الإدارات الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة. وبينما احتج العنصريون العنيفون ومناهضو الشيوعية على نحو متزايد على هذه البرامج الاجتماعية، حتى قال نيكسون قولته الشهيرة: “عندما يتعلق الأمر بالسياسة الاقتصادية، فإن الجميع يتبعون نظرية كينز”، إلا أن التكنوقراط الاقتصاديين كان لديهم نقطة ضعف. يشير ستيدمان جونز إلى أنه على الرغم من تشكيك كينز في أن إدارة العرض والطلب يمكن أن تصبح علمًا دقيقًا، أصبح ورثته يعتقدون أن التقدم في الإحصاءات منحهم إمكانية الوصول إلى البيانات الاقتصادية الدقيقة في الوقت المناسب، والتي يمكنهم استخدامها بشكل مثالي لضرب انخفاض البطالة وانخفاض التضخم. وقد أثبتت الأحداث في وقت قريب أن ثقتهم كانت مفرطة.
عجز الأرثوذكسية الاقتصادية
في هذه الأثناء، كان ميلتون فريدمان يطور طريقة بديلة لسيطرة الحكومة على الأسواق، طريقة ذات “أهداف أكثر تواضعًا”، وكانت تحركه الشكوك حول قدرة أي إدارة مركزية على جمع معلومات دقيقة ومحدثة حول اقتصاد حديث ومعقد. ورفض فكرة التكنوقراطيين الكينزيين بأنه يمكن للمرء أن يحقق معدل تضخم منخفض وتوفير وظائف، قائلاً: إن التطبيق الحتمي للأدوات المالية الخام لغرض رفع معدل التوظيف من شأنه أن يميل دائمًا إلى زيادة التضخم. حسب اعتقاده، كان من الأفضل قصر السياسة الاقتصادية المركزية على ما يمكنها فعله بشكل جيد وهو السيطرة على التضخم عن طريق التحكم في المعروض من النقود.
لقد أفضى ظهور الركود، والعجز الواضح للأرثوذكسية الاقتصادية عن التعامل معه، إلى إضعاف الكينزيين ورفع المنهج النقدي. لا يبدو أن السياسة الاقتصادية ناجحة، وخلال سير السبعينيات، أصبح الضغط لإحداث التغيير حتمياً. صعد علماء النقد إلى المناصب السياسية الرئيسية، لكن هذا الصعود لم يمثّل استسلام الممارسات الحاكمة من يسار الوسط للإيمان النيوليبرالي في الأسواق الحرة. إن الفكرة التي تقول أن قبول النقد يعني قبول الأسواق الحرة هي مبنية على “خلط قديم للنقد مع مجموعة من الحجج المنفصلة من الناحية النظرية حول التفوق المفترض للأسواق على التدخل الحكومي في الاقتصاد”. للوهلة الأولى، يبدو هذا ادعاء غريبًا، بالنظر إلى وضع فريدمان كمدافع رئيسي عن تفكير السوق الحرة، وحقيقة أن النظرية النقدية – مقارنةً بالكينزية – تمثل طريقة مقيدة نسبيًا للتدخل الحكومي في الاقتصاد. أليس اختيار النقد هو ببساطة شكل من أشكال اختيار حرية أكبر للأسواق؟
لكن في الواقع، كما يجادل ستيدمان جونز، فإن النقد ليس هو نفسه الإيمان النيوليبرالي بالأسواق. إن المذهب النقدي ليس – كما يبدو لصانعي السياسة في السبعينيات – برنامجًا اقتصاديًا حرًا بل إنه برنامج لسيطرة الحكومة على التقلبات الاقتصادية. بالنظر إلى الركود، فإن الاختيار بين النظرية النقدية والكينزية ليس اختيارًا أيديولوجيًا بدرجة كبيرة لكنه اختيار بين أسلوبين لتدخل الدولة في الاقتصاد.
السياسة النقدية: حلول ووجهات نظر
تتمثل حقيقة أن الناس في ذلك الوقت، كان بمقدورهم التمييز بين السياسة النقدية والفلسفة الليبرالية الجديدة في رد فعل فريدريتش هايك الشديد على خطة فريدمان. دافع هايك عن إلغاء العملة القانونية، وإنشاء العملات الخاصة التي تعتمد على السوق. من الاتجاه الآخر، يمكن للحكومات من الحزب الديمقراطي وحزب العمال الذين لا يهتمون بتحرير الأسواق من الحكومة أن يتبنوا حلول السياسة النقدية دون الاعتقاد بأنهم يعترفون بإفلاس دولة الرفاهية. كما يدعي ستيدمان فالتفسير الأخير كان ينظر بدقة للماضي. وهو يقول إنه لو لم تجري أحداث مثل أزمة الرهائن الإيرانية، فإن قصة الاستسلام والفشل الليبرالية ربما لم تكن صالحة مطلقًا لتبرير تطبيق السياسات النيوليبرالية الحقيقية في الثمانينيات والتسعينيات.
إن تاريخ ستيدمان الدقيق يقدم لنا سردًا جديدًا حقيقيًا لظهور الليبرالية الجديدة من خلال إظهار أن الصلة بين النقد والأسواق الحرة لم تكن واضحة – لقد نشأت في نيران الأيديولوجية المحافظة. لكن هناك عيب في تحليله التاريخي يمنعه من رسم الآثار الكاملة لهذه الحقيقة. ويظهر هذا الخلل في خاتمته، عندما يرفض الرغبة في السوق الحرة باعتبارها وهمًا ويدعو إلى الاستجابة إلى “صوت العقل” في السياسة الاقتصادية. يجد نداؤه أصداء كثيرة عند مراقبي يسار الوسط اليوم في المشهد السياسي. ولكن في الوقت الذي يعتبر فيه ستيدمان جونز الحماس للأسواق الحرة أمرًا لا يمكن تفسيره بشكل أساسي، فإن الإيمان الذي لا حدود له بمنطق السوق الحرة يواصل التدفق في القصة التي يرويها، مما يقوض جهوده لتقديم صعود الليبرالية الجديدة بصفتها نتيجة للقرارات المنطقية.
يمكن للمرء أن يتعاطف بسهولة مع تقييمه للرغبة في السوق الحرة. لا يبدو أن لهذا الحماس سبب واضح. يبدو أن كل حدث تاريخي يقلل من هذا الحماس – من ظهور الكساد العظيم في ظل سياسات عدم التدخل، وحتى ظهور العصر الذهبي للرأسمالية في ظل الكينزية، إلى الذعر المالي في عام 2008 م تحت إلغاء القيود التنظيمية؛ ومع ذلك، فهو يقر بأن النجاح المحافظ في تأطير القصة الاقتصادية في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات باعتباره انتصارًا للأسواق على الدول، على سبيل المثال، استند إلى الحماس الواسع والعميق الموجود في الشعوب للأسواق الحرة. ستيدمان جونز لا يفسر السبب.
والأكثر إثارة للقلق هو أن حب الأسواق الحرة لن يبقى في القطاع السياسي الصحيح. في فصله حول سياسة الإسكان النيوليبرالية، على سبيل المثال، يتناقض مبدئيًا مع التركيز المحافظ النيوليبرالي على أحقية ملكية منزل عائلي منفصل في الضواحي مع الرؤية الحضرية اليسارية لجان جاكوبز. لكنه سرعان ما يوحي بأن فكرة علاج العلل الحضرية مع “مناطق المشاريع” في السوق الحرة كانت مستوحاة من الرؤية المضادة للتخطيط التي أتى بها جان جيكوبز. يخرج المرء من كتاب “أساتذة الكون” بالانطباع المقلق بأن العديد من اللاعبين في قصته – على كلا الجانبين من الطيف السياسي- يستعدون بطريقة أو بأخرى إلى التحمس حول آفاق الأسواق الحرة. هذا لا يقوض بالضبط روايته للانتصار السياسي لليبرالية الجديدة، لكنه يغير من إحساسنا بالسياق الاجتماعي والثقافي لهذا الانتصار بطرق يعترف بها الكتاب بشكل عابر فقط.
يوضح لنا ستيدمان جونز الفجوة بين التلاعب النقدي في الاقتصاد والالتزام بالأسواق الحرة. قد يجادل المرء أن هذه الفجوة اليوم معروفة على نطاق واسع أكثر مما يعترف ستيدمان جونز. علاوة على ذلك، الشكوك حول الافتراض الذي يقول بأن النقد هو حل تستخدمه “السوق الحرة” للأزمة الاقتصادية ينطبق على السياسات النيوليبرالية الأخرى التي يقال إنها تعزز التبادل الحر. كثير من اليساريين، واليمينيين، رأوا أن ما تم تسويقه كسياسة سوق حرة من قبل ريجان وتاتشر كان في الواقع، شكلاً من أشكال التلاعب الحكومي. الكثير من المقاومة السياسية خلال العقود الثلاثة الماضية ركزت على المسافة بين عالم اجتماعي منظم بشكل حقيقي على التبادل الحر، وبين أشكال من الرقابة الحكومية التي تم ربطها مع الأسواق الحرة من قبل الإدارات النيوليبرالية المتعاقبة. الشعور بهذه المسافة مكّن الناس من أقصى اليمين واليسار على حد سواء أن يزعموا، وحق لهم ذلك، بأن ثورتي ريجان وتاتشر كانتا مبنيتان على الأكاذيب، وأن صعود الليبرالية الجديدة لم يشهد على تراجع الحكومة، بل على تغوّلها بخبث في الاقتصاد.
محاولة اسقاط ومقاومة
زعم ميتشيل هارت وأنطونيو نيغري أن شعار “أسقطوا الحكومة المتسلطة” الذي أطلقه اليساريين ويافطات مثل “انهوا مجلس الاحتياطي الفيدرالي” التي ظهرت في مسيرات حركتي “احتلوا” و “حزب الشاي” إنما هي إشارات لوجود إيمان بأن التبادل الحر لم ينتصر بعد على الدولة. إن كتابًا في التاريخ السياسي مثل كتاب ستيدمان جونز لا يدّعي ولا يجب عليه أن يدّعي أنه قادر على تحديد شكل يوتوبيا السوق الحرة الشعبية، وتحليل لماذا تكون فكرة السوق الحرة جاذبة بشكل كبير، أو تتبع مسارات ميولها الثقافية. مع ذلك، فإنه يتركنا مع الكثير من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها لتبرير صرفه النظر في الأمر بكونه جنونًا.
قد لا نستنتج جيدًا أن أيديولوجية السوق الحرة قد غمرت اليسار، ولكن تلك المقاومة للرأسمالية الموجودة بالفعل والتي تتخذ الآن شكلاً لا يمكن مواجهته في المواقف السياسية في بدايات فترة ما بعد الحرب. على كلٍ ربما يكون جين جاكوبز مختلفًا عن ميلتون فريدمان. ربما يكون هناك رؤيتان للسوق الحرة، اليسار واليمين، وسوف ننظر ذات يوم إلى فترة ما بعد الحرب على أنها فترة ظهور شكل جديد من أشكال الصراع الأيديولوجي. في الوقت الحالي، إن حجم المشكلة لا يُرى إلا خلال التشوهات التي تظهر في كتاب تاريخٍ رصين مثل هذا الذي بين أيدينا.
اقرأ ايضاً: الحياة العصرية سبب الصراع السياسي